يرجع أغلب المحللين الإسرائيليين "فشل" جيش الاحتلال في حرب غزة إلى الأداء السيئ للموساد والمخابرات العسكرية في توفير معلومات دقيقة عن استعدادات حماس العسكرية، فمن هو رئيس الموساد الجديد الذي اختاره نتنياهو؟
فحتى قبل التوصل إلى وقف إطلاق النار والذي دخل حيز التنفيذ فجر الجمعة 21 مايو/أيار، كان هناك إجماع داخل الدوائر الإعلامية والسياسية والعسكرية في إسرائيل على أن حماس قد انتصرت بالفعل في هذه الحرب، التي استمرت 11 يوماً، والتي سعى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى إطالة أمدها على أمل تحقيق انتصار ما، لكنه فشل ورضخ في النهاية للقبول بوقف إطلاق النار.
وتعرّض جهاز الاستخبارات الخارجي في إسرائيل، أو الموساد، إلى حملة عنيفة من الانتقادات والسخرية بسبب الفشل في تقديم صورة دقيقة عن القدرات العسكرية التي تمكنت فصائل المقاومة الفلسطينية -وبخاصة سرايا القسام الجناح العسكري لحركة حماس- من تطويرها وامتلاكها منذ الحرب الأخيرة على القطاع المحاصر تماماً عام 2014.
الكشف عن اسم رئيس الموساد القادم
وفي هذا السياق نشرت صحيفة Haaretz الإسرائيلية تقريراً كتبه يوسي ميلمان، المحلل الأمني والاستخباراتي حول الرئيس القادم للموساد، والذي سيتولى منصبه خلفاً ليوسي كوهين، الرئيس الحالي للموساد، الذي تنتهي ولايته بنهاية مايو/أيار الجاري.
وبحسب يوسي ميلمان، سيكون الرئيس القادم لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي الموساد هو ديفيد برنيع، الذي سُمِحَ بإعلان تعيينه، الإثنين 24 مايو/أيار، عقب مشاورات بين رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والمدعي العام أفيخاي مندلبليت، ورئيس الموساد المنصرف يوسي كوهين.
وكان نتنياهو قد لمح في 15 ديسمبر/كانون الأول الماضي إلى تعيين برنيع ليحل محل كوهين، الذي سيتنحى في الأول من يونيو/حزيران المقبل، بعد 5 سنوات ونصف على رأس الموساد.
وعلى مدار العقد الماضي، كانت إسرائيل قد ركَّزت انتباهها عسكرياً على الجبهة الشمالية، أي حزب الله اللبناني والصراع مع إيران، بينما اعتُبِرَت غزة جبهة ثانوية يمكن التعامل معها من خلال الإجراءات الاقتصادية، ومن خلال تسهيلات معينة لحصار غزة، مثل السماح بدخول مواد البناء، ومن خلال استثمار الجيش الإسرائيلي في الإجراءات الدفاعية، أولاً وقبل كل شيء منظومة القبة الحديدية وحاجز الأنفاق تحت الأرض على حدود غزة، وهو الحاجز الذي أثبت نفسه بإحباطه محاولات من جانب حماس للتسلل إلى إسرائيل براً، وفقاً للتقارير الإسرائيلية.
وكان يُنظَر إلى حماس في الأروقة العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية باعتبارها جاراً سيئاً، لكنَّه ضعيف ومعزول، وكانت المسألة الوحيدة التي تثير اهتمام الرأي العام الإسرائيلي هي النقاش الدوري حول عودة الأسرى الإسرائيليين وجثث جنود الجيش الإسرائيلي.
من هو ديفيد برنيع؟
وبحسب تقرير ميلمان، برنيع شخص في الخمسينيات من عمره، ويعيش بمنطقة شارون، شمالي تل أبيب، وقد أدى خدمته العسكرية بوحدة عمليات القوات الخاصة "سييرت متكال"، التي تُعَد من وحدات النخبة، وانضم إلى الموساد قبل نحو 30 عاماً، وهناك أصبح "ضابط حالة".
وانضم بعد فترة تدريب إلى وحدة "تسوميت"، وهو القسم المسؤول عن تحديد العملاء وتجنيدهم والتعامل معهم داخل الموساد، وهناك أمضى كامل مسيرته المهنية باستثناء عامين قضاهما نائباً لرئيس وحدة "كيشيت"، وهي القسم المسؤول عن مراقبة واختراق الأهداف، وعُيِّن نائباً لرئيس جهاز الموساد ككل في 2018.
ويصف كبار مسؤولي الموساد برنيع بأنَّه إصلاحي منفتح على التعديلات الهيكلية والتنظيمية والمهنية، وأنَّه شخص لا يتمسك بأساليبه وليس محافظاً.
جنَّد برنيع حين كان في وحدة تسوميت عملاء من مختلف أنحاء العالم على صلة بالمسائل ذات الأولوية الأعلى لدى الموساد: إيران وحزب الله، الحزب اللبناني، وتصفه شخصيات كبيرة سابقة في جهاز الاستخبارات بأنَّه نزيه وأمين، بحسب التقرير الإسرائيلي.
كانت مسيرته المهنية مشابهة إلى حدٍّ كبير لمسيرة يوسي كوهين، الذي سيخلفه. إذ بدأ كوهين أيضاً كضابط حالة، وأصبح لاحقاً رئيساً لوحدة تسوميت، وكانت إحدى العمليات الكبرى التي نُسِبَت إلى الموساد العام الماضي، حين كان برنيع نائباً لرئيس الموساد، هي عملية الاغتيال الجريئة لمدير البرنامج النووي العسكري لإيران، محسن فخري زادة، في 27 نوفمبر/تشرين الثاني.
العودة للعمل السري
وتفيد تقديرات كبار المسؤولين في الموساد وأجهزة أخرى أنَّ برنيع سيعاود جعل الموساد منظمة متوارية عن الأنظار، تتجنَّب الرأي العام والغطاء الشخصي اللذين ميَّزا حقبة يوسي كوهين، وستكون إحدى مهمات برنيع الرئيسية هي تقديم صورة استخباراتية دقيقة لنتنياهو، في حال ظلَّ رئيساً للوزراء، حتى لو لم يَرُق ذلك لنتنياهو.
ستكون إحدى الأولويات كذلك تحسين العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة خلال ولاية الرئيس جو بايدن، وبين الموساد ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) على وجه الخصوص.
ويمكن افتراض أنَّ أجندة الموساد، الذي يبلغ عدد موظفيه نحو 7 آلاف، لن تتغير. إذ ستظل المساعي لجمع المعلومات عن البرنامج النووي الإيراني ولإحباط جوانبه العسكرية، إن دعت الحاجة، هي الأولوية الأولى.
هذا بالإضافة إلى جمع المعلومات الاستخباراتية، وإحباط أنشطة حزب الله في إسرائيل وغيرها والعمليات الخاصة ضده، وجمع المعلومات الاستخباراتية عن خطط حركة الجهاد الإسلامي لمهاجمة الأهداف الإسرائيلية، وحماية المؤسسات اليهودية حول العالم، وإقامة علاقات أوثق مع أجهزة الاستخبارات والبلدان والمنظمات الأخرى، التي لا تملك إسرائيل علاقات دبلوماسية معها. ويملك الموساد الآن علاقات مع 150 جهة.
ومع أنَّ الموساد جهاز استخبارات تتمثل مهمته الأساسية في جمع المعلومات من خلال العملاء -الاستخبارات البشرية- فإنَّه استفاد على مدى العقد ونصف العقد الماضيين بشكل متزايد من التكنولوجيا والحرب الإلكترونية. ويبدو أنَّ التوجه نحو ما يُسمَّى "HUGINT" -وهو مزيج من الاستخبارات البشرية واستخبارات الإشارة- سيستمر.
ويعتزم برنيع أن يعين شخصاً ما يمكن تعريفه باسم "إ" ليكون نائباً له بعد فترة قصيرة من توليه المنصب. و"إ" هذا هو مهندس ميكانيكي حاصل على تدريب، وكان نشاطه العملياتي في الغالب ضمن وحدة "كيشيت".
ومن المتوقع إقامة حفل وداع بمقر الموساد يوم 31 مايو/أيار، أي قبل يوم واحد من تولي برنيع، على شرف يوسي كوهين، وسيحضره بضع مئات من الضيوف.
ويأتي رفع حظر النشر عن تعيين برنيع بعد عريضة قدمها الصحفي كاتب هذا المقال ضد رقابة الجيش الإسرائيلي، على أساس أنَّه لا يوجد مبرر أمني للحظر، الذي تقول العريضة إنَّه يمثل انتهاكاً لسابقة قانونية في عام 1996، ووفقاً لهذه السابقة يُعَد اسم رئيس الموساد مسألة معرفة عامة منذ لحظة تعيين رئيس الجهاز الاستخباراتي.
يوسي كوهين مهندس التطبيع
وترسم هذه المعلومات بشأن برنيع وتوجهاته في العمل الاستخباراتي صورة مغايرة تماماً عما رشح من معلومات وتقارير حول أداء سلفه يوسي كوهين، الذي يشار إليه بأنه مهندس اتفاقيات التطبيع التي دشنها التطبيع الإماراتي في صيف العام الماضي.
واليوم الثلاثاء، 25 مايو/أيار، استغل نتنياهو المؤتمر الصحفي الذي عقده مع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، كي يؤكد على أن أهداف حكومته تتمثل في استئناف توقيع "اتفاقيات السلام مع الدول العربية والإسلامية"، وهو ما يطرح تساؤلات بشأن ما يمكن أن يقدمه برنيع في هذا الشأن، مقارنة بالدور الذي لعبه كوهين من قبل.
النقطة الأخرى تتعلق بالتوقيت الذي يتولى فيه برنيع منصبه، وبالتحديد الموقف الداخلي المتمثل في هشاشة وقف إطلاق النار الذي بدأ فجر الجمعة الماضية، خصوصاً في ظل عودة اقتحامات المستوطنين المتطرفين للمسجد الأقصى منذ الأحد الماضي، بعد أن أوقف نتنياهو قرار حظر السماح لهم بتلك الاقتحامات، وكيف يمكن أن تتطور الأمور على الأرض في هذا السياق.
كما تُواصل إسرائيل حملة اعتقالات واسعة بحق الفلسطينيين، سواء في الأراضي المحتلة في الضفة الغربية والقدس أو داخل الخط الأخضر نفسه، بحق فلسطينيي الداخل، انتقاماً منهم على توحدهم في رفض العدوان الإسرائيلي عليهم طوال الفترة الماضية.
هذه الأجزاء ترسم صورة معقدة تجعل من بداية تولي رئيس الموساد الجديد منصبه محطة صعبة، لن يحسد عليها يوسي كوهين على الأرجح، بحسب المحللين.