يبدو أن"حصن صهيون" الذي تتفاخر إسرائيل قد فشل في مهمته، بعد أن حاولت ترويجه كنموذج على تقدمها العسكري والاستخباراتي.
وحصن صهيون هو موقع قيادة جديد للجيش الإسرائيلي في أعماق الأرض تحت مقره في قلب تل أبيب. وهي مصممة لقيادة نوع الحروب الجوية عالية التقنية التي حلَّت محل الغزوات البرية التي تُخاض بالدبابات وكتائب المشاة، بعد أن أصبح الجيش الإسرائيلي يتجنب خوض معارك برية بعد خسائره في حرب 2014.
واستغرق تصميم موقع حصن صهيون 10 سنوات. وحُفِر على عمق كبير تحت الأرض، وهو محمي من مجموعة متنوعة من التهديدات، بما في ذلك الهجمات النووية. ولديه ما يكفي من الطاقة والغذاء والماء للعمل حتى لو لم يتمكن شاغلوه من الخروج إلى سطح الأرض لفترة طويلة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
على جدار مغطى بشاشات ضخمة، ظهر رسم تخطيطي ثلاثي الأبعاد لمبنى شاهق حُدِّدَت إحدى شققه باللون الأحمر. وعلى شاشة أخرى، حلّق بث فيديو مباشر من الجو فوق مبنى في غزة يشبه إلى حد كبير المبنى الموجود في الرسم التخطيطي.
وشهد الصراع الأخير مع الفلسطينيين استخدام المنشأة المترامية الأطراف للمرة الأولى في زمن الحرب. وكانت أيضاً المرة الأولى التي يسمح فيها الجيش الإسرائيلي للصحفيين الأجانب بدخول واحدة من أكثر المنشآت تحصيناً وسرية في البلاد؛ في محاولة لإبراز براعة إسرائيل العسكرية والتكنولوجية وفي الوقت نفسه مواجهة الانتقادات بشأن الخسائر في صفوف المدنيين، حسب تقرير The New York Times .
البشر تحولوا إلى مجرد أرقام
ومن داخل حصن صهيون، أشرف الجيش الإسرائيلي على آلاف الهجمات على قطاع غزة، معظمها من الجو، لكن شملت أيضاً هجمات من البحر والبر. ويقول القادة الإسرائيليون إنهم ألحقوا أضراراً جسيمة بحركة حماس التي تسيطر على غزة، بينما يتهم السياسيون الإسرائيليون رئيس الوزراء الإسرائيلي بالفشل في هذه الحرب.
وتسببت هذه الهجمات أيضاً بخسائر فادحة في صفوف المدنيين الفلسطينيين. ويقول مسؤولون فلسطينيون إنَّ من بين القتلى الفلسطينيين البالغ عددهم 248 فلسطينياً، سقط 66 طفلاً. وأدى هذا العدد إلى إثارة احتجاج دولي وضغوط على إسرائيل من حليفتها الوثيقة، الولايات المتحدة، لإنهاء الأعمال العدائية. كما تسبب الهجوم الإسرائيلي في دمار واسع النطاق للمباني والبنية التحتية الأخرى في قطاع غزة الفقير بالفعل؛ مما أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية المستمرة منذ فترة طويلة.
وبُنِي مركز القيادة هذا للعمليات التي تعتمد اعتماداً كبيراً على المعلومات الاستخبارية وتُنفَذ من الجو أو من مجموعات صغيرة من القوات الخاصة. ويعمل على تجميع المعلومات من الوكالات المختلفة في قاعدة بيانات واحدة وترجمتها إلى مصطلحات عملياتية.
وحصن صهيون مكان يُقَاس فيه الناس بعدد الأهداف المُعتمَدَة- من مستودعات وأنفاق وأسلحة يمكن للجيش الإسرائيلي مهاجمتها. وعندما يوافق أحد كبار الضباط على واحدة من هذه الأهداف، يُضَاف إلى "دفتر الأهداف" الذي يراجعه رئيس الأركان مرة واحدة شهرياً، حسب تقرير The New York Times.
حصن صهيوم شاهد على الفشل الاستخباراتي
ورغم الدعاية الإسرائيلية لهذا المركز الذي يعتمد على المعلومات الاستخباراتية بالأساس، فإن أغلب المحللين الإسرائيليين يرجعون "فشل" جيش الاحتلال في حرب غزة إلى الأداء السيئ للموساد والمخابرات العسكرية في توفير معلومات دقيقة عن استعدادات حماس العسكرية.
فحتى قبل التوصل إلى وقف إطلاق النار والذي دخل حيز التنفيذ فجر الجمعة 21 مايو/أيار، كان هناك شبه إجماع داخل الدوائر الإعلامية والسياسية والعسكرية في إسرائيل على أن حماس قد انتصرت بالفعل في هذه الحرب، التي استمرت 11 يوماً، والتي سعى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى إطالة أمدها على أمل تحقيق انتصار ما، لكنه فشل ورضخ في النهاية للقبول بوقف إطلاق النار.
مما يظهر فشل إسرائيل الاستخباراتي أن الجيش الإسرائيلي فوجئ بقدرات الصواريخ لدى المقاومة الفلسطينية، حتى إنه لم يكن يعلم أن "حماس" لديها صاروخ يمكن أن يصل إلى منطقة إيلات حتى يتم استخدامه، حسبما نقلت صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية عن خبيري الصواريخ عوزي روبين، وتال إنبار.
وتعرّض جهاز الاستخبارات الخارجي في إسرائيل، أو الموساد، إلى حملة عنيفة من الانتقادات والسخرية بسبب الفشل في تقديم صورة دقيقة عن القدرات العسكرية التي تمكنت فصائل المقاومة الفلسطينية– وبخاصة سرايا القسام الجناح العسكري لحركة حماس- من تطويرها وامتلاكها منذ الحرب الأخيرة على القطاع المحاصر تماماً عام 2014.
ويأمل الإسرائيليون أن يعالج رئيس الموساد القادم ديفيد برنيع، هذا الفشل عندما يتولى منصبه خلفاً ليوسي كوهين، الرئيس الحالي للموساد، الذي تنتهي ولايته بنهاية مايو/أيار الجاري.
قادة حماس هم الهدف الرئيسي، والقصف للتنفيس
وعلى مدى العقدين الماضيين، أصبح المزيد والمزيد من هذه "الأهداف" أشخاصاً- مثل كبار قادة حماس.
ويبدو أن الجيش الإسرائيلي لا يأبه إلى الانتقادات الموجهة لتكتيكاته، والخسائر التي أوقعها في الأرواح البريئة، التي قوبلت بالإدانة من داخل البلاد وخارجها.
من جانبه، قال رئيس فرع الأهداف التابع لشعبة المخابرات، الذي عُرِف باسم المُقدِّم "س." لأنَّ الجيش الإسرائيلي لا يسمح بذكر أسماء ضباط المخابرات في وسائل الإعلام الإخبارية، إنه لا يعتقد أنَّ الجنود أصبحوا قساة القلب لأنَّ الناس اختُزِلوا إلى مجرد "أهداف".
وتنقل صحيفة The New York Times عن الجنرال نيتسان ألون، مدير العمليات السابق للجيش الإسرائيلي، قوله إنه يدرك أنَّ البقاء على مسافة من ساحة المعركة ومعاملة الناس على أنهم "أهداف" يمكن أن يخلق حالة لا مبالاة بحياة البشر.
ورغم محاولات الدعاية الإسرائيلية إظهار الجيش الإسرائيلي أنه يحاول تقليل الخسائر المدنية، إلا أن الواقع يشير إلى أن جزءاً كبيراً من القصف الإسرائيلي كان بلا جدوى عسكرية، بل كان أحياناً تنفيساً عن الغضب، رغم كل التكنولوجيا المتوفرة داخل حص صهيون.
فعلى سبيل المثال، كشف طيار حربي إسرائيلي، أن تدمير الأبراج السكنية خلال العدوان على قطاع غزة كان طريقاً للتنفيس عن إحباط الجيش، بعد فشله في وقف إطلاق الصواريخ من القطاع على المدن المُحتلة، والذي شكّل ضغطاً على جيش الاحتلال وحكومته.
جاء ذلك في حوار أجرته القناة الـ(12) الإسرائيلية الخاصة، مع عدد من الطيارين الذين شاركوا في نسف 9 أبراج سكنية في غزة، بما فيها برج الجلاء الذي كان يضم مكاتب إعلامية.
وتُقدِر إسرائيل أنها دمرت ما بين 15 و20% من ترسانة حماس الصاروخية وبعض منشآت إنتاج الأسلحة. وتزعم أنها قتلت نحو 200 من نشطاء حماس وقضت على 30% من الأنفاق الموجودة تحت غزة.
ولكن الطيار الإسرائيلي الذي رفض ذكر اسمه أقر بأن قوات الاحتلال لم تنجح في إيقاف إطلاق الصواريخ، ولم تنجح في المساس بقادة فصائل المقاومة، "ولذلك كنا نسقط الأبراج"، وفق تعبيره.
الطيران الحربي الإسرائيلي كان قد أسقط خلال العدوان الأخير على غزة 9 أبراج، بدعوى أنها كانت تستخدم كـ"بنى تحتية عسكرية"، من بينها برج الجلاء الذي يضم مقرَّي "شبكة الجزيرة" ووكالة "أسوشيتد برس" في غزة، ولم تقدم إسرائيل أدلة على مزاعمها.
آلاف الجنود والضباط
وخلال الأوقات العادية، يعمل ما بين 300 و400 جندي على مدار الساعة في حصن صهيون، وفقا لما ورد في تقرير The New York Times.
لكن عندما قررت إسرائيل شن هجومها الجوي على غزة، انضم الآلاف من المقار العسكرية فوق الأرض إلى المخبأ. وكان من بين الحاضرين أيضاً أعضاء من وكالات المخابرات مثل الموساد والشين بيت- وكالة المخابرات الداخلية الإسرائيلية- وممثلي وزارة الخارجية والشرطة.
وعلى مدار 10 أيام، قاد هؤلاء العمليات من داخل الوكر، ونادراً ما غادره معظمهم.
وداخل مركز القيادة، حُشِد نحو 70 شخصاً على مستويات مختلفة حتى يتمكن الجميع من رؤية الشاشات على الحائط. كان معظمهم يرتدون زياً عسكرياً وكانوا تحت سن 25 عاماً، بينما كان معظم من لا يرتدون الزي العسكري أكبر سناً.
وعُرِضَت داخل حصن صهيون أيضاً خريطة بمواقع القوات البرية والطائرات العسكرية في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
في الساعات التي سبقت وقف إطلاق النار بقليل، كان من الواضح أنَّ إسرائيل حريصة على توجيه ضربات نهائية قوية إلى حماس. وتتبعت إحدى الشاشات إطلاق صواريخ من غزة وضربات محتملة على كيبوتس (مستوطنات زراعية وعسكرية) في جنوب إسرائيل.
وفي الساعة الثانية صباحاً، كرر القائد الأمر الذي أصدره رئيس الأركان بوقف الأعمال العدائية. لكن لم يعد أحدٌ إلى منزله؛ فقد ظل الموقع في حالة تأهب قتالي إلى أنَّ تقرر إسرائيل أنَّ وقف إطلاق النار الهش سيستمر.
وقال اللواء أهارون هاليفا، مدير العمليات الحالي للجيش الإسرائيلي: "على مر السنين، تغيرت احتياجات الجيش الإسرائيلي".
فقد تراجعت الحروب البرية الضخمة التي دارت على مدى عقود مع الجيوش العربية لتحل بدلاً منها لعمليات أكثر تواتراً، لكن أصغر، والمعروفة باسم "الحرب بين الحروب". وقال هاليفا إنَّ هذا التحول يعني اعتماداً أكبر على التكنولوجيا والشبكة الرقمية لتجميع المعلومات الاستخبارية.
صالة رياضية
ويتصل المخبأ عبر التكنولوجيا بمركز قيادة آخر تحت الأرض للقادة السياسيين الإسرائيليين بالقرب من القدس المحتلة، ومقر قيادة القوات الجوية تحت الأرض ومركز قيادة الشاباك.
ويضم المجمع صالة رياضية وكنيساً ومطبخاً وغرفاً لتناول الطعام وغرفة نوم للضيوف مع صف من الساعات لمناطق مختلفة من العالم، من بينها طهران. وتوجد أيضاً صالة بها طعام ومشروبات غير كحولية، وهو المكان الوحيد المسموح فيه للجنود باستخدام هواتفهم المحمولة.
وتغذي الإدارات العسكرية والاستخباراتية هذا المركز العصبي بالمعلومات ولدى كل واحدة منها ممثل متواجد فعلياً بداخله. ويسمح هذا التشغيل المشترك بشن عدد كبير من الضربات في تدفق شبه مستمر.
بعد كل ذلك، المقاومة تطلق الصواريخ بمعدل غير مسبوق
ولكن رغم كل هذه التحضيرات العملاقة في حصن صهيون، فإن الفصائل الفلسطينية أطلقت نحو 4 آلاف صاروخ تجاه المستوطنات الواقعة جنوبي إسرائيل، وكذلك على عدد من المُدن المُحتلة في وسط البلاد، بحسب بيان سابق للجيش الإسرائيلي، وأدى القصف إلى مقتل 12 إسرائيلياً وإصابة نحو 330 آخرين، بحسب قناة "كان" الرسمية.
ويعد معدل إطلاق الصواريخ هذا مرتفع للغاية مقارنة بحرب عام 2014، والتي استمرت لفترة أطول بكثير.
كما أدى إطلاق الرشقات الصاروخية من قطاع غزة إلى إدخال ملايين الإسرائيليين إلى الملاجئ ووقف حركة القطارات بين مدن وسط وجنوب البلاد، وتعليق هبوط وإقلاع الرحلات الجوية لفترات بمطار بن غوريون الدولي بتل أبيب، واستمر إطلاق الصواريخ من القطاع حتى وقف إطلاق النار.
كيف تغلبت الحركات الفلسطينية على حصن صهيون؟
إن ما حققته المقاومة الفلسطينية في مواجهة الاستثمار الإسرائيلي في المجال الاستخباراتي والتكنولوجي الذي يظهر في حصن صهيون، لا يشير فقط إلى فشل إسرائيلي بل إلى نجاح المقاومة الفلسطينية، في إخفاء أهدافها، وهو أمر ليس بالسهل في مواجهة دولة تعتبر الأكثر تقدماً في مجال تكنولوجيا الاستخبارات في المنطقة والعالم بل تعتبر من أهم مصدري تكنولوجيا التجسس في العالم، حتى إنها نفذت عمليات جريئة في قلب إيران منها سرقة جزء من الأرشيف النووي الإيراني.
وتشير نجاة محمد الضيف، قائد كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، إلى إنجازات المقاومة الفلسطينية في مواجهة عدو أكثر تقدماً بكثير، فالرجل معروف عنه تجنبه استخدام أي أجهزة إلكترونية تمكن إسرائيل من رصده.
ومن الواضح أن المقاومة الفلسطينية اعتمدت على مزيج من الأدوات لإضعاف قدرة الاستخبارات الإسرائيلية على رصدها منها النظام الأمني الصارم، والحرص في استخدام الأجهزة الإلكترونية أو تجنبها، وعمليات تمويه، وإخفاء، ونظام أمني صارم لمحاولة تقليل الاختراقات.