شكلت الحرب الإسرائيلية على غزة التي استمرت 11 يوماً نقطة تحول في الموقف الأمريكي والإسرائيلي بشأن التعامل مع السلطة الفلسطينية، التي كانت بمثابة الطرف الخاسر من هذه المعركة بسبب تبنيها لموقف محايد مما جرى في الضفة الغربية وغزة والقدس والداخل المحتل، مقابل تسجيل حركة حماس موقعاً متقدماً على مستوى تعزيز مكانتها في الشارع الفلسطيني وزيادة الثقة بمشروعها، تحديداً في معقل السلطة الفلسطينية في مناطق سيطرتها في الضفة الغربية.
ولعل الإنجاز الأبرز الذي حظيت به السلطة الفلسطينية من هذه المعركة هو إجراء الرئيس الأمريكي جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن أول اتصال برئيس السلطة محمود عباس منذ تسلم الرئيس الأمريكي مهامه في 20 من يناير/كانون الثاني 2021.
ارتياح رسمي
الموقف الأمريكي قوبل بارتياح كبير لدى الأوساط الرسمية للسلطة الفلسطينية، نظراً لتأكيد بايدن خلال اتصاله بأبومازن – وفقاً لبيان البيت الأبيض – على ضرورة وأهمية استئناف المساعدات الأمريكية للسلطة الفلسطينية، والتزام واشنطن بالشراكة الأمريكية الفلسطينية، وتأكيد بايدن أن أموال إعادة الإعمار التي ستمولها بلاده يجب أن تمر عبر السلطة، وعدم إيصال أي مساعدات لحركة حماس، خشية استثمارها في مجالات عسكرية خاصة بها.
عبدالإله الأتيرة، مستشار رئيس الوزراء عضو المجلس الثوري لحركة فتح، قال لـ"عربي بوست" إن السلطة الفلسطينية تعلم أن تبني إدارة بايدن لمقاربة مختلفة عن ترامب لم يأتِ لحرصه على الفلسطينيين، بل نتيجة فشل سياسة الضغط السياسي والاقتصادي التي تبناها سلفه، لذلك "نحن ننظر باهتمام لإيمانه بحل الدولتين وإعادة المساعدات التي تم تجميدها، دون أي تنازل سياسي أو ضغط على السلطة لوقف الهبة الشعبية في القدس والضفة الغربية والداخل".
وأضاف أنهم يدركون أن الفترة القادمة ستشهد تقلبات سياسية وإعادة رسم المشهد في المنطقة عبر شكل جديد من التحالفات السياسية، "هذا ما يدفعنا إلى التعامل بحذر مع الرسائل التي أطلقتها الإدارة الأمريكية، لأن تقديرنا أن سياسة بايدن ستكون نسخة مكررة من سياسات الرئيس السابق باراك أوباما، الذي كان يتعامل مع سيناريو الفوضى السياسية دون أن يحسم أو يتبنى توجهاً صريحاً بشأن مسار التسوية للقضية الفلسطينية، لذلك نحن سندرس كل الخيارات المتاحة أمامنا، ولن نقدم على أي خطوة من شأنها منح الطرف الإسرائيلي أو الأمريكي أي هدية مجانية دون أن نعرف تبعاتها".
استدراك إسرائيلي
سرعان ما ترجم الموقف الأمريكي بضرورة تقوية موقف السلطة في الشارع الفلسطيني، بإصدار وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس قراراً بفتح معبر جلمة التجاري الواصل بين مدينة جنين وإسرائيل، والذي يعد شرياناً اقتصادياً ورافداً مالياً مهماً لمناطق شمال الضفة الغربية.
يقع معبر جلمة شرق مدينة جنين الواقعة شمال الضفة الغربية، وقد صدر قرار إسرائيلي بإغلاقه بعد توتر العلاقات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل في أزمة المقاصة عام 2019، وهو معبر مخصص لمرور الأفراد والسلع التجارية بين دولة الاحتلال ومناطق شمال الضفة الغربية، وأضر إغلاقه بالحالة الاقتصادية لشمال الضفة الغربية، بسبب تراجع تدفق الأفراد والمركبات من مناطق الداخل لمدينة جنين، لأن المعبر يمر به مليون مركبة سنوياً، ولكن العدد تراجع إلى 200 ألف مركبة في العامين الأخيرين.
معاوية موسى، الباحث في مركز أطلس للدراسات الإسرائيلية، قال لـ"عربي بوست" إن قرار إسرائيل بفتح معبر الجلمة محاولة إسرائيلية بضغط أمريكي لإعادة ما يعرف بمفهوم السلام الاقتصادي، فعند الحديث عن تزامن هذا القرار بعد انقضاء حرب غزة، فنحن نعود لسيناريو فترة ما بعد أحداث الانقسام الفلسطيني التي جرى من خلالها هندسة الحالة الفلسطينية عبر إضعاف طرف وتقوية طرف آخر بإغراءات اقتصادية، كمحاولة لتهدئة جبهة الضفة الغربية التي باتت تعيد حسابات الأمن بعد أن ظهرت بموقف متحدّ وصلب خلال حرب غزة.
وأضاف أن إعادة فتح معبر الجلمة لا تعد قراراً عادياً، نظراً لأنه يساهم بنحو 50% من النشاط الاقتصادي لمدينة جنين، وهي تتركز بنشاط تجاري وسياحي من الداخل، حيث لا يبعد هذا المعبر عن مدينة الناصرة سوى 20 كيلومتراً، مقارنة بـ60 كيلومتراً المسافة بين جنين ورام الله.
سياسة أمريكية تقليدية
تدرك الإدارة الأمريكية أن الضعف الذي ظهرت به السلطة الفلسطينية في حرب غزة، والمتمثل برفع شعارات من قبل المتظاهرين بفشل مشروعها السياسي، دفعها إلى الإسراع في تبني خطوات من شأنها منح السلطة مكانة متقدمة عبر تعزيز مشروعها السياسي بإعادة مسار المفاوضات مع إسرائيل برعاية أمريكية، ضمن رؤية حل الدولتين الذي تبناه بايدن في برنامجه الانتخابي.
وليد المدلل، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الإسلامية، المختص في الشؤون الأمريكية، قال لـ"عربي بوست" إن ما تبناه بايدن من مواقف داعمة للسلطة في حرب غزة ليس بالجديد على الموقف التقليدي الأمريكي من قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولكن الحرب التي شهدتها غزة دفعت إلى الإسراع في إيضاح هذا الموقف وتعزيزه القائم على فكرة السلام الاقتصادي، لأن الملف الفلسطيني لم يكن على أجندة بايدن بسبب أولويات أخرى كملف الصين وإيران.
وأضاف أن بايدن يأمل في تحقيق مكاسب سياسية، من بينها أنه الرئيس الذي استطاع أن يعيد السلطة وإسرائيل لطاولة المفاوضات بعد غياب دام لسبع سنوات، لذلك هو يشترط على السلطة أن تنزع فتيل التوتر في مناطق سيطرتها في الضفة الغربية والقدس، مقابل عودة الأموال الأمريكية.
ومن جانب آخر فتعزيز السلطة اقتصادياً هو مصلحة إسرائيلية، نظراً لأنه يزيل الكثير من الأعباء المفروضة عليها ويقلل من تكلفة الاحتلال.
ضعف السلطة أمام الشارع
لا تخفي السلطة أسباب ضعفها في السيطرة على الوضع في الضفة الغربية، وهو ما يعود إلى عوامل اقتصادية بدرجة أساسية، فالضغط الذي مارسته كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية على السلطة خلال ولاية ترامب أفقدها جزءاً من حاضنتها الشعبية لصالح حركة حماس، التي نجحت في تسويق مشروعها السياسي، وتحديداً في العامين الأخيرين.
وكانت أزمة المقاصة التي عانت منها السلطة خلال العامين 2019 و2020 ما هي إلا محاولة من قبل السلطة لإعادة فرض نفسها في المشهد السياسي، بسبب فقدانها الكثير من الحلفاء التقليديين كالسعودية والإمارات والبحرين والمغرب والسودان، الذين أيدوا ودعموا مشروع التطبيع مع إسرائيل غير مكترثين بموقف السلطة الرافض للقفز عنها.
نائل موسى، أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة النجاح، قال لـ"عربي بوست"؛ إننا أمام تكرار لتجربة مرحلة ما بعد 2007، فشل مشروع السلطة بدأ يتشكل كقناعة راسخة لدى المواطنين، وهذا ما رأيناه في سباق وبرنامج الانتخابات التي تم إلغاؤها، لذلك يتم إحياء هذا المشروع من جديد عبر وعود بإعادة الدعم الاقتصادي والمالي من قبل إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، والتي ستأتي على أشكال كعودة المنح والمساعدات الدولية، وإزالة القيود والخصومات من أموال المقاصة، وتسهيل التبادل التجاري على المعابر، وإنقاذ الوضع الصحي للضفة عبر منحها لقاحات كورونا.
وأضاف: "كل هذه التسهيلات قد تحدث، وهي ليست مجانية، ولكنها تأتي في إطار منع انفجار الشارع الذي سيوجه الاتهام للسلطة بأنها فشلت في إدارة أي ملف تشرف عليه".