مع دخول ساعات المساء يعيش أهالي غزة مرحلة تشبه انتظار الموت، تبدأ باستعداد الأهالي لاستقبال أطنان القذائف التي تسقط على رؤوسهم بشكل عشوائي من الطائرات الحربية الإسرائيلية، في مشهد يعكس حدة القصف الذي أخفى ملامح أحياء سكنية بعد تسوية مبانيها بالأرض.
اثنتا عشرة عائلة بأكملها تم مسحها من السجل المدني، وفقاً لبيان وزارة الصحة في غزة، بعد أن دفنتها صواريخ الطائرات الإسرائيلية تحت ركام المنازل التي تم قصفها، وتركزت تلك العائلات في منطقة شرق وشمال مدينة غزة التي شهدت أعنف المجازر الإسرائيلية.
هذا الأمر دفع الفلسطينيين في غزة للبحث عن طرق لتجنب هذه الإبادة الكاملة لعائلاتهم.
كسر للطبيعة الإنسانية
تداول الفلسطينيون قصة عن أحد الآباء، الذي اضطر لاستبدال اثنين من أبنائه مع شقيقه، آملاً أن يبقى نسل العائلة ممتداً في حال تعرضوا لقصف مفاجئ من الطائرات الحربية.
هذا المشهد بات سمةً تنتشر في مناطق مختلفة من قطاع غزة منذ بدء هذه الحرب، فالعديد من العائلات التي عاشت فصول الموت اضطرت إلى تقسيم وتوزيع أبنائها في مناطق جغرافية، خوفاً من أن ينضموا إلى قافلة العائلات التي اختفت من السجل المدني.
تقول أم أحمد لـ"عربي بوست" "هذا الأمر ليس بالهين، فمن الصعب أن تضحي بأحد أبنائك في وقت عصيب كهذا، ولكن مشاهد الموت التي رأيناها لعائلات تم اغتيالها بدم بارد دفعتني إلى الخروج عن الطبيعة الإنسانية والبشرية، بأن أقوم بهذه المجازفة".
وتضيف أن المشاعر هنا متناقضة، لا شيء يصف هذه الحالة التي أنا عليها الآن، فما بين خوفها على أبنائها المستمر خشية تعرضهم للموت، إلى التفكير فيهم على مدار الساعة وهم بعيدين عنها.
وأضافت "الحياة يجب أن تستمر حتى لو كان ذلك على حساب المشاعر وغريزة الأمومة، رائحة الموت في كل مكان، جميع من في غزة هم على قيد الحياة مع وقف التنفيذ، رائحة الدم منتشرة في كل مكان، ومشاهد الدمار ووجع الآباء وصرخات الأمهات هي السبب الذي دفعني لأن أقدم على هذه الخطوة؛ كي لا أعيش هذه اللحظة".
وتابعت أنها لا تعلم الهدف من استهداف الجيش الإسرائيلي للمدنيين والأطفال بهذه الوحشية، "هم لم يرتكبوا ذنباً ليكونوا في هذا المصير، على العالم والمجتمع الدولي أن يتحرك بسرعة لوقف هذه المجازر التي تُرتكب بحق الآمنين".
لا مكان آمناً في غزة
في غزة يسقط مصطلح المناطق الآمنة، كل من في غزة معرض للموت في أي لحظة، فالترسانة العسكرية الإسرائيلية عبر سلاح الجو والمدفعية والبحرية الإسرائيلية لا تتوقف عن القصف في كل ساعة.
عائلة الكولك في غزة واحدة من تلك العائلات التي فقدت 16 فرداً من أبنائها في القصف الإسرائيلي الوحشي الذي استهدف بنايتهم السكنية في شارع الوحدة وسط مدينة غزة، فجر الأحد 16 مايو/أيار الجاري.
يصف عدلي الكولك، أحد الناجين من المجزرة، لـ"عربي بوست" اللحظات الأولى للقصف قائلاً: "كنا في المنطقة لحظة القصف، سمعنا أصواتاً وانفجارات هزت المكان، مع سحابة سوداء تتوسطها نيران مشتعلة من وسط الحي، ثلاثة من إخوتي كانوا في البناية المستهدفة المكونة من ثلاثة طوابق، ومنزل عمي بجانبنا لا يفصله سوى ممر ضيق لا يتجاوز عرضه المترين".
وأضاف: لحظة القصف ذهبوا مسرعين لتفقد المكان، فوجد أخاه وعائلته المكونة من 8 أفراد قد استشهدوا جميعاً، ونجا أخوه الأكبر بمعية الله من القصف، رغم أنه يقطن في الطابق الأرضي، واستشهد خمسة من أبناء عمومته بالبناية المجاورة، إضافة إلى والده وشقيقيه الصغيرين، في حين لا تزال زوجته وولداه في مشفى الشفاء، يتلقيان العلاج، نتيجة تعرضهما لحروق وتشوهات في كافة أنحاء الجسد بسبب القصف الوحشي.
التأثيرات النفسية
دفعت مشاهد الموت والدمار الذي لحق بغزة في هذه الحرب إلى التحذير من التداعيات النفسية للأطفال في مرحلة ما بعد توقف الحرب، نظراً لأن حجم هذا الضرر سينعكس على سلوكهم في المستقبل، ويؤثر بشكل أو بآخر على نظرتهم للحياة.
حسن القطراوي، الأكاديمي الفلسطيني المختص في علم النفس، يقول لـ"عربي بوست" إن قطاع غزة يعاني منذ فترة طويلة من حصار سياسي واقتصادي فظيع، جاء على جميع مناحي الحياة، وكانت تأثيراته النفسية واضحة على السكان هناك، فجاءت هذه الحرب التي ما زالت تدور رحاها لتعزز من تفاقم الأزمة النفسية التي يعاني منها المواطنون الفلسطينيون.
وأضاف أن المشاهد الدموية الحاصلة ستكون لها تأثيرات سيكولوجية ستدوم طويلاً، وربما تؤسس لصدمات نفسية طويلة المدى، خاصة لدى الأطفال والنساء، لذلك فإن المعاناة النفسية اليومية للسكان أثناء الحروب تؤسس لحالة من التشوهات الفكرية والمعرفية، التي ستنعكس على طبيعة الممارسة للحياة اليومية، هذا يعني أن الحالة النفسية التي تولد في الحروب لا تنتهي بانتهائها، وتبقى أعراضها لشهور طويلة، وهو ما يؤسس لأمراض نفسية قادمة سيعاني منها الشخص طويلاً، وتكون أشبه بحالة من الارتباط الشرطي، الذي يولد كلما جاء الحديث عن الحروب والمعاناة.
تدمير المرافق
لم تقتصر معاناة أهل غزة في هذه الحرب على موت أو فقدان أو إصابة ذويهم، بل إن السياسة الإسرائيلية في هذه الحرب تقوم على أساس إلحاق أكبر أذى بالبنية التحتية للطرقات، وهو ما يعيق وصول طواقم الإنقاذ من الدفاع المدني والإسعاف إلى المناطق المستهدفة، الأمر الذي يتسبب في زيادة حجم الضرر من بعض الإصابات التي يتعرض أصحابها للموت بسبب تأخر الإنقاذ.
سالم الخطيب، ضابط الدفاع المدني المسؤول عن إجلاء المفقودين بعد القصف، يقول لـ"عربي بوست" إن هنالك سياسة إسرائيلية يتم انتهاجها في هذه الحرب لأول مرة، وهي إعاقة عمل طواقم الإنقاذ والدفاع المدني، عبر تدمير الطرقات والشوارع الرئيسية والفرعية، ما يتسبب في تأخر الوصول إلى المناطق المستهدفة، كثير من الذين ارتقوا شهداء ماتوا اختناقاً بسبب مكوثهم تحت الأنقاض لفترة طويلة.
وأضاف: "أجرينا مناورات على مدار السنوات السابقة للتعامل مع سيناريوهات كهذه، ولكن الإمكانيات المتوفرة لا تسمح لنا بأن نعمل بطاقة كبيرة، نظراً لعدم توفر معدات الإنقاذ والإجلاء الكافية، بسبب الحصار المفروض على غزة منذ 15 عاماً".
صلاح عبدالعاطي، رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني "حشد"، قال لـ"عربي بوست" إن هناك قوة مفرطة من قِبل آلة الحرب الإسرائيلية في هذه المواجهة غير المتكافئة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، فمعدلات الشهداء والإصابات ونوعيتها تشير إلى استخدام مفرط للقوة العسكرية التي استهدفت المدنيين بشكل مباشر، نظراً لوجود أكثر من 230 شهيداً، نصفهم من الأطفال والنساء وكبار السن، ونحو ألفي إصابة، إضافة إلى رصد تدمير ما يزيد عن 11 ألف وحدة سكنية تضررت بشكل كامل، و7 آلاف أخرى بشكل جزئي، إضافة إلى تدمير 100 مقر حكومي بما فيها مقر وزارة الصحة المركزي و12 مدرسة، ونزوح أكثر من 50 ألف مواطن إلى مدارس الأونروا، وضعفهم نزحوا بشكل قسري من أماكن القصف إلى مناطق أخرى.
وأضاف أن هناك حالة إنسانية معقدة في غزة، الحياة بالكاد تعمل بالحد الأدنى لاستمرار الحياة الآدمية، نظراً لضرب منظومة البنى التحتية كمياه الشرب والكهرباء والاتصالات والإنترنت والطرق الرئيسية، إضافة إلى الأضرار النفسية التي تسبب فيها القصف، خصوصاً حالات الذعر والخوف لدى الأطفال والنساء، واستخدام أسلحة محرمة دولياً كالغازات السامة والفسفور وقنابل اختراق التحصينات في المناطق الآمنة.