مع استمرار إسرائيل في قصف قطاع غزة جواً وبراً وبحراً وسقوط مئات الشهداء وآلاف الجرحى ونزوح عشرات الآلاف بعد أن دمر الاحتلال منازلهم، قد يتساءل البعض: ماذا حققت صواريخ المقاومة الفلسطينية؟
وعلى الرغم من أن البعض قد يرى أنه من المفترض تأجيل السؤال نفسه حتى تنتهي الحرب، أو بمعنى أدق هذه الجولة من الحرب التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، إلا أن الصورة الأكبر التي يجب تناول هذا السؤال الخاص بصواريخ المقاومة الفلسطينية غير مرتبطة بنهاية هذه الجولة من الأساس.
فإسرائيل لم تبدأ عدوانها هذه المرة يوم 10 مايو/أيار الماضي، عندما أطلقت العنان لترسانتها العسكرية لتجلب مزيداً من الدمار لقطاع غزة وتسقط المئات من الشهداء وتهدم المنازل على رؤوس سكانها الأبرياء لتدفن أسراً بأكملها، على أمل سحق المقاومة الفلسطينية في القطاع والقضاء نهائياً على التهديد العسكري الوحيد القادر على نسف مخططاتها للقضاء على الفلسطينيين للأبد، بل كان ذلك التصعيد هو ما يخطط له بنيامين نتنياهو منذ أعطى الضوء الأخضر لتهجير عائلات فلسطينية من حي الشيخ جراح.
هل سعت حماس إلى مهاجمة إسرائيل؟
وحتى تكون إجابة سؤال ماذا حققت صواريخ المقاومة هذه المرة شاملة في طبيعتها، من المهم رصد أسباب إطلاق أول رشقة من تلك الصواريخ كخطوة أولى. وهذه النقطة بالتحديد تناولها تقرير لموقع The Intercept الأمريكي بعنوان "ولكن ماذا عن صواريخ حماس؟"، جاءت مقدمته نصاً: "لا بد أن نكون واضحين: ما بدأ هذا الرعب الحالي كان تصعيد إسرائيل حملة التطهير العرقي ضد الفلسطينيين في القدس الشرقية".
والإشارة هنا للتهجير في حي الشيخ جراح وإغلاق باب العامود مطلع رمضان (13 أبريل/ نيسان) والاعتداءات المتكررة على المسجد الأقصى، وهذه الإجراءات جميعاً هي انتهاكات مباشرة وموثقة للقانون الدولي والإنساني وصاحبها طوال الوقت اعتداءات المستوطنين المتطرفين الذين أصبحوا يمثلون القاعدة الانتخابية لنتنياهو حتى وصلت الأمور إلى دعوات علنية لهدم المسجد الأقصى والاستعداد لاقتحامه من جانب أكثر من 30 ألفاً من هؤلاء المستوطنين الذين يرفعون شعار "الموت للعرب"، ومتى؟ في ليلة القدر.
وخلال تلك الفترة لم ينتبه- أو بمعنى أدق- لم تهتم الحكومات الغربية ولا العربية بما يعاني منه الفلسطينيون ولم يصدر بيان واحد عن أي حكومة أو حتى منظمة دولية تندد بانتهاكات الاحتلال الإسرائيلي لجميع المواثيق والقرارات الدولية.
وأصدرت حماس والجهاد الإسلامي وباقي الفصائل الفلسطينية نداءات متكررة لحكومة نتنياهو وللمجتمع الدولي لوقف الاعتداءات على المسجد الأقصى ومنع تهجير الفلسطينيين من حي الشيخ جراح دون أي استجابة، وهنا يتساءل تقرير The Intercept: "أي شخص يسأل "ولكن ماذا عن صواريخ حماس؟" يواجه التزاماً أخلاقياً بأن يضع نفسه مكان الفلسطينيين في غزة ويفتش داخل روحه بجدية عن الإجابة".
ماذا لو لم تنطلق الصواريخ من غزة؟
ومن المهم هنا أن نحاول تخيل أي سيناريو لم تطلق خلاله الفصائل الفلسطينية صواريخها عندما فعلت، علماً بأن محاولات الوساطة المصرية تحديداً بدأت منذ أول رشقة صواريخ وأول هجمات إسرائيلية على قطاع غزة وطلبت حماس أن توقف إسرائيل عدوانها على المسجد الأقصى وتهجير الفلسطينيين من حي الشيخ جراح لكن نتنياهو رفض.
وبالتالي لا يمكن استبعاد أي سيناريو كان من الممكن أن تقدم عليه حكومة نتنياهو في ظل المشهد العام في الداخل الإسرائيلي وفي المنطقة والعالم ككل، وقد أثبتت التجربة منذ نشأة إسرائيل عام 1948 أن فرض سياسة الأمر الواقع هي الاستراتيجية التي تسير عليها حكومات الاحتلال الإسرائيلي وأن تل أبيب آمنة تماماً من أي عقوبات دولية مهما ارتكبت من جرائم بحق الفلسطينيين.
فالداخل الإسرائيلي مرهون سياسياً لصالح المتهم نتنياهو الذي يريد التشبث بمنصبه بأي ثمن، والواقع العربي يعج بالاضطرابات والأزمات والحروب، والأنظمة العربية تواجه ملفاتها الخاصة والإقليمية المعقدة وتسعى أغلب تلك الأنظمة للتقرب إلى تل أبيب وإن تنوعت الأسباب، والتطبيع المجاني الذي قادته الإمارات يوفر لإسرائيل غطاء نموذجياً للقضاء على ما تبقى من أرض وحقوق للفلسطينيين، أما دولياً فالإدارة الأمريكية برئاسة بايدن مشغولة تماماً بتركة ترامب الثقيلة داخلياً وخارجياً وقررت تلك الإدارة- ضمنياً- أن أهم ملفات الشرق الأوسط هو إحياء الاتفاق النووي مع إيران، فلم تعين حتى سفراء لها لدى إسرائيل ولا السلطة الفلسطينية، ناهيك عن تعيين مبعوث خاص للشرق الأوسط (الصراع العربي الفلسطيني)، والواضح أن ما يجري الآن على الأرض قد فاجأ البيت الأبيض تماماً.
عودة حل الدولتين إلى الطاولة
لكن كل ذلك تغير بعد أن أطلقت المقاومة صواريخها نحو إسرائيل، فبادر البيت الأبيض والحكومات الغربية وحتى الأمم المتحدة بإصدار بيانات إدانة ومطالبات فورية لحماس بوقف إطلاق الصواريخ والتأكيد من جانب الجميع على "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، وكأن إسرائيل كانت تحترم تعهداتها والتزاماتها كدولة احتلال تجاه الفلسطينيين وقررت حماس فجأة أن تستعرض عضلاتها الصاروخية أمام إسرائيل النووية.
ويقول تقرير The Intercept: "تشن حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة – التي تدعمها وتمولها وتسلحها الولايات المتحدة – حملة حالية من العقاب الجماعي المنظم ضد سكان قطاع غزة. يعيش أكثر من مليونين هم سكان القطاع محاصرين في معسكر أشبه بالسجن المفتوح دون مكان يهربون فيه أو مخابئ تحميهم من الصواريخ والقنابل ودانات المدافع التي تنهال عليهم جواً وبراً وبحراً. الأطفال ينحرون والمباني السكنية المدنية تتهدم على رؤوس ساكنيها".
"وفي الوقت نفسه تجوب الميليشيات العرقية المتطرفة شوارع المدن الإسرائيلية يرهبون جيرانهم من العرب (إشارة إلى فلسطينيي الداخل) في حملة منظمة من العنف الجماعي الطائفي. وحتى نكون واضحين هذا الرعب كانت بدايته تصعيد إسرائيل حملة التطهير العرقي ضد الفلسطينيين في القدس الشرقية".
لكن على الرغم من الموقف المنحاز لإسرائيل، وهذا بالطبع ليس بجديد، إلا أن المشهد الآن سواء في إسرائيل أو المنطقة أو العالم، اختلف بصورة ربما لم يكن أحد يتوقعها ولا حتى قادة المقاومة الفلسطينية أنفسهم. إسرائيل شهدت اليوم إضراباً عاماً، ليس فقط في الضفة الغربية والقدس الشرقية، بل في جميع أنحاء فلسطين التاريخية، شارك فيه الفلسطينيون جميعاً (ليس فقط من يعانون من الاحتلال المباشر بل من يطلق عليهم فلسطينيو الداخل ويحملون جنسية إسرائيل لكنها تعاملهم كما تعامل الفلسطينيين في الأراضي المحتلة وتميز ضدهم بنفس الدرجة).
أما على المستوى الدولي فقد عاد حل الدولتين مرة أخرى يتصدر المشهد، ليس فقط من جانب الأمم المتحدة أو روسيا أو الصين ولكن من جانب إدارة بايدن نفسها وعلى لسان الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، وهذا ما لم يكن متصوراً بعدما فعله ترامب وصهره جاريد كوشنر من خلال صفقة القرن التي لم يعد أحد يتذكرها من الأساس.
أما فلسطينياً فقد عادت الوحدة وتصدر العلم الفلسطيني المشهد واختفت أعلام الفصائل والحركات، والآن نرى علم فلسطين مرفوعاً حول العالم وحق الفلسطينيين في العيش في "سلام داخل دولتهم المستقلة" أصبحت عبارة تتكرر على لسان المسؤولين الغربيين والشرقيين والعرب أيضاً، ويمكن القول هنا إن فصائل المقاومة الفلسطينية قد حققت من خلال الصواريخ التي أطلقتها دفاعاً عن القدس ما لم يكُن ممكناً تصوره قبل أسبوعين فقط من اليوم.
والخلاصة في إجابة هذا السؤال هي أن دماء الشهداء الفلسطينيين التي أراقتها ولا تزال قوات الاحتلال الإسرائيلي المدججة بأحدث الأسلحة الغربية وأكثرها فتكاً، سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية أو القدس أو في المدن الإسرائيلية على أيدي شرطة الاحتلال ومستوطنيه، تمثل الشرارة التي أعادت إحياء حق الفلسطينيين في التخلص من الاحتلال وإقامة دولة فلسطين وعاصمتها القدس، بعد أن ظن بعض السياسيين هنا وهناك أن ذلك الحلم قد انتهى.