لا تمتلك إسرائيل استراتيجية تنهي بها عدوانها على قطاع غزة وهو ما يمثل مأزقاً حقيقياً مع دخول العدوان أسبوعه الثاني، فهل حقق بنيامين نتنياهو هدفه بينما خسرت تل أبيب؟
اليوم الإثنين 17 مايو/أيار يدخل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة أسبوعه الثاني، وحتى فجر اليوم سقط نحو 200 شهيد فلسطيني في القطاع المحاصر، بينهم 53 طفلاً 38 سيدة، وأصيب ما يقرب من ألفين نتيجة للقصف الجوي والبري والبحري الذي يمارسه جيش الاحتلال ضد نحو مليوني فلسطيني يعيشون في القطاع ويستهدف الأبراج والمباني السكنية والمنشآت الاقتصادية والتجارية دون تمييز، فيما تصفه كثير من المنظمات الدولية بأنه "جريمة حرب".
ومن المهم قبل الدخول في تفاصيل المشهد الحالي وصورته الأكبر العودة إلى نقطة البداية فيه حتى تتضح الصورة أكثر، وهذا ما عبر عنه تقرير لموقع The Intercept الأمريكي في مقدمته التي جاء فيها نصاً: "لابد أن تكون الأمور واضحة: ما بدأ هذا الرعب هو تصعيد إسرائيل لحملة التطهير العرقي التي تشنها ضد الفلسطينيين في القدس الشرقية".
كيف حقق نتنياهو هدفه؟
بالنسبة لبنيامين نتنياهو، أطول رئيس وزراء بقاء في منصبه في تاريخ إسرائيل، لا يوجد سوى هدف واحد وهو أن يظل في منصبه بأي ثمن كان تفادياً لنهاية مسيرته السياسية خلف القضبان. نتنياهو يحاكم حالياً في ثلاث قضايا هي تلقي الرشوة وخيانة الأمانة واستغلال النفوذ، وهو ينفي تلك الاتهامات ويزعم أنها لها دوافع سياسية.
هذا الموقف الذي يواجهه المتهم نتنياهو يرجع إلى نحو ثلاث سنوات مضت ونتج عنه إجراء أربعة انتخابات عامة في إسرائيل في أقل من عامين دون أن تتمكن الدولة العبرية من تشكيل حكومة بسبب موقف نتنياهو بالأساس. وصحيح أن نتنياهو سياسي وزعيم حزب الليكود اليميني، لكن حسابات نتنياهو الشخصية جعلته يسعى للتحالف مع أي طرف يوافق على شرطه الوحيد. يريد نتنياهو أن يحصل على تشريع من الكنيست يحصنه شخصياً من الإدانة مدى الحياة.
وبسبب هذا الشرط تحديداً، فشل نتنياهو في تشكيل حكومة تحظى بأغلبية في البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) في المرات الأربع التي أجريت فيها الانتخابات، وكان آخرها فشله في ذلك هذه المرة وتكليف الرئيس الإسرائيلي لخصوم نتنياهو بتشكيل الحكومة وكان ذلك في أواخر أبريل/نيسان الماضي.
نتنياهو يقدم نفسه لليمين الإسرائيلي على أنه الوحيد القادر على تحقيق أجندتهم المتمثلة في تهويد القدس وضم أغلب أراضي الضفة الغربية المحتلة والقضاء نهائياً على حل الدولتين (إسرائيل وفلسطين) وفي الوقت نفسه تطبيع علاقات إسرائيل مع الدول العربية دون أن تضطر تل أبيب إلى إنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية والعربية (الجولان السورية أيضاً).
في ظل هذا المشهد، أعطى نتنياهو الضوء الأخضر للمستوطنين المتطرفين الرافعين شعار "الموت للعرب" ومنهم حركة "لاهافا" التي كانت الحكومات الإسرائيلية – ومنها حكومة نتنياهو نفسها فيما سبق قد صنفتها منظمة إرهابية – كي يصعدوا سعيهم لتحقيق أهدافهم وهي تهجير الفلسطينيين من القدس الشرقية – بداية من حي الشيخ جراح – واقتحام المسجد الأقصى تمهيداً لهدمه.
ومع بداية شهر رمضان (13 أبريل/نيسان الماضي)، أغلقت الشرطة الإسرائيلية منطقة باب العامود في القدس الشرقية المحتلة دون سبب، مما أثار غضب الشباب الفلسطيني، خصوصاً في ظل ترك المستوطنين المتطرفين يعتدون على الفلسطينيين في حي الشيخ جراح والمصلين في المسجد الأقصى بصورة يومية، تزامناً مع محاولات نتنياهو اليائسة تشكيل الحكومة، وبعد أن انتهت المهلة الممنوحة له وأبلغ الرئيس بذلك، بدأت تتعالى دعوات المستوطنين لاقتحام المسجد الأقصى تزامناً مع إحياء الفلسطينيين لليلة القدر (10 مايو/أيار)، وهنا تدخلت فصائل المقاومة وحذرت نتنياهو أكثر من مرة قبل أن تبدأ في إطلاق الصواريخ من غزة.
انطلقت الصواريخ وأعطى نتنياهو أوامره لجيش الاحتلال بالرد، وهنا اتسع الحريق وتحولت مقامرة نتنياهو السياسية هرباً من السجن إلى كارثة أعادت قضية الشرق الأوسط الجوهرية إلى واجهة الأحداث وأحيتها بعد أن ظن البعض أن "صفقة القرن" وموسم التطبيع المجاني قد دفنها إلى الأبد.
ماذا خسرت إسرائيل؟
نعم، أصبح واضحاً الآن أن نتنياهو قد حقق هدفه الشخصي بعد أن خفت حدة الانتقادات له في الإعلام الإسرائيلي واعترف خصومه بصعوبة تشكيل حكومة بدونه ويبدو أن سيناريو الانتخابات الخامسة هو الأقرب أو ربما الوحيد المطروح على الطاولة حالياً، لكن إسرائيل نفسها قد خسرت الكثير مقابل مكاسب هائلة حققها الفلسطينيون رغم دمائهم التي سالت بغزارة ولا تزال.
وربما تكون أبرز خسارات إسرائيل المتعددة، على عكس ما يعتقد الأغلبية من الجمهور العربي، هو التحول الواضح في الموقف الأمريكي تجاه الصراع في الأراضي الفلسطينية، وهذا ما عبر عنه تحليل نشرته صحيفة The Washington Post بعنوان "الحوار الأمريكي بشأن إسرائيل قد تغير بغض النظر عن رد الفعل الوديع لبايدن".
نعم عبرت إدارة بايدن عن دعهما لما وصفته "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، وأوقفت الإدارة محاولات مجلس الأمن إصدار بيان يدين جرائم الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، لكن "الدعم لفجيعة الفلسطينيين يزداد زخما في الكونغرس الأمريكي والشارع أيضاً. وكتب السيناتور الديمقراطي بيرني ساندرز مقالة نشرتها صحيفة نيويورك تايمز ألقى فيها الضوء على معاناة الفلسطينيين في قطاع غزة المحاصر وما يتعرضون له من قصف إسرائيلي مكثف لا يفرق بين مطلقي الصواريخ والمدنيين".
وفي هذا السياق أيضاً، طالب 36 نائباً في الكونغرس اليوم الإثنين 17 مايو/أيار بوقف إطلاق النار بشكل فوري "لمنع المزيد من الخسائر في الأرواح"، وقال 28 عضواً في مجلس الشيوخ، في بيان مشترك مقتضب: "لمنع أي خسائر أخرى في أرواح المدنيين ومنع المزيد من تصعيد الصراع بإسرائيل والأراضي الفلسطينية، نحث على وقف فوري لإطلاق النار".
وجميع الموقعين على البيان هم من الحزب الديمقراطي، الذي ينتمي إليه الرئيس جو بايدن، ومن أبرز الموقعين على البيان بيرني ساندرز، تامي بالدوين، شيرود براون، كوري بوكر، توم كاربر، تامي داكوورث، ديك دوربين، جاك ريد، تينا سميث وكريس فان هولين، وبالتزامن مع ذلك، أصدر 8 من أعضاء بمجلس النواب، دعوة مشابهة لوقف فوري لإطلاق النار.
وقالوا في بيان مشترك: "أدى اندلاع أعمال العنف الأخيرة في إسرائيل وغزة إلى سقوط مئات الضحايا"، وأضافوا: "من الضرورة القصوى أن يتم وقف فوري لإطلاق النار وتجنب المزيد من إراقة الدماء. البديل هو مأساة إنسانية تتكشف بأبعاد لا يمكن تصورها"، وحث البيان، إدارة الرئيس بايدن، على "القيادة بجرأة واتخاذ إجراءات حاسمة"، باتجاه وقف إطلاق النار.
نتنياهو أشعل الحريق، فكيف يتم إخماده؟
ومن الصعب الآن حصر خسائر إسرائيل في جميع المجالات وربما يأتي وقت ذلك لاحقاً، لكن بشكل عام يمكن التوقف عند الملف السياسي وتحديداً المكاسب التي كانت الدولة العبرية قد حققتها خلال رئاسة دونالد ترامب، من نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة والاعتراف بضم هضبة الجولان وإعطاء الضوء الأخضر لضم المستوطنات التي تشغل معظم أراضي الضفة الغربية المحتلة – وكلها قرارات مخالفة للقانون الدولي والقرارات الأممية ذات الصلة – وأخيراً اتفاقيات التطبيع مع الإمارات والبحرين والسودان والمغرب.
وإذا توقفنا عند النقطة الأخيرة الخاصة بالتطبيع، فنجد أن إسرائيل لم تجد دعماً كانت تنتظره على الأرجح من جانب الدول التي طبعت معها، فتلك الدول وعلى رأسها الإمارات وجدت نفسها مجبرة على إدانة العدوان الإسرائيلي – ولو من خلال بيانات فقط – بسبب الهبة الشعبية الجارفة دعماً للقدس وللمحاصرين في قطاع غزة.
وها هي جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي تعقدان اجتماعات طارئة منددة بالعدوان الإسرائيلي، وأعلن وزير خارجية مصر سامح شكري أن قضية فلسطين هي القضية الأولى للعرب جميعاً، وهذا التحول يمثل صدمة بلا شك لإسرائيل التي كانت تمني النفس بأن "اتفاقيات أبراهام" (التطبيع على طريقة ترامب) كانت المسمار الأخير في نعش القضية الفلسطينية.
أما اقتصادياً فإسرائيل تخسر عشرات الملايين من الدولارات بشكل يومي بسبب تكلفة التصدي لصواريخ المقاومة – صاروخ المقاومة يكلف متوسط 500 دولار بينما صاروخ قبة إسرائيل الحديدية للاعتراض يكلف متوسط 100 ألف دولار – ناهيك عن وقف العمل في حقل تمار للغاز واشتعال الحرائق في خط أنابيب إيلات-عسقلان وصهاريج المواد النفطية في ميناء عسقلان، هذا بخلاف إغلاق مطار بن غوريون وإلغاء عشرات الرحلات السياحية التي كانت مقررة خلال أيام إلى إسرائيل، وقائمة الخسائر لا تنتهي.
لكن ربما يكون اشتعال الوضع الداخلي في كافة مدن إسرائيل بعد أن انتفض فلسطينيو الداخل بسبب الاعتداءات على المسجد الأقصى وخطط التهجير في حي الشيخ جراح، مما حول شوارع إسرائيل إلى حرب أهلية، يمثل مأزقا حقيقيا تواجهه الدولة العبرية ولن يكون التعامل معه سهلاً أو ميسوراً بعد أن ينتهي العدوان الحالي ضد قطاع غزة، بحسب محللين.
أما كيف يمكن أن ينتهي هذا العدوان وما هي استراتيجية الحكومة الإسرائيلية برئاسة نتنياهو فتلك قصة أخرى، حيث إن نتنياهو ورط إسرائيل في تلك الكارثة دون أن تكون لديه أي استراتيجية واضحة لإنهائها، بحسب تقرير لصحيفة هآرتس الإسرائيلية عنوانه "إسرائيل ليس لديها استراتيجية لإنهاء الحرب في غزة".
ويرصد تحليل هآرتس كيف أن إسرائيل تدفع ثمن إقدامها على شن هذا العدوان على قطاع غزة دون أن يكون لديها استراتيجية واضحة أو أهداف تسعى لتحقيقها، والسبب بالطبع هو الموقف الداخلي على الساحة السياسية والذي يديره نتنياهو بهدف واحد وهو البقاء في السلطة.
الخلاصة هنا هي أن نتنياهو ورط إسرائيل في هذا العدوان على الفلسطينيين آملاَ في أن يفشل محاولات خصومه تشكيل حكومة من دونه، وهو ما قد يكون قد حققه، لكن إسرائيل تدفع ثمناً باهظاً لمحاولات رئيس وزرائها الهروب من دخول السجن كأسوأ نهاية لمشواره السياسي.