يشكو الجمهور العربي من انحياز فيسبوك وتويتر لرواية إسرائيل على حساب الرواية الفلسطينية، في ظل اشتعال الفضاء الافتراضي كما هو الحال على الأرض في غزة، فماذا عن تيك توك؟
وعلى الرغم من أن الحديث عن منصات التواصل الاجتماعي وما يدور عليها يبدو للبعض رفاهية في ظل الدماء التي تسيل على الأرض وجثامين الأطفال والنساء والرجال التي تدفن تحت الأنقاض في قطاع غزة بعد تكثيف إسرائيل عدوانها على القطاع وتدمير المباني السكنية بصورة يصفها الكثيرون "بالوحشية"، فإن الأغلبية من المتابعين لما يجري يرون أن معركة "القلوب والعقول" في الفضاء الافتراضي أصبحت مسألة حتمية.
ومنذ أن بدأت الشرارة الأولى للتصعيد الإسرائيلي الحالي من خلال قرار تهجير عائلات فلسطينية من منازلهم في حي الشيخ جراح في القدس الشرقية المحتلة وتسكين مستوطنين إسرائيليين مكانهم في إطار خطة التهويد الكامل للقدس، أصبحت منصات التواصل الاجتماعي -وخصوصاً فيسبوك وتويتر- ساحة لتعبير كل طرف عن وجهة نظره ومحاولة كسب التأييد من المستخدمين لتلك المنصات حول العالم.
اتهامات لفيسبوك بالتضييق على المحتوى الفلسطيني
وكان لافتاً أن عدداً كبيراً من النشطاء العرب على منصات التواصل الاجتماعي، وبصفة خاصة فيسبوك وتويتر، قد تعرضوا إما لإنذارات بالحظر أو حظر مؤقت أو إغلاق لحساباتهم بسبب ما قالوا إنه مناصرتهم لفلسطين وانتقادهم للعدوان الإسرائيلي، ثم تكررت نفس الشكوى ولا تزال من جانب كثير من المستخدمين العاديين لتلك المنصات، وبخاصة فيسبوك وتويتر.
وربما يكمن السر فيما كشف عنه تقرير لموقع The Intercept قبل يومين فقط من قيام فيسبوك بتغيير الخوارزمية التي يستخدمها في الرقابة على المحتوى الذي ينشره مستخدمو التطبيق، دون أن يعلن عملاق منصات التواصل الاجتماعي عن تلك التغييرات.
ويمكن اختصار ذلك التغيير الذي قام به فيسبوك في ربط كلمة "صهيوني" باليهودية وبإسرائيل، بمعنى أن أي محتوى يوجه انتقاداً للصهيونية يعتبره فيسبوك ضمنياً أنه انتقاد لليهودية ولإسرائيل ومن ثم يصنفه على أنه محتوى يحض على نشر الكراهية ويحرض على العنف ويقوم بحذفه وحظر حساب صاحبه.
وبحسب تقرير The Intercept القائم على قواعد فيسبوك الداخلية، والتي يقول الموقع إنه اطلع عليها، يبدو أن تلك القواعد معمول بها منذ عام 2019. لكن مع تصدر الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة للمشهد إقليمياً وعالمياً، بدأ تطبيق تلك القواعد يأخذ شكلاً أكثر تكثيفاً وهو ما لفت الأنظار لما يحدث.
ويمثل هذا الأمر تناقضاً بين زعم فيسبوك في مارس/آذار الماضي أنه لم يتم اتخاذ قرار بشأن ما إذا كان سيتم اعتماد مصطلح صهيوني على أنه مرادف ليهودي عند تحديد المحتوى الذي يمثل "خطاب كراهية"، وبين ما يحدث بالفعل، فقد كشفت التجربة العملية منذ التصعيد الإسرائيلي الأخير في حي الشيخ جراح وباب العامود والمسجد الأقصى وما أدى إليه من رشق المقاومة لإسرائيل بالصواريخ وشن جيش الاحتلال حرباً شعواء على قطاع غزة، أن فيسبوك وإنستغرام التابع له ومعهما أيضاً تويتر تطبق بالفعل سياسة مساواة الصهيونية باليهودية وانتقاد إسرائيل، وهو ما أكده بالفعل تقرير The Intercept.
ويواجه فيسبوك وإنستغرام انتقادات واتهامات بالرقابة لصالح إسرائيل بعد حملة الحذف الجماعي المستفزة لجميع المنشورات التي تنتقد العنف والإرهاب الذي تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينيين.
وقال داني نوبل أحد الناشطين في منظمة الصوت اليهودي من أجل السلام لموقع The Intercept: "يزعم فيسبوك أن سياسته فيما يتعلق بكلمة (صهيوني) مرتبطة بسلامة اليهود. لكن، بحسب سياسة المحتوى الخاصة بفيسبوك نفسه، يبدو أن صانعي سياسات فيسبوك أكثر اهتماماً بحماية المستوطنين الإسرائيليين من الصهيونيين والحكومة الإسرائيلية كي لا يتحملوا مسؤولية الجرائم التي يرتكبونها".
وعلى الرغم من أن عمليات حذف المحتوى من جانب فيسبوك وإنستغرام غير مرتبطة حصرياً بمصطلح "صهيوني"، فإن أصحاب الحسابات والنشطاء المؤيدين لحقوق الشعب الفلسطيني قد استفزهم حذف المنشورات ورسائل التهديد بالحظر التي تطاردهم من جانب عملاق منصات التواصل الاجتماعي.
واللافت هنا أن إدارة فيسبوك زعمت -كعادتها عندما تواجه حملات انتقاد جماعية ودعوات للمقاطعة- أن حذف المحتوى الذي يوثق عنف دولة إسرائيل ليس إلا مجرد "حادث عرضي غير مقصود"، وهذا ما جادلت به صوفي فوغيل المتحدثة باسم الشركة في بريد إلكتروني أرسلته لموقع The Intercept.
فقد ألقت فوغيل باللوم في حذف المنشورات، التي ترصد وتوثق في أغلبها، محاولات المستوطنين الإسرائيليين الاستيلاء على منازل الفلسطينيين، على "قضية تقنية أعمق" في تطبيق إنستغرام وعلى سلسلة من "عمليات الحذف غير المقصود" و"الأخطاء البشرية".
وعلى الرغم من أن إدارة فيسبوك لم ترد على تساؤلات الموقع بشأن تطبيق السياسات الخاصة بتصنيف مصطلح "صهيوني" على أنه مرادف ليهودي وإسرائيلي، إلا أن الشكاوى المتكررة وحظر الحسابات والمحتوى الذي تحول لظاهرة في المنطقة العربية منذ الأسبوع الماضي يشير إلى أنها على الأرجح مطبقة بالفعل.
ماذا عن تيك توك إذن؟
وفي خضم الزخم الكبير الذي تحظى به الأحداث التي تشهدها فلسطين بشكل عام وبخاصة العدوان على غزة وقبله الاعتداءات في حي الشيخ جراح وباب العامود والمسجد الأقصى في القدس المحتلة، انتقلت المعركة بين الداعمين للفلسطينيين والمدافعين عن إسرائيل إلى منصة اجتماعية تبدو غريبة إلى حد كبير نظراً لطبيعتها ولطبيعة الأحداث.
الحديث هنا عن تطبيق تيك توك الصيني والمعروف أنه تطبيق لمقاطع الفيديو القصيرة ويغلب على طبيعة المحتوى عليه الجانب الترفيهي ولم يكن يعرف عنه أنه مجال للسجالات السياسية قبل الآن.
لكن مع تصاعد حدة الأحداث وسخونتها على الأرض، يبدو أن تيك توك قد تحول سريعاً إلى ما يمكن وصفه بالمنتدى الذي يشهد جدالاً وصراعاً كبيرين بين جمهور طرفي الصراع.
ويتمتع الموقع المملوك للصينيين بجمهور واسع، معظمهم من الشباب، مع ما يقدر بنحو 700 مليون مستخدم نشط شهرياً في جميع أنحاء العالم، وتحول التطبيق، الذي كان معروفاً في المقام الأول بمقاطع الرقص الرائجة، إلى منصة رئيسية لمشاركة أخبار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
وانتشرت صور إطلاق الصواريخ فوق إسرائيل والدمار في غزة والاحتجاجات الفلسطينية على الموقع، جالبة الصراع إلى شاشات هواتف الناس في جميع أنحاء العالم، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
وكانت التوترات بين الفلسطينيين والإسرائيليين قد اندلعت على تيك توك قبل أن تشتعل على الأرض بالصورة الجارية حالياً، إذ انتشر مقطع فيديو عبر تيك توك في أبريل/نيسان لمراهقين في القدس الشرقية وهم يصفعون صبيين يهوديين في إحدى حافلات النقل العام، واعتقلت الشرطة اثنين مشتبه بهما في الأسبوع التالي.
وبدأت مقاطع الاحتجاج تظهر أيضاً على تيك توك، ونشر المستخدمون في جميع أنحاء العالم مقاطع فيديو تحت وسم #SaveSheikhJarrah، في إشارة إلى التهديد بإجلاء عائلات فلسطينية من حي الشيخ جراح في القدس الشرقية المحتلة.
ويرى كريس ستوكلي ووكر -مؤلف كتاب "طفرة وسائل التواصل الاجتماعي: السباق بين الصين وأمريكا والقوى العظمى للسيطرة عليها"- أن سهولة استخدام تيك توك وشعبيته الهائلة سمحت بالانتشار السريع لمحتواه.
وقال ووكر لبي بي سي: "إن إنشاء فيديو من خلال التطبيق أمر بسيط للغاية، بحيث يمكن لأي شخص بدءاً من سن 12 إلى 90 عاماً أن يقوم بذلك بنفسه، دون الحاجة إلى قدر كبير من الذكاء التقني"، مضيفاً "أنه أيضاً حجم الجمهور؛ فنحن نعلم أن التطبيق لديه ما يقرب من 732 مليون مستخدم نشط شهرياً في جميع أنحاء العالم. لذلك إذا كنت تنشر محتوى ما، فمن المحتمل أن يراه الكثير من الناس".
ويروّج مستخدمو تيك توك -جنباً إلى جنب مع مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى مثل فيسبوك، إنستغرام، وتويتر- هاشتاغ #SaveSheikhJarrah إلى جانب لقطات من الاشتباكات مع قوات الأمن الإسرائيلية، فضلاً عن الوضع على الأرض في غزة.
ونشر موقع Muslim الإخباري ومقره الولايات المتحدة مقطع فيديو تحت الهاشتاغ نفسه، وحصد 44 مليون مشاهدة عبر تيك توك، ويظهر فيه أشخاص يزعم أنهم يفرون من الضربات الإسرائيلية في غزة.
وحظي فيديو آخر لمستخدمة تعرف نفسها بـ"صابرينا أبوخضير" بأكثر من 1.5 مليون مشاهدة، ويظهر فيه أطفال فلسطينيون يبكون، وتدمير مبنى شاهق في غزة، وكتبت صابرينا: "أنتم يا شباب تعرفون ماذا عليكم أن تفعلوا"، وذلك لحث الناس على مشاركة الفيديو.
ونشر مؤيدو إسرائيل على الجانب المقابل أيضاً على تيك توك، إذ حظي مقطع فيديو يُزعم أنه يظهر جندياً إسرائيلياً، وهو يحمي امرأة فلسطينية من الحجارة التي ألقاها المتظاهرون الفلسطينيون، بأكثر من 1.5 مليون مشاهدة على التطبيق.
ويتمتع جيش الاحتلال الإسرائيلي بوجود قوي على الإنترنت، فلديه 1.3 مليون متابع على تويتر وأكثر من 70 ألف متابع على تيك توك، حيث ينشر مقاطع فيديو لقواته أثناء القتال ومشاهد من داخل إسرائيل.
وتستغل إسرائيل منصات التواصل للترويج لمزاعمها، لكن اليوم الأحد 16 مايو/أيار ورطت وزارة الدفاع الإسرائيلية نفسها في نشر مقاطع فيديو زائفة ومفبركة بعدما نشرت مقطع فيديو دعائي على حساباتها المتعددة على شبكات التواصل الاجتماعي، عرضت فيه لقطات لمنصتي صواريخ زعمت أن حركة "حماس" تستخدمهما داخل الأحياء، في حين أن المنطقة التي ظهرت بها المنصتان موجودة داخل الأراضي المحتلة، ويرجع تاريخ المقاطع إلى سنوات مضت.
ولاحقاً وعلى نحو مفاجئ حذفت حسابات وزارة الدفاع الإسرائيلية الفيديو، بحسب ما رصده "عربي بوست" بعد تغريدات شككت في مزاعم إسرائيل بأن المكان موجود في غزة، لكن لا تزال هنالك نسخة منه على موقع يوتيوب.
ويبدو أن الداعمين للموقف الفلسطيني لا يعانون من سياسات تمييزية ضدهم على تيك توك -كما هو الحال على فيسبوك وإنستغرام وتويتر- إذ قال الدكتور غابرييل ويمان من جامعة حيفا في إسرائيل، لهيئة الإذاعة البريطانية إن هناك معركة على "قلوب وعقول" مستخدمي الإنترنت، وحتى الآن "ليست حرباً متساوية".
وقال لبي بي سي: "من الجانب الإسرائيلي ترى تدفقاً مضاداً. يجب أن أقول إنه أقل قوة وغير منظم على الإطلاق، وإذا سألتني فهو أقل إقناعاً. ربما لأن أحداً في إسرائيل لم يعتقد أن تيك توك ستكون منصة قوية أو مهمة".