"قصفت الطائرات الإسرائيلية منزلاً في غزة وقتلت أسرة بأكملها"، وبعد أن احتلت المجزرة عناوين الأخبار حول العالم، دمرت إسرائيل برج الجلاء مقر كثير من وسائل الإعلام العالمية.
وأمس السبت 15 مايو/أيار دمرت إسرائيل برج الجلاء وهو برج سكني يتألف من 12 طابقاً في مدينة غزة ويضم مكتب وكالة أسوشيتد برس (Associated Press) الأمريكية ومكاتب وسائل إعلامية أخرى، منها أيضاً مكاتب قناة تلفزيون الجزيرة ومقرها قطر فضلاً عن مكاتب وشقق سكنية أخرى.
وأظهرت ردود الأفعال الدولية على استهداف الاحتلال الإسرائيلي لبرج الجلاء، أن الهدف المباشر لذلك العدوان هو منع تغطية ما تقوم به إسرائيل في القطاع المحاصر منذ الإثنين 10 مايو/أيار، بعد أن بات واضحاً أن إسرائيل تخسر التعاطف الدولي معها لصالح الفلسطينيين.
ردود أفعال دولية على تصرف إسرائيل "الوحشي"
وصف الرئيس التنفيذي لوكالة أسوشيتد برس غاري برويت تدمير إسرائيل لبرج الجلاء بأنه "تطور مزعج بشكل لا يصدق"، وقال إن 12 صحفياً ومتعاقداً من العاملين بالوكالة كانوا بالمبنى وتم إجلاؤهم في الوقت المناسب، بحسب تقرير لرويترز.
وأضاف في بيان "شعرنا بالصدمة والذعر عندما علمنا أن الجيش الإسرائيلي سيستهدف ويدمر المبنى الذي يضم مكتب أسوشيتد برس ومكاتب مؤسسات إعلامية أخرى في غزة… لن يعلم العالم الكثير عما يحدث في غزة بسبب ما حدث اليوم".
وقال نادي الصحافة الوطني ومقره واشنطن، إن تدمير البرج في غزة جاء في أعقاب "قصف طائرات حربية إسرائيلية لمبنيين آخرين يضمان أكثر من 12 وسيلة إعلام" يومي 11 و12 مايو/أيار، وأضاف في بيان "هذا الاتجاه يثير التساؤل عما إذا كانت القوات الإسرائيلية تهاجم هذه المنشآت لتعطيل التغطية المستقلة والدقيقة للصراع".
واتهمت النائبة رشيدة طليب، العضو الديمقراطية في مجلس النواب الأمريكي والابنة لمهاجرين فلسطينيين، إسرائيل على تويتر باستهداف وسائل الإعلام حتى "لا يرى العالم الفلسطينيين يُذبحون".
وقال المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن إن إسرائيل أضافت انتهاكاً جديداً إلى سجل انتهاكاتها وجرائمها عبر استهدافها الصحافة الدولية.
وأعرب قالن عن إدانته لـ"الوحشية التي لا تعرف القيم والحدود"، قائلاً إن "معركتنا ضد هذه القوة الخبيثة ستستمر حتى ينتهي الاحتلال وتحرر فلسطين بأكملها".
وقال ممثلون للمكاتب الصحفية التي دمرتها إسرائيل، في غزة لوكالة الأناضول إن تل أبيب تمارس سياسة "الإرهاب"، وتسعى إلى "حجب الصوت والصورة الفلسطينية".
ووصف الإعلاميون، في مقابلات منفصلة لوكالة "الأناضول"، استهداف مقراتهم الصحفية بـ"السياسة الإجرامية"، وأجمع الإعلاميون على أن المبنى الذي تعرض للتدمير، "سكني ومدني"، وبعيد عن أي عمل عسكري.
نتنياهو ومزاعمه والدعم الأمريكي
إسرائيل، من جانبها، زعمت أن برج الجلاء كان يضم "أصولاً عسكرية" لحركة حماس، على الرغم من أن البرج يضم مكاتب إعلامية دولية ومستقلة لم تنتقل إليه مؤخراً بل موجودة وتمارس عملها منذ سنوات وخصوصاً مكاتب أسوشيتد برس الأمريكية الموجودة في برج الجلاء منذ 11 عاماً، وبالتالي لو كانت هناك أية مؤشرات على وجود تلك "الأصول العسكرية لحماس" لم تكن لتبقى سراً.
لكن المتحدث باسم جيش الاحتلال اللفتنانت كولونيل جوناثان كونريكوس رفض ما يتردد عن سعي إسرائيل لإسكات وسائل الإعلام. وقال لرويترز "هذا قول زائف تماماً. الإعلام ليس الهدف على الإطلاق".
ووصف كونريكوس المبنى بأنه هدف عسكري مشروع، قائلاً إنه يضم المخابرات العسكرية لحماس، وأضاف أن حماس ربما خلصت إلى أنها بوضع "أصول" تابعة لها داخل مبنى به مكاتب وسائل إعلامية "فإنها كانت تأمل على الأرجح أنها ستكون في مأمن من الهجوم الإسرائيلي".
اللافت أن تدمير برج الجلاء جاء بعد يوم من وصول هادي عمرو مبعوث الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى إسرائيل وسط جهود دبلوماسية لاستعادة الهدوء وقبل اجتماع مجلس الأمن الدولي المقرر اليوم الأحد 16 مايو/أيار.
وزعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال اتصال هاتفي السبت مع بايدن أن إسرائيل "تفعل كل ما في وسعها لتجنب الإضرار" بمن لا يشاركون في قتالها مع حماس وجماعات أخرى في غزة.
وقال نتنياهو إن الدليل على ذلك هو أنه خلال الضربات الإسرائيلية الأخيرة على أبراج متعددة الطوابق "حيث هاجم الجيش الإسرائيلي أهدافاً إرهابية، تم إجلاء غير المقاتلين"، بحسب ملخص المكالمة الهاتفية الصادر عن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي.
ولم تصدر الإدارة الأمريكية بياناً يدين تدمير برج الجلاء واستهداف المكاتب الإعلامية، وإنما اكتفت بالقول إنها طلبت من إسرائيل ضمان سلامة الصحفيين، وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي على تويتر "تواصلنا مباشرة مع الإسرائيليين لضمان أن سلامة وأمن الصحفيين ووسائل الإعلام المستقلة مسؤولية أساسية".
بينما قال متحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية في بيان إن وزير الخارجية في إدارة بايدن أنتوني بلينكن تحدث مع برويت مساء السبت و"أبدى دعمه الثابت للصحفيين المستقلين والمؤسسات الإعلامية في جميع أنحاء العالم".
وحتى صباح اليوم بلغ عدد الشهداء الذين سقطوا في قطاع غزة جراء العدوان الإسرائيلي -في يومه السابع- 176 شهيداً عشرات منهم أطفال وسيدات، كما أصيب أكثر من ألفي شخص، والعدد يزداد طوال الوقت مع تواصل جهود إخراج الضحايا من تحت أنقاض المباني والأبراج السكنية التي تستهدفها طائرات الاحتلال في انتهاك مباشر ومتكرر لجميع الأعراف القانونية والأخلاقية الخاصة بالصراعات المسلحة، بحسب منظمات حقوقية وقانونية أممية.
استهداف المدنيين في غزة والتعتيم الإعلامي
يرى كثير من المراقبين من خلال تطور العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة أن هناك توجهاً واضحاً هدفه إجبار فصائل المقاومة على الاستسلام ووقف إطلاق الصواريخ من القطاع وذلك من خلال استهداف البنية التحتية من مقرات شركات وبنوك ومحطات مياه وطاقة، إلى تدمير الأبراج والمباني السكنية وإيقاع أعداد كبيرة من الضحايا، وهو ما أدى إلى ارتفاع الأصوات المنددة بتلك الاعتداءات التي يصنفها القانون الدولي على أنها "جرائم حرب".
وبالتالي جاء تدمير برج الجلاء والمباني الأخرى التي تتواجد فيها مكاتب وسائل الإعلام الدولية حتى لا يتم نقل تفاصيل تلك الجرائم الإسرائيلية إلى العالم، وخصوصاً بعد أن أدى استشهاد 10 أفراد من عائلة واحدة في مخيم الشاطئ في قطاع غزة (8 أطفال وسيدتين) إلى اندلاع مظاهرات عديدة حول العالم تندد بالجرائم الإسرائيلية.
وتتناقض تلك الحقائق بشكل صارخ مع المزاعم التي رددها نتنياهو للرئيس الأمريكي بشأن تجنب إسرائيل استهداف المدنيين في قطاع غزة، وخصوصاً أن ساكن البيت الأبيض يواجه انتقادات متصاعدة من جانب المشرعين الديمقراطيين الرافضين للدعم المطلق من واشنطن لحكومة يمينية متطرفة في تل أبيب يرأسها نتنياهو.
ويتعلق العنصر الآخر في الصورة بالخسائر الاقتصادية والبشرية التي تعاني منها إسرائيل من جراء صواريخ المقاومة الفلسطينية من قطاع غزة. تلك الصواريخ كشفت مبالغة إسرائيل في تصوير قدرات قبتها الحديدية بعد أن أصاب كثير من تلك الصواريخ أهدافاً في أغلب المدن الإسرائيلية.
تسببت صواريخ المقاومة -التي فشل جيش الاحتلال في منع إطلاقها وفشلت القبة الحديدية في اعتراضها بشكل كامل- في وقف العمل بمطار بن غوريون الدولي في تل أبيب ووقف أغلب شركات الطيران العالمية والإقليمية رحلاتها إلى إسرائيل، كما يقضي أغلب سكان إسرائيل أوقاتهم في الملاجئ، إضافة إلى تحول شوارع بعض المدن مثل اللد وغيرها إلى ساحات حرب بين الإسرائيليين وفلسطينيي الداخل.
هذه العوامل وغيرها تقف سبباً مباشراً في تكثيف جيش الاحتلال استهدافه للأبراج والمباني السكنية في قطاع غزة المحاصر، وبالتالي ضرورة إسكات وسائل الإعلام المتواجدة داخل القطاع حتى لا توثق الجرائم الإسرائيلية وتضيف مزيداً من الضغوط على حكومة نتنياهو، خصوصاً أن رئيس الوزراء المتهم بالفساد قد أشعل هذا الحريق من البداية على أمل أن يظل في منصبه ويتجنب الإدانة ودخول السجن، وهو ما قد يتحقق له، والسؤال: بأي ثمن؟