عادت المواجهات بين قوات الاحتلال الإسرائيلي والفلسطينيين على نحو أشد شراسة وأوسع نطاقاً، في مدة أسرع بكثير مما كان متوقعاً عند توقيع اتفاقيات التطبيع العام الماضي، وهو ما قد يغير حسابات القوى الإقليمية والدولية التوّاقة إلى فضِّ يدها من الصراع المستمر منذ فترة طويلة، كما يذكر تقرير لصحيفة The Independent البريطانية.
بدأ التسلسل الأخير للأحداث بعد محاولات مستوطنين إسرائيليين الاستيلاء على ممتلكات ومنازل لفلسطينيين في القدس، وهجماتٍ شنتها القوات الإسرائيلية على المسجد الأقصى، بعدها ردَّت حركتا حماس والجهاد الإسلامي المتمركزتان في غزة بإطلاق وابل من الصواريخ على إسرائيل، التي لم تنقطع غاراتها الجوية على القطاع طوال الفترة الماضية، غير أنها ازدادت حدة وكثافة على مدى الأيام السابقة.
تراجع التطبيع
تسببت الهجمات الإسرائيلية في سقوط عشرات من المدنيين الفلسطينيين شهداء، والتقطت كاميرات الهواتف المحمولة التفاصيل المروعة لعمليات التصعيد، وبثتها شاشات التلفزيون ونشرتها وسائل التواصل الاجتماعي، ما أدَّى إلى إثارة مشاعر التعاطف في جميع أنحاء العالم. وأُدرِج اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي، يوم الأربعاء 12 مايو/أيار، بعد يومين من اجتماع آخر عُقد يوم الإثنين 10 مايو/أيار.
غير أن كل ذلك يأتي بعدما سعت كثير من دول العالم طوال الفترة الماضية إلى إزاحة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني المستمر منذ عقود عن صدارة الاهتمام وإيداعه أركان النسيان، لكن هذا الأمر لم يتحقق، وربما لن يتحقق كما يقول الكاتب الأمريكي توماس فريدمان بمقال له بصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية.
وعلى النحو نفسه، جاءت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى السلطة وفي نيتها إبعاد الولايات المتحدة عن شؤون الشرق الأوسط، والتركيز على منطقة الشرق الأقصى وجنوب آسيا وتحدياتها الداخلية. كما انصرف تركيز أوروبا والمملكة المتحدة عن الصراع العربي الإسرائيلي إلى جهود التعافي من أزمة جائحة كورونا، والتصدي لطموحات روسيا، واستعادة الاتفاق النووي الإيراني.
والأهم في هذا السياق أن دول الخليج بدأت منذ زمن بعيد في التقليل من أهمية القضية الفلسطينية. وفي العام الماضي وقعت الإمارات والبحرين اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل، وتبعتها دول عربية أخرى هي المغرب والسودان، في توقيع اتفاقيات تطبيع ترمي إلى إعلان حقبةٍ جديدة من التعاون.
أيضاً كان لافتاً هذه المرة الدور المصري المختلف في التعاطي مع الحرب على غزة، إذ فتحت القاهرة معبر رفح الحدودي مع قطاع غزة لاستقبال الجرحى والمصابين للعلاج، كما زادت حدة التصريحات المصرية ضد إسرائيل وعملياتها في القدس وغزة، ما يثير التساؤل عن تراجع موجة التطبيع التي كانت على أشدها قبل هذا التصعيد، ولم يعد يقف في خندق إسرائيل ولو دون إفصاح إلا الإمارات التي أصبحت "عراب" التطبيع في الفترة الأخيرة.
يقول مايكل ستيفنز، وهو محلل سياسي سابق بوزارة الخارجية البريطانية، إن الأحداث الأخيرة "تبيِّن أنك إذا حاولت تجاهل الشرق الأوسط فإن لديه القدرة على إعادتك إلى فلك الاهتمام به، وبالفعل لقد تصاعدت المواجهة الآن إلى حدٍّ لا يمكن معه تجاهل ما يحدث".
مع ذلك، فحتى الآن لم يكن لتصاعُد المواجهات تداعيات دبلوماسية فورية، وإن كانت معظم الدول العربية والدول ذات الأغلبية المسلمة، مثل تركيا وإيران، أعلنت إدانتها لمحاولة المستوطنين الإسرائيليين الاستيلاء على منازل الفلسطينيين في حي الشيخ جرَّاح، ومهاجمة قوات الاحتلال للمسجد الأقصى.
ورغم ضعف الاحتمالات بأن تُقدِم أي من تلك الدول على قطع أو حتى خفض العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل بسبب المواجهات المستمرة، فإن المرجح أن يؤدي التصعيد الجاري إلى تعقيد السبل أمام العلاقات الناشئة بين الإمارات والبحرين مع إسرائيل، وهو ما قد يفضي بدوره إلى تقويض أي محاولات لضم السعودية أو الكويت أو عُمان أو أي دولة عربية أخرى إلى اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل.
يقول جورجيو كافييرو، وهو رئيس شركة Gulf State Analytics الأمريكية العاملة في مجال إدارة المخاطر الجيواستراتيجية، إن "إدارة ترامب أرادت من الحكومات العربية دفن القضية الفلسطينية بدلاً من السعي لحلِّها. غير أن الأحداث التي وقعت هذا الشهر، ولا تزال مستمرة، تبيِّن أن تلك الرغبة مستحيلة التحقق تماماً".
تحايل إماراتي
فبعد أيام من الضغط عبر وسائل التواصل الاجتماعي والصور التي نشرتها وكالات الأنباء في جميع أنحاء العالم لمقتل أطفال فلسطينيين في غارات جوية إسرائيلية، اضطر ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، إلى إصدار بيان "يُعبر فيه عن قلق بلاده إزاء أحداث العنف التي شهدتها القدس الشرقية"، كما دعا البيان إلى "إنهاء الاعتداءات والممارسات التي تؤدي إلى استمرار حالة التوتر والاحتقان"، بحسب وكالة أنباء الإمارات (وام) الرسمية.
يقول أندرياس كريغ، وهو متخصص في شؤون الشرق الأوسط في جامعة كينغز كوليدج البريطانية: "هذه [البيانات] ليست إلا واجهة للتحايل على الدعوات القائلة إن (علينا أن نفعل شيئاً ما). فالواقع أنهم لطالما غضوا الطرف عن محنة الفلسطينيين، وهناك حالة من اللامبالاة على مستوى الأنظمة تجاه القضية الفلسطينية".
واستدل كريغ بأن شخصيات بارزة في الإمارات ذهبت في كتاباتها على مواقع التواصل الاجتماعي إلى أبعد حتى من مجرد التجاهل، إذ تبنَّت مباشرة الخطاب المعادي للفلسطينيين بصورته التي يقدمها اليمين الإسرائيلي المتطرف.
وأشار كريغ، فيما يتعلق بالإمارات، إلى أن "العلاقة مع إسرائيل ليست مجرد وسيلة للفوز بود واشنطن، بل إنها تقوم أيضاً على نوعٍ من التآزر الفكري حول عديد من وجهات النظر في القضايا العالمية".
لطالما سعى القادة الخليجيون إلى تجاهل القضية الفلسطينية، لكن هذه المرة قد يكون شركاء إسرائيل الجدد من العرب في حرجٍ حقيقي، فالانتقادات لهم تتصاعد على وسائل التواصل الاجتماعي لأنهم لم يفعلوا أي شيء للدفاع عن القضية الفلسطينية.
المستوطنون هم السبب
في المقابل، فإن وجهة النظر المنتشرة على نطاق واسع، حتى في الولايات المتحدة، فيما يتعلق بالمواجهات الأخيرة، أسبابها الرئيسية هي إصرار المستوطنين الإسرائيليين من اليمين المتطرف على استفزاز الفلسطينيين، ومن ثم فإن استمرار الأعمال العدوانية الإسرائيلية على هذا النحو من الضراوة قد يشكِّل تحدياً كبيراً لنهج اللامبالاة، الذي اختارت الأنظمة العربية التزامه حيال الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الفلسطينيين.
بالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من اتفاقات أبراهام، يبدو أن دول الخليج ليس لديها قدر النفوذ الذي يتيح لها الضغط على إسرائيل لوقف أعمالها العدائية، حتى وإن كانت هناك دلائل على أن بعض دول مجلس التعاون الخليجي كانت تسعى حقاً لمواكبة الرأي العام العربي، المؤيد بشدة للفلسطينيين.
يقول كافييرو: "الحكومات التي وقعت اتفاقيات تطبيع دبلوماسية مع إسرائيل العام الماضي تجد نفسها في مواقف صعبة اليوم".
وقد زادت تلك الضغوطات وطأة بفعل تصريحات الإدانة الصريحة وبيانات الدعم التي أصدرها قادة تركيا وإيران، ففي خطاب للرئيس الإيراني حسن روحاني، يوم الأربعاء 12 مايو/أيار، قال: "انظر مثلاً إلى دولة كبرى مثل مصر، أو انظر إلى الأردن، المجاورة لإسرائيل، لماذا هم صامتون؟"
يقول ستيفنز، المحلل السابق بوزارة الخارجية البريطانية: "بصفتك قائداً عربياً أنت مطالب بإظهار بعض الشعور بالمسؤولية تجاه القضية الفلسطينية، لا يمكنك التظاهر بأنك لا تدري ما الذي يحدث هناك. رُوِّجت اتفاقات أبراهام على أنها تمنح العرب نفوذاً على الإسرائيليين، لكن الواقع يبرهن على خلاف ذلك".