نصب الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه مدافعاً عن حقوق الإنسان في العالم، وانتهكت إسرائيل تلك الحقوق في القدس المحتلة والمسجد الأقصى، فماذا سيفعل؟
وزير الخارجية في إدارة بايدن قال مراراً إنّ الإدارة ستضع حقوق الإنسان "في محور" سياستها الخارجية: "الولايات المتحدة ملتزمةٌ بعالمٍ يحمي حقوق الإنسان، ويحتفي بالمدافعين عنها، ويُحاسب من ينتهكونها".
والتزمت إدارة بايدن بهذا المبدأ بفرضها عقوبات على روسيا بسبب محاولة تسميم ثم اعتقال وسجن أليكسي نافالني، المعارض الأبرز للرئيس فلاديمير بوتين، لكن الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بحسب مسؤولين ومراقبين أمريكيين، يمثل الاختبار الحقيقي لإدارة بايدن في مجال حقوق الإنسان، فكيف جاءت نتيجة ذلك الاختبار؟
تهجير الفلسطينيين من القدس الشرقية
نبدأ هنا من تقرير لموقع Vox الأمريكي عنوانه "الانتهاكات الإسرائيلية في القدس الشرقية هي اختبار لبايدن في مجال حقوق الإنسان"، رصد كيفية تفجر الوضع في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة بداية من محاولة إسرائيل إجلاء عدة أسر فلسطينية من منازلهم في حي الشيخ جراح في القدس الشرقية المحتلة وبناء مستوطنات على أنقاض تلك المنازل.
ومنذ بداية هذه الجولة من محاولة تهجير الفلسطينيين من منازلهم، حث الديمقراطيون والنشطاء والخبراء في الولايات المتحدة الرئيس جو بايدن على الحديث بقوة اعتراضاً على تصرفات إسرائيل، الدولة الحليفة للولايات المتحدة.
ورصد التقرير أن المشكلة هنا تكمن في أنّ بايدن وكبار مسؤوليه لم يتحدثوا، وهو ما فوّت فرصة تهدئة العنف وتجنب اندلاع صراع أوسع نطاقاً، وهو ما حدث بالفعل، إذ سعت المنظمات المؤيدة للمستوطنين الإسرائيليين طيلة عقود إلى طرد الفلسطينيين في القدس الشرقية من منازلهم وهدمها واستبدالها بمئات الوحدات السكنية لليهود.
وظلت هذه المسألة مصدراً للتوترات المستمرة، لكن الغضب زاد في أبريل/نيسان مع تواصل قضايا الإجلاء المرفوعة أمام المحاكم الإسرائيلية، مما دفع بالشرطة الإسرائيلية إلى زيادة وجودها حول المدينة والاشتباك مع المحتجين الفلسطينيين.
وأسفرت تلك المواجهة عن مشاهد مروعة، مثل منع الشرطة الإسرائيلية حافلات الفلسطينيين من الوصول إلى المسجد الأقصى للصلاة في إحدى أكثر ليالي رمضان قدسية، يوم السبت الماضي الثامن من مايو/أيار، بحسب تقرير الموقع الأمريكي.
لماذا لم يندد بايدن بالانتهاكات في المسجد الأقصى؟
وأشار خبراء إلى أنّ الخسائر السياسية للتنديد بانتهاكات إسرائيل أكبر بكثير من مكاسب تمسك الرئيس اسمياً بالسياسة الخارجية القائمة على احترام حقوق الإنسان، بحسب الموقع الأمريكي.
ففي فبراير/شباط، قال وزير الخارجية أنتوني بلينكن إنّ إدارة بايدن ستضع حقوق الإنسان "في محور" السياسة الخارجية الأمريكية. وأردف: الولايات المتحدة ملتزمةٌ بعالمٍ يحمي حقوق الإنسان، ويحتفي بالمدافعين عنها، ويُحاسب من ينتهكونها".
ورأى الخبراء أن التنديد بمحاولة إسرائيل إجلاء الفلسطينيين من منازلهم يمثل الوقت الأنسب للإدارة حتى تبرهن على أنها تعني ما تقوله، إذ قال شيبلي تلهامي، أستاذ السلام والتنمية في جامعة ماريلاند، لموقع Vox: "العالم يراقب، والأمر جلل. ويجب أن تُظهر الإدارة أنّها إدارة أفعال لا أقوال. ويجب أن تُبرهِن على ذلك وسط الظروف الصعبة، وليس حين يكون الأمر غير مكلف من الناحية السياسية".
وكانت الولايات المتحدة قد أصدرت بالفعل بيانات بشأن القضية. ففي الجمعة الماضي، السابع من مايو/أيار، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية نيد برايس: "ندعو المسؤولين الإسرائيليين والفلسطينيين إلى التحرك بشكلٍ حاسم من أجل تهدئة التوترات ووقف العنف". وبعدها بيومين، نشر البيت الأبيض نص محادثة مستشار الأمن القومي جاك سوليفان مع نظيره الإسرائيلي، وقال فيها إنّ الإدارة لديها "مخاوف كبيرة بشأن الأحداث الجارية في القدس".
لكنها خطوةٌ صغيرة للغاية بالنسبة للكثيرين، الذين يرون أنّ الأولى ببايدن أن يُدين الانتهاكات الإسرائيلية أمام الجميع، أو على الأقل بلينكن أو سوليفان.
ونشرت جمعية J Street، المناصرة لليبرالية التي تُركّز على إسرائيل، بياناً يوم الإثنين حثت فيه إدارة بايدن على "أن توضح للرأي العام أنّ جهود إسرائيل في إجلاء وتهجير الأسر الفلسطينية من القدس الشرقية والضفة الغربية غير مقبولة على الإطلاق بالنسبة للولايات المتحدة، كما هو الحال مع الاستخدام المتواصل للترهيب والعنف والقوة المفرطة ضد المحتجين والمصلين الفلسطينيين، خاصةً خلال شهر رمضان الكريم".
فتِّش عن المصلحة الأمريكية وليس المبادئ
لكن الآن وقد خرجت الأمور عن السيطرة على ما يبدو وأصبحت غزة وباقي الأراضي الفلسطينية المحتلة أهدافاً للنيران الإسرائيلية، وترد الفصائل الفلسطينية بمواصلة إطلاق صواريخها تجاه العمق الإسرائيلي، وجهت كريستيان أمامنبور، المذيعة المخضرمة في شبكة CNN، سؤالاً لآرون ديفيد ميلر الدبلوماسي الأمريكي المخضرم، والذي شارك في مفاوضات السلام على مدى أربع إدارات أمريكية سابقة، حول ما يمكن لإدارة بايدن القيام به سعياً لتهدئة الأمور.
وجاء رد ميلر مباشراً، إذ قال ضمنيا إن إدارة بايدن لا ترى مصلحة أمريكية في الضغط على إسرائيل كدولة محتلة كي تحترم أبسط القواعد التي يفرضها القانون الدولي بشأن الاحتلال والتزاماته تجاه الأراضي والسكان المحتلين.
وقال ميلر: "السؤال هنا ليس إذا ما كان هناك أي شيء يمكن للولايات المتحدة أن تقوم به، بل السؤال هو هل الولايات المتحدة راغبة وتمتلك إرادة سياسية للقيام بذلك؟ والإجابة تتعلق بما يدور في ذهن الرئيس جو بايدن، وهذا ما أفصح عنه بالفعل مؤخراً، أو اقترب من الإفصاح عنه بشكل مباشر، عندما قال إنه فيما يتعلق بالسياسة الخارجية لا توجد أي قضية لها أولوية إلا إذا كانت مرتبطة بالقضايا المحلية الرئيسية التي تواجهها إدارته".
واستطرد ميلر بالقول إنه في هذا الصدد تعتبر إيران قضية رئيسية، لأنها قد تتسبب في مواجهة ضخمة في المنطقة تؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط واضطراب الأسواق المالية، ومن ثم إضعاف إحدى أهم أولويات الرئيس على الإطلاق، وهي تعافي الاقتصاد الأمريكي.
"وبالتالي السؤال هنا يتعلق بأين يقع الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني في قائمة أولويات بايدن؟ والإجابة أن هذا الصراع حالياً يقع في مرتبة متدنية للغاية في سلم الأولويات".
وتؤكد قرارات بايدن وخطابه بمناسبة مرور 100 يوم من رئاسته ما ذهب إليه ميلر، ففيما يخص الشرق الأوسط ركز بايدن في قراراته على محاولة وقف الحرب في اليمن، بينما كشفت الأحداث على الأرض أن ذلك التحرك كان هدفه فتح قنوات اتصال مع إيران للتفاوض بشأن إعادة إحياء الاتفاق النووي، وهو ما يجري بالفعل الآن في فيينا، بحسب محللين.
والخلاصة، كما قال ميلر، هنا أنه يمكن أن تكون هناك أفكار مبتكرة وجيدة جداً لخطوات يمكن لإدارة بايدن أن تتخذها في هذا الصراع على الأقل لمنعه من المسار الذي وصلت إليه الأمور حالياً، لكن يظل السؤال قائماً بشأن هل ستتبنى الإدارة أي من تلك الأفكار؟
"الإجابة برأيي تأتي بالنفي، حتى بعد أن وصلت الأمور إلى نقطة الصراع الحالية والسبب هو نفسه: لا يعتقد بايدن أن الصراع هنا قد يتسبب في تداعيات مباشرة على أسعار النفط والأسواق وبالتالي التأثير على استعادة الاقتصاد الأمريكي لعافيته"، بحسب ميلر.
هل يضطر بايدن لتغيير موقفه من انتهاكات إسرائيل؟
ولا تتوقف المطالبات لبايدن بأن يضع حديثه المتكرر عن حقوق الإنسان موضع التنفيذ بشأن ما يحدث في الأراضي المحتلة، وخصوصاً في القدس، على الخبراء أو المراقبين أو المسؤولين السابقين، إذ كتب السيناتور الديمقراطي كريس فان هولين، عضو لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، تغريدةً يوم السبت الماضي، قبل أن تتفاقم الأمور، عبر فيها عن خطورة موقف إدارة بايدن.
كتب كريس: "إذا كانت إدارة بايدن تضع حقوق الإنسان وسيادة القانون في صميم سياستها الخارجية، فإنّ هذا ليس الوقت المناسب للبيانات الفاترة"، كما أرفق رابطاً لتصريح مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، الذي نصّ على أنّ عمليات الإجلاء قد ترقى لاعتبارها "جريمة حرب".
في حين غرّد السيناتور بيرني ساندرز، المرشح الرئاسي السابق، قائلاً: "يجب على الولايات المتحدة أن تُندّد بقوة بهذا العنف من جانب المتشددين الإسرائيليين الموالين للحكومة في القدس الشرقية وقطاع غزة، وأن توضح أنّ إجلاء الأسر الفلسطينية يجب أن يتوقف". كما أعرب عدد من المشرعين في مجلس النواب عن دعمهم للقضية الفلسطينية، بحسب تقرير موقع Vox.
في حين اختار بايدن وأبرز أعضاء إدارته عدم انتقاد إسرائيل علناً حتى الآن، واكتفوا بالتنديد بأفعال الجانبين. لكن تلهامي قال للموقع الأمريكي إنّ هناك أسباباً منطقية لذلك، منها حقيقة احتياج بايدن إلى دعم تل أبيب في العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وحقيقة أنّ القضية الفلسطينية لا تمثل أولويةً للعديد من الأمريكيين، ومع ذلك فقد قال إنّ "المشكلة هنا تتعلّق بالصورة العامة. وحين يحدث شيءٌ من هذا القبيل، يجب أن تأخذ موقفاً رغم كل شيء".
لكن من المستبعد أن تفعل إدارة بايدن ذلك، وفقاً لخالد الجندي من Middle East Institute، الذي قال للموقع إنهم إذا كانوا سيُدينون الحكومة الإسرائيلية بقوة، "لكانوا قد فعلوا ذلك منذ وقتٍ مبكر. ما الذي سيدفعهم إلى ذلك الآن؟ لحظة صفاءٍ مفاجئة!".
وقال خبراء إنّ هناك عدة طرق تمتلكها واشنطن لتوبيخ تل أبيب، مثل فرض العقوبات على إسرائيل أو تقليل مبيعات الأسلحة، لكنهم لا يعتقدون أنّ واشنطن ستسلك أياً من هذه الطرق، وحين يتعلق الأمر بدفاع الولايات المتحدة عن حقوق الإنسان، فسنجد "أن الفلسطينيين هم الاستثناء لتلك القاعدة عادةً"، بحسب الجندي الذي أوضح: "من سيضغط على الإسرائيليين بشأن حقوق الإنسان؟ لن تكون الولايات المتحدة بكل تأكيد".
وربما كانت هذه السلبية متوقعة، لكن ذلك لا يُقلل من إشكاليتها. وفي غياب دعوةٍ قوية ومنفتحة إلى إنهاء العنف، "فمن المحتمل بشدة أن تتصاعد الأوضاع إلى ما يشبه أحداث عام 2014″، وهو ما يبدو أنه يحدث بالفعل على الأرض، وخلص الجندي إلى أنه في حال حدوث ذلك، "فلن يكون أمام الولايات المتحدة خيارٌ سوى التدخل". والمفارقة هنا هو أنّ سلبية بايدن الآن قد تضطره إلى التورط بشكلٍ أعمق في صراعٍ متنامٍ مستقبلاً.