تقرير آخر وجزء آخر يضاف إلى الأهوال التي يبدو أن الجيشين الإثيوبي والإريتري ارتكباها في تيغراي، مما يضيق الخناق على رئيس الوزراء آبي أحمد رغم نفيه المتكرر واعترافه المتأخر.
فقبل أشهر من الآن بدا وكأن آبي أحمد قد حقق انتصاراً عسكرياً ساحقاً على "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي"، وهي حكومة الإقليم الإثيوبي التي وصفها رئيس الوزراء الحاصل على جائزة نوبل بأنها متمردة، ومؤخراً صنفتها حكومته "إرهابية"، لكن مع نزوح نحو ثلث سكان الإقليم وتحولهم كلاجئين، بدأت صورة ما جرى على الأرض فعلاً تتضح شيئاً فشيئاً.
وتعود جذور الصراع في إقليم تيغراي إلى التوترات بين الحكومة الإثيوبية الحالية برئاسة آبي أحمد وجبهة تحرير شعب تيغراي، التي حكمت إثيوبيا على رأس تحالف متعدد الأعراق على مدار ما يقرب من 3 عقود حتى أُطيح بها في احتجاجات شعبية عام 2018.
وتولّى آبي أحمد السلطة في ذلك العام ليكون أول رئيس وزراء إثيوبي من عرقية أورومو، وهي أكبر مجموعة عرقية في إثيوبيا، وبدأ آبي أحمد باتخاذ مجموعة من التغييرات الديمقراطية شملت تحرير السجناء السياسيين ودعوة جماعات المعارضة المنفية للعودة إلى البلاد وفاز بجائزة نوبل للسلام في عام 2019 لإنهاء الحرب مع دولة إريتريا المجاورة.
المقابر الجماعية في تيغراي
لكن سرعان ما بدأ ميل آبي أحمد الواضح إلى تعزيز سلطته المركزية، وهو ما أدى إلى التصادم مع الأورومو –القومية التي ينتمي إليها رئيس الوزراء– واندلاع احتجاجات ضخمة اعتراضاً على ميوله الاستبدادية، وهو ما واجهه آبي أحمد بالقوة والعنف واعتقال صديقه السابق جوهر محمد، وبعدها جاء الدور على جبهة تحرير شعب تيغراي.
وكان السبب المباشر لذلك التوتر بين آبي أحمد والجبهة هو تأجيل رئيس الوزراء للانتخابات العامة في البلاد بسبب جائحة كورونا، وهو ما رفضته الجبهة التي تحكم إقليم تيغراي، ومن ثم وصلت الأمور إلى شن آبي أحمد حرباً شاملة ضد إقليم تيغراي مطلع نوفمبر/تشرين الثاني وإعلان آبي أحمد تحقيق الانتصار وانتهاء الحرب بعد أقل من شهر.
ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن يخضع إقليم تيغراي لعملية تعتيم كاملة من جانب أديس أبابا، حيث لا يسمح لأي وسائل إعلام مستقلة محلية أو أجنبية بدخول الإقليم، لكن العدد الكبير من النازحين والذي وصل إلى 1.7 مليون شخص يمثلون نحو ثلث سكان تيغراي البالغ 6 ملايين نسمة وفر فرصة للهيئات والمنظمات ووسائل الإعلام من استيعاب ما يجري على الأرض فعلياً.
وفي هذا السياق، نشرت صحيفة The Times البريطانية تقريراً بعنوان "الجثث تتراكم بينما تنكشف الأهوال الخفية للحرب الإثيوبية في إقليم تيغراي"، رصد جانباً آخر من الصورة القاتمة، ليضيف إلى التقارير السابقة الخاصة باستخدام الاغتصاب كسلاح في تلك الحرب وأيضاً التقارير التي كشفت دور القوات الإريترية وميليشيات قومية الأمهرة فيما وصف بأنها جرائم تطهير عِرقي في تيغراي.
وبحسب تقرير The Times، كانت عائلة يبرة قد تجمّعت، مثل بقية سكان قرية دينغلات في إقليم تيغراي، أقصى شمال إثيوبيا، للاحتفال بعيد المسيحيين الأرثوذكس في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
وشاهد يبرة، من مخبئه وسط الأشجار، مجموعة من الجنود يصلون إلى منزل عائلته ويقودون أقاربه الرجال إلى مجرى نهر جاف قريب، حيث أطلقوا النار عليهم واحداً تلو الآخر ليتحوّل الاحتفال إلى مذبحة، قال يبرة للصحيفة البريطانية وهو يبكي: "لقد رأيت كل شيء"، مضيفاً: "لطالما توسلت إليهم كي يغادروا القرية ويهربوا بعيداً، لكنهم لم يستمعوا لي".
باتت المقابر الجماعية منتشرة الآن في جميع أنحاء إقليم تيغراي، فضلاً عن بقايا الأحزمة والحبال التي قال شهود عيان إنَّها اُستخدمت لربط العديد من الضحايا قبل إطلاق النار عليهم.
ويسهل العثور على مواقع المقابر الجماعية، التي ميّزها السكان المحليون بحجارة مطلية باللون الأزرق الفاتح على أمل أن ترصدها الأقمار الصناعية من الفضاء وتشهد على الفظائع التي يتعرضون لها جراء الحرب الإثيوبية في الإقليم. قال سكان محليون إنَّ إحدى المقابر تحوي جثث عشرات الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و 22 عاماً.
جهات إثيوبية تؤكد تلك الأهوال
وقبل يومين فقط نشرت وكالة رويترز تقريراً لأول تعليق يصدر عن رئيس الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية قال فيه إن فظائع تصل إلى حد الإبادة الجماعية تُرتكب في تيغراي.
ولم يذكر الأب ماتياس الذي يرأس الكنيسة منذ 2013 الجهة المسؤولة عن الإبادة الجماعية، وكان يتحدث في رسالة مصورة نشرها على موقع تويتر يوم الجمعة أحد العاملين بجمعية خيرية دينية أمريكية.
وقال دنيس وادلي رئيس جماعة كنسية اسمها جسر الأمل الدولية إن الأب ماتياس طلب منه نشر مقطع الفيديو، وقال لرويترز: "أراد أن يعرف العالم الحقيقة فيما يتعلق بما يجري في تيغراي". ووفقاً لمسؤولي الكنيسة الأرثوذكسية في إثيوبيا، بلغ إجمالي عدد القتلى في قرية دينغلات وحدها أكثر من 160 شخصاً.
وفي مقطع الفيديو، قال الأب ماتياس، وهو من إقليم تيغراي ومقره في أديس أبابا، إنه ممنوع من الحديث عما ارتُكب من فظائع، لكنه لم يذكر الجهة التي منعته.
وكانت حكومة آبي قد أعلنت النصر في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني وهي تقول إن الحياة في الإقليم بدأت تعود لطبيعتها، بينما تقول جماعات الإغاثة إنه لا يمكن الوصول إلى مناطق كثيرة في تيغراي لاستمرار الصراع حتى الآن.
وسبق أن قالت حكومة آبي أحمد إنها ارتاعت لمقتل مدنيين في الحرب وإنها ملتزمة بالتحقيق في كل الانتهاكات المزعومة وتقديم مرتكبيها للعدالة.
آبي أحمد يدافع عن إريتريا
وقالت ليتيسيا بدر، مديرة مكتب القرن الإفريقي بمنظمة "هيومن رايتس ووتش"، لصحيفة The Times: "هذا صراع دار إلى حدٍّ كبير خلف أبواب مغلقة، لكن ثمة أدلة كثيرة من منظمات مثل منظمتنا على ارتكاب فظائع، حيث يُصعب رؤية أي فرد من السكان المدنيين لم يصب بأذى".
من جانبها، نفت المتحدثة باسم رئيس الوزراء الإثيوبي، بيلين سيوم، استهداف قوات الدفاع الوطنية الإثيوبية لأي مدنيين في تيغراي، لكنَّ شهود عيان قالوا للصحيفة في بلدة أكسوم إنَّ القوات الإريترية أطلقت النار على مئات الرجال والفتيان في 28 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي رداً على هجوم شنّته قوات جبهة تحرير شعب تيغراي وسكان محليون.
وبعد شهور من النفي المتكرر، أقرَّ آبي أحمد أخيراً بأنَّ القوات الإريترية كانت في تيغراي، مضيفاً أنَّهم دخلوا المنطقة بسبب هجمات صاروخية شنتها جبهة تحرير شعب تيغراي على العاصمة الإريترية أسمرة، فيما وصفته تقارير بأن الرجل يقدم بلاده إثيوبيا على طبق من ذهب لإريتريا ورئيسها أسياسي أفيورقي.
وكان أفيورقي قد رأى في حرب حكومة آبي أحمد في تيغراي فرصة لتصفية الحسابات مع خصمه القديم "جبهة تحرير شعب تيغراي"، التي قادت إثيوبيا خلال حرب حدودية دامية ضد إريتريا من عام 1998 إلى عام 2000.
وفي هذه النقطة يرى منتقدون أنَّ آبي أحمد، البالغ من العمر 44 عاماً، قد سعى أيضاً إلى توطيد مركزية السلطة بطريقة أدت إلى إقصاء الحكومة الإقليمية في تيغراي وجميع الجماعات الأخرى.
وقد أدت الحرب في تيغراي إلى نزوح حوالي 1.7 مليون شخص من سكان تيغراي البالغ عددهم 6 ملايين نسمة. يعيش معظم هؤلاء النازحين في فصول دراسية مكتظة بلا تهوية داخل مدارس تحوّلت إلى مخيمات للإيواء ويروون قصصاً عن كيفية فرارهم من هذا القتال بدون أي شيء سوى الملابس التي كانوا يرتدونها ثم قطعهم مئات الأميال سيراً على الأقدام للوصول إلى بر أمان.
وثمة جانب قاتم آخر لهذه الحرب الخفية يتمثَّل في العنف الجنسي، وتتذكر تيرهاس، إحدى الناجيات من جرائم العنف الجنسي، كيف اقتحم جنود إريتريون منزلها في بلدة عدوة، وسط إقليم تيغراي.
قالت تيرهاس، التي غيَّرت صحيفة "THe Times" اسمها لحماية هويتها على غرار بقية النساء ضحايا العنف الجنسي، إنَّهم اتهموها بإيواء مقاتلين متمردين وأخذوها هي وابنتها البالغة من العمر عامين إلى مصنع مهجور على أطراف البلدة، حيث تناوب على اغتصابها ضابطان إريتريان لمدة 7 أيام.
الحرب الخفية في تيغراي لا تزال مستمرة
وفي واقعة أخرى، روت ماكدا للصحيفة البريطانية أنَّها كانت مسافرة في حافلة صغيرة عندما أوقفها جنود إريتريون بالقرب من بلدة إيداغا حاموس، على بُعد حوالي 60 ميلاً شمال عاصمة إقليم تيغراي، وأخرجوها من الحافلة واقتادوها معصوبة العينين إلى مكان قريب، حيث قيَّدها مجموعة من حوالي 20 جندياً إريترياً وتناوبوا اغتصابها عدة مرات على مدى 10 أيام متتالية، ثم تركوها في نهاية المطاف في إحدى الحفر حتى عثر عليها سكان محليون ونقلوها إلى المستشفى.
وقالت مولو ميسفين، ممرضة بإحدى عيادات مدينة ميكيلي وعالجت أكثر من 350 امرأة من ضحايا الاغتصاب: "لقد رأينا الكثير من الحالات، لكنها ليست سوى غيض من فيض. يعجز معظم الضحايا عن الوصول إلينا؛ لأنَّ القتال يغلق الطرق ولا يتوفر الكثير من وسائل النقل".
تتركز الجهود حالياً على إخراج القوات الإريترية من الإقليم. أعلنت وزارة الخارجية الإثيوبية الشهر الماضي أنَّ إريتريا بدأت الانسحاب من منطقة تيغراي. ومع ذلك، لا توجد أدلة على حدوث انسحاب حقيقي.
وعندما حاولت صحيفة "The Times" البريطانية الوصول إلى بلدة سامري، التي باتت بعد ذلك معزولة عن المساعدات الإنسانية، كانت نقاط التفتيش يحرسها جنود يرتدون الزي العسكري الإريتري.
كانت الشاحنات التي تحمل الإمدادات الغذائية الحيوية قد بدأت تتدفق إلى تيغراي لكنها ما زالت غير قادرة على الوصول إلى مناطق واسعة من الإقليم بسبب القتال. ذكرت إحدى وكالات الإغاثة أنَّ الجنود الإريتريين طلبوا ببساطة من سائقي شاحنات المساعدات أنَّ يستديروا ويعودوا من حيث أتوا.
في هذا الصدد، أكَّد أحد العاملين في منظمة الأمم المتحدة أنَّ الجوع بات مشكلة كبيرة تهدد إقليم تيغراي، قائلاً: "نحن لم نشهد بعد موتاً جماعياً بسبب الجوع، لكن إذا استمرت الأمور على ما هي عليه، سيصل الوضع بالتأكيد إلى هذه النقطة".