تعتبر المحكمة الدستورية لبنة أساسية لاستكمال البناء الديمقراطي في تونس ما بعد الثورة، وتعطّل إرسائها منذ المصادقة على دستور الجمهورية التونسية الجديد قبل سبع سنوات عطّل المصادقة على الكثير من مشاريع القوانين والاتفاقيات.
وبالرغم من مصادقة مجلس نواب الشعب التونسي على تعديل قانون المحكمة الدستورية يوم الثلاثاء 4 مايو/أيار بأغلبية 3/5 أصوات النواب (141 صوتاً)، فإنّ مسار استكمال إرساء المحكمة وتعيين أعضائها لا يزال طويلاً ويتطلب المرور بعدة مراحل أخرى أهمّها على الإطلاق ختم رئيس الجمهورية للقانون حتى يصبح ساري المفعول.
ففي الوقت الذي كان ينتظر فيه المتابعون للشأن السياسي التونسي ردّ رئيس الجمهورية قيس سعيد بختم القانون أو مفاجأة الجميع (كعادته) بصيغة أخرى من الردّ غير المتوقعة (دستورية غالباً)، تقدّم في 8 مايو/أيار مجموعة من 33 نائباً من الكتلة الديمقراطية (التيار الديمقراطي، حركة الشعب، مستقلين) بطعن لدى الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين بخصوص مشروع تعديل قانون المحكمة الدستورية، وبالتالي لم يعد رئيس الجمهورية ملزماً بختم تنقيح قانون المحكمة الدستورية، وسينتظر إلى أن تتم مراجعته والبتّ فيه من قبل الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين.
عثرات مسار التعديل والختم
عرف مسار إرساء المحكمة الدستورية العديد من المطبات والإشكاليات منذ إقرارها في الدستور الجديد لسنة 2014 ، وما شاب جلسات التصويت على أعضائها من مماحكات ومناورات سياسية عطلت انتخاب البرلمان لأربعة من أعضاء المحكمة الاثنى عشر (بقية الأعضاء الثمانية ينتخب المجلس الأعلى للقضاء أربعة منهم ويعين رئيس الدولة الأربعة المتبقين).
وسبق أن صادق البرلمان في جلسة 25 مارس/آذار على مشروع تعديل القانون الأساسي للمحكمة بأغلبية الثلثين، وتم إثر ذلك إحالته إلى رئيس الجمهورية لختمه لكنه لم يفعل وبدل ذلك قام في 4 أبريل/نيسان بإعادة مشروع القانون للبرلمان بحجّة أنه تجاوز الآجال الدستورية، حيث ينص الفصل 148 من الدستور التونسي على أنه يتوجب إرساء المحكمة الدستورية في أجل أقصاه سنة من انتخابات سنة 2014 التي أعقبت المصادقة على الدستور.
وكان رئيس الجمهورية قيس سعيد قد حذّر السبت 1 مايو/أيار ، قبل التصويت الأخير على تعديل قانون المحكمة، من "مخاطر تقسيم الدولة" خلال زيارة له لمنطقة عسكرية مغلقة في تخوم جبل الشعانبي (تختفي فيه عناصر إرهابية مسلحة)، والتي فُهم منها أنها إحالة على الانقسام في المواقف من التعديلات التي سيصوت عليها البرلمان لاحقاً بأغلبية ثلاثة أخماس.
للتذكير فقد حاز التصويت على مشروع القانون الأساسي المتعلق بالمحكمة الدستورية على أغلبية الحزام السياسي والبرلماني لحكومة رئيس الوزراء هشام المشيشي وهم حركة النهضة وحزب قلب تونس وائتلاف الكرامة وحزب تحيا تونس وكتلة الإصلاح والكتلة الوطنيّة وبعض المستقلين.
وكان من المفروض بعد إرجاع رئيس الجمهورية القانون للبرلمان والمصادقة عليه بأغلبية 141 صوتاً من أصل 2017 يفهم أنه لا يحوز على أغلبية في البرلمان.
وتنص تعديلات قانون المحكمة الدستورية على حذف عبارة "تباعاَ" الواردة بالفصل 10 من القانون عند تعيين أعضاء المحكمة بشكل يسمح للمجلس الأعلى للقضاء ورئاسة الجمهورية تعيين الأعضاء الثمانية المتبقين دون انتظار استكمال البرلمان انتخاب 4 أعضاء. في حين أن النقطة الثانية من التعديل تجيز انتخاب البرلمان للأعضاء الأربعة بأغلبية 3/5 بدل أغلبية الثلثين إذا ما تعذر ذلك في جلسة التصويت الأولى على التعديل.
ختم القانون عنوان أزمة قادمة
بحسب الفصل 81 من الدستور التونسي، فإنه وعلى إثر انتهاء الآجال الدستورية للطعن بعدم دستورية مشروع القانون المعدّل وبعد ممارسة رئيس الجمهورية حقّه الدستوري في ردّ القانون المعدّل لمجلس النواب والمصادقة عليه ثانية في جلسة تصويت علنية، فإن رئيس الجمهورية يصبح مجبراً على ختمه وإمضائه لينشر بالجريدة الرسمية للجمهورية التونسية (الرائد الرسمي).
إلا أن الطعن الذي قدّمه الثلاثة والثلاثون نائباً في آخر يوم من آجال ختم القانون أعطى نفحة من أوكسجين لرئيس الجمهورية لربح المزيد من الوقت لإعادة ترتيب أوراقه والمناورة من جديد بهدف تعطيل ختمه.
وقد سبق للرئيس سعيد أن قدّم تأويلاً لهذه المسألة الدستورية في معرض شرحه لعدم جواز تمرير تعديل قانون المحكمة لغياب المحكمة الدستورية في حد ذاتها التي من بين مهامها النظر في دستورية مشاريع القوانين المقدمة من قبل البرلمان.
ويعتقد رئيس الجمهورية أن انقضاء آجال إرساء المحكمة الدستورية بعد الانتخابات التشريعية لسنة 2014 كما جاء في الدستور يعني عدم إمكانية إرسائها خارج تلك الآجال، "وكأنه يقول لا يمكننا إرساء المحكمة الدستورية إلا في حالة تغيير الدستور في حين أن المفارقة تقول إنه لا يمكن تعديل الدستور إلا بوجود المحكمة الدستورية"، بحسب مؤسس شبكة دستورنا، جوهر بن مبارك.
وأشار ابن مبارك في حديث لإذاعة محلية إلى أنه "تم خرق الدستور عدة مرات خلال ست سنوات ولا أحد لديه مصلحة الآن في إرساء المحكمة الدستورية، حتى أولئك الذين يريدون إرساءها الآن فإنهم يسعون لذلك لأسباب سياسية في سياق صراعهم مع رئيس الجمهورية لأنه هو المؤوّل الوحيد للدستور حالياً".
أزمة سياسية بلباس دستوري
يرى مراقبون أن الخلاف بين مؤسسة الرئاسة والبرلمان على تعديل قانون المحكمة الدستورية ما هو إلا جبهة من جبهات الصراع السياسي بين رئيس الجمهورية وحلفائه في البرلمان (التيار الديمقراطي، حركة الشعب) من جهة، وبين رئيس البرلمان راشد الغنوشي وحركة النهضة وائتلاف الكرامة من جهة أخرى الذي تصاعد في الفترة الأخيرة خصوصاً حول حدود الصلاحيات الدستورية للرئيس لدرجة أن نواباً عن ائتلاف الكرامة طالبوا بعزل رئيس الجمهورية قيس سعيد وعرضه على الفحص الطبي للتأكّد من قدرته على تسيير شؤون البلاد.
هذا الصراع المتنامي بين البرلمان والرئاسة، منذ شهور، لم يعد خافياً على أحد، آخر فصوله كانت الاتهامات التي وجهها النائب عن ائتلاف الكرامة راشد الخياري لرئيس الجمهورية بتلقي أموال من الاستخبارات الأمريكية لدعم حملته الانتخابية إثر الخطاب الذي ألقاه قيس سعيد بمناسبة عيد قوات الأمن الداخلي وادّعى فيه أنه القائد الأعلى للقوات العسكرية والأمنية. وتحرك القضاء العسكري على إثرها بإصدار بطاقة جلب ضد النائب الخياري المختفي حالياً لينتقل الخلاف بين الفريقين إلى مستوى آخر من الخطورة قادر على تعطيل مؤسسات الدولة وتوظيفها في الصراعات السياسية بدل إيجاد حلول عاجلة للمأزق الذي تجد البلاد نفسها فيه بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
فالخلاف بين الرئاسة والبرلمان سيؤثر بشدّة على توجّه تونس نحو صندوق النقد الدولي بمواقف موحّدة للحصول على قرض بقيمة 3 مليارات دولار كما هو مبرمج، وبدل ذلك تغرق البلاد في خلافاتها الداخلية ولا تستطيع توفير الضمانات الكافية للصندوق لأجل أن يوافق على البرنامج التمويلي الذي عرضته عليه الحكومة التونسية بكل الإصلاحات الاقتصادية التي اشترطها الصندوق مسبقاً (رفع الدعم عن المحروقات والمواد الغذائية وتخفيض كتلة الأجور في القطاع العام) ، وهو ما من شأنه أن يضع اقتصاد البلاد على حافة الانهيار.
للتذكير، تحصلت تونس منذ سنة 2013 وعلى فترات متلاحقة، على عدة قروض من صناديق تمويليّة وتنموية ودول مانحة، إلا أنها لم تستجب لتعهداتها الدولية كاملة، ما دفع صندوق النقد الدولي لوضع شروط كثيرة وصعبة التحقيق في طريق الحكومة التونسية إذا ما تقدمت بمطلب لبرنامج تمويلي.
ومن بين الشروط الجديدة التي طلبها الصندوق من تونس هو أن تصادق الحكومة والبنك المركزي والمجتمع المدني (اتحاد الشغل ومنظمة الأعراف ومجلس نواب الشعب وشركاء تونس الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة) على البرنامج الإصلاحي الذي تقدمت به الحكومة التونسية للصندوق والقائم على رفع الدعم وتخفيض كتلة الأجور، وهي شروط صعبة التحقيق إن لم نقل شبه مستحيلة، بحسب خبراء اقتصاديين، وحتى وإن تمت الاستجابة لها ووافق عليها الجميع فإن نتائجها ستكون وخيمة على استقرار البلاد وستؤدي لاضطرابات سياسية واجتماعية لا يمكن التنبؤ بمآلاتها.