قد لا يكون المسجد الأقصى فقط هو هدف مناورات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنامين نتنياهو للبقاء بالسلطة، بل هناك احتمال أن تشهد المنطقة حرباً لكي يستمر هذا الرجل في منصبه الذي تولاه قبل ربع قرن.
فبعد أيام من سحب الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين الأربعاء (الخامس من مايو/ أيار 2021) من نتنياهو حق تشكيل الحكومة الإسرائيلية وتكليف خصمه يائير لابيدو بتشكيل حكومة، اقتحمت قواته جيشه المسجد الأقصى، وتتحرش بغزة وتجري أكبر مناورات في تاريخها.
فتصعيد الأزمات في المنطقة يخدم نتنياهو وحلفاءه اليمينيين، وربما يفضي إلى إفشال غريمه مائير لبيد المكلّف بتشكيل حكومة جديدة تخلف حكومته.
وبالفعل، تحول نتنياهو بين عشية وضحاها، من رئيس منبوذ لحكومة تصريف أعمال، مهدد بالحبس، إلى زعيم إسرائيل الذي ينفذ مخططات المتطرفين في القدس، ويتصدى للتهديدات المزعومة، من الأعداء، بل يتحدى أكبر الحلفاء وهو الولايات المتحدة.
لم يأبه نتنياهو كثيراً للدماء التي يمكن أن تسال من الجانبين، ولم يأبه لأنه في مرة نادرة يصدر انتقادات من أعضاء ديمقراطيين بالكونغرس الأمريكي لإسرائيل، وانتقادات أخف من الإدارة الأمريكية، إضافة إلى الانتقادات الدولية والإسلامية والعربية الواسعة.
ولم يأبه نتنياهو أنه أعاد حشد الشعوب العربية والإسلامية حول قضية القدس واضعاً أصدقائه العرب من المطبعين في موقف محرج للغاية، ومذكراً مئات الملايين من الشباب العربي والمسلم بأنه لديهم قضية تدعى فلسطين ومسجداً مقدساً يدعى الأقصى.
بل الواضح أن نتنياهو قد لا يكتفي بذلك، فقد يكون لديه مخططات عدة للتصعيد، كما بدا واضحاً من حديثه.
المسجد الأقصى.. خطة أخطر من الاقتحام
بينما بدا أن إسرائيل تميل للتهدئة في قضية طرد السكان من حي الشيخ جراح عبر الطلب من المحكمة تأجيل الحكم في القضية، بالنظر إلى أنها أثارت انتقادات دولية حادة وصلت إلى وصفها بالتطهير العرقي، ولكن الأمر مختلف بالنسبة للأقصى.
فمنذ بداية شهر رمضان، فإن إسرائيل الرسمية، وكذلك الجماعات المتطرفة تعمد استفزاز الفلسطينيين في المسجد الذي يعد ثالث أقدس بقعة لدى المسلمين.
ومن الواضح أن اختيار شهر رمضان الذي يتسم بوجود أعداد كبيرة من المصلين في الأقصى لتنفيذ هذه المخططات، يشير إلى أن أهداف نتنياهو ليست فقط قضم حقوق المسلمين في الأقصى، بل أن تتم العملية بأكبر صخب ممكن، صخب يجلب استحسان المتطرفين اليهود، وقلق المواطن الإسرائيلي المتردد من طول حكمه والكاره لرائحة الفساد التي تفوح من نتنياهو جراء اتهامات القضاء له، ولكنه في حال اندلاع أزمة لا يريد المخاطر بتغيير رئيس الوزراء الذي يعرفه جيداً.
ولذا لم يكن غريباً أن تتهم زهافا غلؤون، الزعيمة السابقة لحركة "ميريتس"، نتنياهو في تغريدة على تويتر بتعمد إشعال صراع ديني في القدس.
ولكن مخططات نتنياهو تجاه المسجد الأقصى قد تتعدى اقتحامه والاعتداء على المصلين.
بل أنه قد يسعى لتحقيق أهداف اليهود المتطرفين في المسجد من أجل حشد اليمين حوله.
في مطلع شهر رمضان، أعلنت جماعات استيطانية عن تنفيذ "اقتحام كبير" للأقصى يوم 28 رمضان (اليوم الإثنين)، بمناسبة ما يسمى "يوم القدس" العبري (10 مايو/آيار) الذي احتلت فيه إسرائيل القدس الشرقية عام 1967.
وهدد المستوطنون بأن ثلاثين ألفاً منهم سيقتحمون الحرم القدسي الشريف للاحتفال بما يسمونه تاريخ توحيد القدس.
وكشفت صحيفة "هآارتس" أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية حذرت دائرة صنع القرار السياسي في تل أبيب من أن السماح للجماعات اليهودية بتنفيذ الأنشطة الاستفزازية في المدينة المحتلة اليوم الإثنين بمناسبة حلول "يوم القدس"، سيشعل الأوضاع ويمكن أن يفضي إلى انتقال شرارة الأحداث إلى الضفة الغربية وقطاع غزة.
وحسب الصحيفة، فقد طالب القادة العسكريون بأن يتم تغيير المسار الذي ستسلكه "مسيرة الإعلام" التي تخطط الجماعات اليهودية المتطرفة لتنظيمها في قلب البلدة القديمة من القدس وتقليص عدد المشاركين فيها.
وأشارت الصحيفة إلى أن القادة العسكريين شددوا على أن السماح لليهود باقتحام المسجد الأقصى قد يقود إلى انفجار الأوضاع في الضفة وغزة.
ولكن بعد إعلان سلطات الاحتلال عزمها منع المتطرفين اليهود من اقتحام المسجد الأقصى، ثبت أن ذلك مجرد خدعة، إذ قالت قوات الاحتلال الإسرائيلي إن مسيرة المستوطنين ستمر من باب العامود والبلدة القديمة ومن المربع الإسلامي، دون أي تغيير.
وبدأ آلاف المستوطنين، الإثنين 10 مايو/أيار 2021، الاحتشاد لمسيراتهم التي انطلقت قرب باب العامود، وشارع صلاح الدين، وشارع الواد، وفي الحي الإسلامي في الطريق إلى حائط البراق، بالقدس القديمة فيما أغلقت قوات الاحتلال الإسرائيلي شوارع مدينة القدس المحتلة أمام المواطنين المقدسيين، ومنعتهم من الدخول عبرها.
ولكن الأخطر ما قاله نتنياهو في الساعات الأخيرة حول ما يحدث في القدس، إذ يبدو كلامه مثيراً للقلق حقاً.
إذ قال في تصريح فلسفي غامض: "صراع نيتشه (في إشارة إلى نظرية الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه حول أن الحياة صراع من أجل البقاء) في قلب القدس، ليس بالصراع الجديد".
وتابع وفق ما نقلته قناة "كان" الإسرائيلية: "ما يجري في القدس هو صراع عمره مئات السنين منذ ظهور الديانات التوحيدية الثلاث. في كل مرة يسيطر أحد الأطراف ويمنع أبناء الديانة الأخرى من العبادة. السيادة الإسرائيلية فقط هي التي تسمح بالحرية الدينية للجميع.
ولم يوضح نتنياهو المغزى من كلامه، الذي بدا وكأنه تلميح إلى عزمه تغيير الوضع الراهن في القدس.
ويحذر حنا ناصر، رئيس الهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة القدس والمقدسات، من أن فرض "صلاة علنية جماعية" لليهود في المسجد الأقصى، هو هدف الاحتلال الإسرائيلي، من تحرشه بالمسجد الأقصى.
ويبدو أن نتنياهو في سعيه المحموم للبقاء في السلطة، يريد أن يقوم الجيش الإسرائيلي بحماية عملية اقتحام المسجد الأقصى من قبل المستوطنين، بعد أن مهد جيش الاحتلال الطريق عبر اقتحام المسجد المقدس لدى المسلمين جميعاً بنفسه، ومصادرة مفاتيحه من حراس الأوقاف الإسلامية، حسبما ذكر موقع قناة روسيا اليوم.
وقد يكون ذلك تمهيداً لعمل فصل مكاني وزماني بين المسلمين والمتطرفين اليهود في الأقصى مثلما فعلت سلطات الاحتلال مع المسجد الإبراهيمي في الخليل؛ أي السماح لليهود المتطرفين بالصلاة داخله في أوقات وأماكن معينة، على أن يتم منع المسلمين من الصلاة في هذه الأوقات والأماكن.
قصف غزة
تبدو محاولة إشعال حرب في غزة أحد الاحتمالات التي قد يلجأ إليها نتنياهو.
وفي هذا السياق، ذكر موقع "والاه" أن قيادة جيش الاحتلال أصدرت تعليماتها لسلاح الجو بأن يقوم بتحديث "بنك الأهداف" في قطاع غزة، تحسباً لإمكانية اندلاع مواجهة مع "حماس" على خلفية التصعيد في القدس، حسبما ورد تقرير لموقع صحيفة العربي الجديد.
وأشار الموقع إلى أن القيادة العسكرية تفترض أن"حماس" ستقوم بإطلاق صواريخ على العمق الإسرائيلي في حال تواصل تفجر الأوضاع في القدس، مشيراً إلى أن القيادة العسكرية الإسرائيلية قررت أيضاً تفعيل المزيد من الطائرات من دون طيار لتوظيفها في مجال جمع المعلومات الاستخبارية داخل قطاع غزة.
وما زالت حماس وبقية حركات المقاومة في غزة تضبط نفسها، فهي تريد دعم القدس، ولكن إطلاق العنان للمقاومة في غزة قد يعني لفت الأنظار بعيداً عن الجرائم الإسرائيلية في القدس، وإتاحة الفرصة لعملية قمع وحشية من الجانب الإسرائيلي للاحتجاجات الفلسطينية في المدينة.
ولذلك فقد وجهت حماس وفصائل المقاومة، تهديداً لنتنياهو من تعدي الخطوط الحمراء في القدس، ولجأت إلى مساندة المقدسيين عبر إطلاق البالونات المشتعلة، وعملية الإزعاج الصوتي للاحتلال وغيرها من وسائل المقاومة غير العسكرية.
كما حذر قادة فصائل المقاومة في قطاع غزة، لا سيما "حماس" و"الجهاد الإسلامي" "إسرائيل" وهددوها بردٍّ قوي على أي اعتداء يمسّ القطاع شعباً وأرضاً ومنشآت.
وبالطبع تغالي إسرائيل في توصيف هذه الممارسات، في محاولة لإعطاء شرعية لرد فعلها على أعمال المقاومة الفلسطينية.
حرب شاملة
تزامن زحفَ المستوطنين على القدس، مع مناورات ضخمة على مستوى إسرائيل كلها باشرها الجيش الإسرائيلي في البر والبحر والجو، قد تتواصل طيلة أربعة أسابيع وربما أكثر. مهّد للمناورات رئيس أركان الجيش الجنرال أفيف كوخافي، في تصريحاتٍ نارية أعطت المراقبين انطباعاً بأن قواته قد تكون في صدد شن عملية عسكرية واسعة، إما في الشمال ضد حزب الله في لبنان، أو في الجنوب ضد فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.
ثمة من يعتقد بين الكتّاب والمعلّقين في فلسطين المحتلة وخارجها، أن الدولة العميقة في "إسرائيل" تخطط لشنّ حربٍ على دول محور المقاومة وحلفائها، بغية إحباط محادثات فيينا الرامية إلى عقد تسوية بين إيران والولايات المتحدة، تعيد الأخيرة إلى الاتفاق النووي الذي كان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قد سحبها منه سنة 2018.
ويبدو أن ما أمكن تسريبه من معلومات حول اقتراب مندوبي طهران وواشنطن في محادثات فيينا من الوصول إلى اتفاقٍ من جهة، والموقف في القدس، قد عززت رأي أصحاب الرؤوس الحامية في الدولة العميقة الإسرائيلية بضرورة الإقدام على شنّ حربٍ، بغية تحقيق أغراض سياسية وأهداف استراتيجية بالغة الأهمية، حسب تقرير لموقع صحيفة القدس.
وترى الصحيفة أن هناك فريقاً من المحللين لا يستبعد الدوافع والمبررات السابقة لتسويغ الحرب، إلاّ أنه يقدّم دافعاً إضافياً لها أكثر أهمية في تقديره، رغبة قادة إسرائيل في تفادي الأزمة الداخلية الكبيرة، التي بدأت مظاهرها الأولية تتكشف بوتيرة متسارعة في مختلف أوساط الجمهور، لأسباب متعددة ليس أقلها نفور خصوم نتنياهو الكثر، ولا سيما في أوساط الوسط واليسار، من صَلَفه، ومحاولاته المتكررة للهرب من سيف القضاء والمحاكمة، وذلك بافتعال مشكلات ونزاعات وتوترات، غايتها صرف الانتباه عن تحقيقات القضاء والمحاكمة، أو تأجيلها في الأقل، الأمر الذي تسبّب في جرّ إسرائيل إلى إجراء أربعة انتخابات عامة منهِكة في أقل من سنتين، والخامسة تلوح في الأفق السياسي.
الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله لم يستبعد هذه احتمالات العمل العسكري، ففي خطابه بمناسبة يوم القدس العالمي كشف أن الحزب أعلن الاستنفار في صفوفه قبل يوم من بدء المناورات الإسرائيلية بمستويات متنوعة، وحذر المسؤولين الإسرائيليين وقال: "لن نتساهل بشأن أي خطوة للمسّ بقواعد الاشتباك، أو بأي استهداف أمني أو عسكري، ضد لبنان".
بالنسبة لنتنياهو فإن إشعال أزمة أو حتى حرب محدودة في غزة أو لبنان حتى لو أدى ذلك إلى مقتل عدد من الإسرائيليين قد يكون فرصته الوحيدة لمحاولة البقاء في السلطة سواء عبر إعادة تشكيل تحالفه أو الفوز بانتخابات جديدة.
ولكن ليس هذا فقط، بل إن من شأنه الأزمة الحالية تسميم الأجواء بالنسبة لعرب 48 في ظل احتمالات أن يكون لهم دور في اختيار بديل له، وخاصة دور السياسي الإسلامي منصور عباس أبرز قيادات "الحركة الإسلامية الجنوبية".
فتصعيد التوتر يدمر الحالة القائمة في السياسة الإسرائيلية وهي اتفاق كل خصوم نتنياهو من اليسار واليمين والعرب واليهود، على ضرورة إقصائه، فهم لا يوحدهم شيء غير الرغبة في التخلص منه.
فالأمر لن يقتصر فقط على تسبب التصعيد في تفكك التحالفات، ولكن الناخب الإسرائيلي نفسه، لن يخاطر بإعطاء صوته لزعماء مبتدئين وأحزاب مفككة بينما طبول الحرب تقرع، حتى لو يعلم أن الرجل الذي قرعها لايريد منها إلا صوته الانتخابي بطريقة رخيصة.