لا تزال حرب تيغراي التي بدا أن رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد حسمها سريعاً تمثل كابوساً يطارد حكومة أديس أبابا، ليس فقط بسبب تقارير جرائم الحرب هناك ولكن أيضاً بسبب إريتريا.
وإذا كانت الحكومة المركزية في أديس أبابا التي يرأسها آبي أحمد منذ 2018 تواجه اتهامات بارتكاب جرائم حرب وتطهير عرقي في إقليم تيغراي، فإن الأمر اللافت في تلك الاتهامات أنها دائماً ما تشهد ذكر القوات الإريترية ربما أكثر من القوات الإثيوبية نفسها.
وعلى الرغم من أن آبي أحمد كان ينفي في البداية مشاركة قوات إريتريا في حرب تيغراي، فإنه اعترف بصورة ضمنية بوجود قوات لأسمرة في تيغراي، ووعد بمطالبتها بالانسحاب، وهنا مربط الفرس، كما يقال.
إثيوبيا مهدَّدة بالانفجار الداخلي
وقبل التوقف عند تفاصيل الوجود الإريتري في إثيوبيا وأهدافه وخلفياته واحتمالات موافقة الرئيس أسياس أفيورقي على سحب قواته بالفعل، من المهم التوقف عند الموقف الداخلي المضطرب للغاية في إثيوبيا.
إذ تتشكل إثيوبيا من عدد من القوميات والأقاليم يتمتع كل منها بما يشبه الحكم الذاتي – أي وجود حكومة محلية تدير الإقليم- تحت مظلة الحكومة الفيدرالية ومقرها أديس أبابا العاصمة، وهذه القوميات هي: قومية الأورومو وتمثل 34.4% من السكان، وقومية الأمهرية وتمثل 27% والقومية الصومالية وتمثل 6.2% وقومية التيغراي وتمثل 6.1% وقومية السيداما وتمثل 4% وقومية الجوراج وتمثل 2.5%.
وكانت حرب تيغراي التي اندلعت مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الماضي وأعلن الجيش الإثيوبي حسمها بعد أقل من شهر، لكن التقارير التي لا تزال تصدر من الإقليم تشير ليس فقط إلى ارتكاب فظائع واستخدام العنف الجنسي والاغتصاب كسلاح، ولكنها تشير أيضاً إلى أن جبهة تحرير شعب تيغراي – عدو آبي أحمد – لا تزال موجودة وتقاوم بشراسة.
وترسم التقارير الإعلامية الغربية وتقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية صورة قاتمة عن الوضع الداخلي في إثيوبيا، في ظل الاضطرابات الدموية التي كان إقليم أورومو قد شهدها عام 2019، وصولاً إلى ما تقوم به قوات أمهرية حالياً في تيغراي وضم الأمهرة أجزاء كبيرة من إقليم تيغراي، فيما يبدو آبي أحمد ساعياً للاستمرار في منصبه بأي ثمن، بحسب تلك التقارير.
هل احتلت إريتريا أجزاء من إثيوبيا؟
لكن تقريراً نشرته مجلة Foreign Policy الأمريكية تناول الوجود الإريتري العسكري على الأراضي الإثيوبية، في ظل استعانة آبي أحمد بأفيورقي خلال حرب تيغراي.
فحينما زار السيناتور الأمريكي كريس كون أديس أبابا للقاء آبي أحمد في مارس/آذار الماضي، طالب المسؤول الأمريكي آبي أحمد بأن يأمر بانسحاب قوات إريتريا من إقليم تيغراي، وبعد أربعة أشهر من إنكار وجود الإريتريين داخل إثيوبيا، اعترف آبي أحمد أخيراً بوجودهم ووعد أن يطلب انسحابهم.
لكن ذلك على الأرجح لن يحدث، إذ تُشير العديد من التقارير إلى أنّ القوات الإريترية ارتكبت العديد من الفظائع في تيغراي، وأنّ العنف هناك ما يزال مستمراً بلا هوادة منذ لقاء كون وآبي أحمد. وفي منتصف أبريل/نيسان، كان القتال العنيف قائماً على ثلاث جبهات في وسط تيغراي، وشمل عشرات الفرق الإريترية، كما أشارت التقارير إلى أنّ جنود إريتريا ارتدوا الزي العسكري الإثيوبي لإخفاء هوياتهم.
ورغم محاولة الحكومة الإثيوبية حجب أي معلومات من المنطقة، لكن منظمات حقوق الإنسان الدولية وثّقت بدقة عمليات القتل الجماعي، والاغتصاب، والتدمير والنهب الوحشي للقرى والصناعات والعيادات والمدارس والمكاتب الحكومية والمصارف. وفي غياب القيود، أسفرت هذه الفظائع المتفشية عن حدوث مجاعة من صنع البشر، وما تزال تتسبب في خسائر بشرية يمكن تجنبها.
وتؤكد المصادر التي رفضت الكشف عن هويتها على الأرض، إلى جانب التقارير اليومية من المنافذ الإعلامية المحلية في تيغراي مثل شبكة Dimtsi Weyane وTigray Media House، أنّ النظام الإريتري أرسل 10 فرق على الأقل إلى جبهة تسيديا وحدها، وفي الشهر الماضي نشر الأستاذ الجامعي والرئيس السابق لجامعة ميكيلي، كينديا غيبريوت، تغريدةً مع صور وشهادات من المنازل ومخازن الحبوب التي أحرقتها القوات الإريترية على جبهة أديت-زانا خلال تلك الفترة، بحسب فورين بوليسي.
آبي أحمد وأسياسي أفيورقي
ويقول تقرير المجلة الأمريكية أنه يبدو أنّ أبي أحمد دعا أفيورقي لإثارة الفوضى في تيغراي، لكن شروط تلك الصفقة لم تعلن للعامة، رغم أنّ تداعياتها صارت أكثر إثارةً للقلق.
فاليوم، يحكم أسياس بلداً يعاني من الفقر رغم وصول إريتريا الكبير للموانئ وامتلاكها لإمكانات تجارية غير مستغلة، ويستغل بدلاً من ذلك قوة جيشه لإملاء السياسات الإقليمية، وابتزاز الامتيازات الاقتصادية من جيرانه، إلى جانب نشر شبكة تجارة غير مشروعة داخل منطقة القرن الإفريقي وخارجها، حسب تقرير فورين بوليسي.
ويأتي انتشار الجيش وقوات الأمن الإريترية المكثف في إثيوبيا ليُسلط الضوء على التدخل الإريتري الكبير في النظام الإثيوبي الحاكم حالياً، وتشمل الأمثلة نشر الجنود الإريتريين إلى جانب قوات أمهرة والجيش الفيدرالي على الحدود الإثيوبية-السودانية (حيث يوجد نزاع على الأراضي)، إلى جانب استخدام القوات الإريترية في القتال ضد جبهة تحرير أورومو في منطقة ولاية أوروميا الإثيوبية.
وهذا التدخل الهائل يهدد بزعزعة الاستقرار أكثر في منطقة القرن الإفريقي، إذ سمّم التحالف الإثيوبي-الإريتري العلاقات بين إثيوبيا والسودان، بعد أن قرّب أديس أبابا من أسمرة في النزاع الحدودي السوداني والجدل المحيط بسد النهضة.
وتُهدّد هذه التداعيات مهمات حفظ السلام في السودان وجنوب السودان، كما شجعت الزعيم الصومالي محمد عبدالله محمد (فرماجو) على محاولة التمسك بالسلطة بعد انتهاء ولايته في المنصب قبل أن يتراجع مؤخراً عن تلك الخطوة، علاوةً على إثارة نزاعٍ مع كينيا. وسيواصل أسياس وآبي أحمد زعزعة استقرار المنطقة نظراً لعدم تقييد تحالفهما الجديد بالدبلوماسية أو اشتراطات استخدام القوة.
لماذا يغطي آبي أحمد على الاحتلال الإريتري لبلاده؟
وفي بيانه أمام مجلس النواب الإثيوبي يوم 23 مارس/آذار، وبعد وقتٍ قصير من لقاء كون، عانى آبي أحمد كثيراً لتفسير سبب صعوبة سحب أفيورقي لقواته في غياب القوات الفيدرالية الإثيوبية لسد الفجوة التي قد يخلفها الانسحاب، وفيما يتعلق بانسحاب قوات أمهرة من جنوب وغرب تيغراي، فقد أوضح آبي أحمد ببساطة أنّ ذلك لن يحدث.
وبعد خطابه مباشرةً، سافر آبي أحمد إلى أسمرة لتصدر بعدها بيانات من العاصمتين في الـ26 من مارس/آذار، ولم يتطرق بيان أسمرة إلى القضية الأساسية -وهي انسحاب القوات الإريترية من تيغراي- بينما قال بيان أديس أبابا إنّ الجانبين اتفقا على الانسحاب.
وكانت الرسالة واضحة، إذ ينوي أفيورقي إبقاء قواته على الأراضي الإثيوبية، ويبدو آبي أحمد جاهزاً لتوفير الغطاء السياسي والاقتصادي اللازم؛ لأنّه يريد أن تبقى القوات، ويحتاج كلاهما إلى بعضهما البعض بالطبع. ويهدف خطابهما المشترك إلى إثناء المجتمع الدولي عن توقيع أي عقوبات على إثيوبيا، حتى يتمكن أفيورقي من الاستمتاع بعلاقاته الاقتصادية التي طورها مع إثيوبيا تحت ستار التعاون والشراكة الاقتصادية.
وتعتبر حملة أسياس في تيغراي بمثابة خطوته الأولى نحو تحقيق حلمه القديم باستغلال الاقتصاد الإثيوبي القوي لخدمة مصالحه، ومنها طموحاته الإقليمية العظيمة لقيادة تحالف إقليمي داخل القرن الإفريقي، بناءً على نموذجه في الحوكمة التي يفرضها بواسطة الجيش والأجهزة الأمنية.
وستسمح الروابط مع الاقتصاد الإثيوبي لرئيس إريتريا بالإفلات من آثار أي عقوبات اقتصادية محتمل أن يفرضها المجتمع الدولي، وهو يشجع قادة أمهرة في إثيوبيا على مقاومة الضغط الدولي، ويؤكد لهم أنّ العقوبات على إثيوبيا -في حال تطبيقها- لن تؤثر كثيراً على البلاد.
ففي النهاية، تعرض النظام الإريتري لعقوبات الأمم المتحدة بسبب دعمه حركة الشباب الصومالية المسلحة طيلة عقدٍ من الزمن تقريباً، ويزعم أسياس أنه خرج من تلك العقوبات دون خدش تقريباً، وهو يحاول الآن ترويج هذه الفكرة لنخب أمهرة باعتبارها دليلاً على أنّ إثيوبيا يمكنها تكرار تجربته حال فرض العقوبات عليها.
وهناك مؤشرات على الأرض تدل على أنّ أسياس وآبي أحمد، ونخب أمهرة يتحركون فعلياً باتجاه تقسيم تيغراي إلى ثلاث مناطق بحكم الأمر الواقع. فأولاً، ستسعى قوات أمهرة التحررية إلى ضم غالبية أجزاء جنوب وغرب تيغراي إلى ولاية أمهرة، ويشهد العالم ذلك بالفعل مع نزوح مئات الآلاف من الناس من غرب تيغراي فيما وصفته حكومة الولايات المتحدة بـ"التطهير العرقي".
وثانياً، سيظل الجزء الشمالي من تيغراي تحت سيطرة المحتلين الإريتريين، الذين يرتدون الآن على الأرجح الزي العسكري للجيش الإثيوبي. وانتشار القوات الإريترية الحالي وتحركاتها في الشمال هي خير دليلٍ على تلك النوايا. بينما ستُترك الأراضي المتبقية من تيغراي في قبضة الإدارة المؤقتة التي نصّبها آبي أحمد. ولكن تلك الإدارة ستواجه بالطبع مقاومةً من قوات تيغراي، لذا فإنّ بقاء تلك الإدارة من عدمه يتوقف على الديناميات العسكرية والسياسية والدبلوماسية التي ستتكشف في الأشهر المقبلة.