هل كان بإمكان بعض الدول التعامل بطريقة أفضل مع وباء كورونا لتحمي مواطنيها من الفيروس القاتل؟ هل تسببت سياسات بعض زعماء اليمين الشعبوي المتطرف في توحش الفيروس على أراضيهم؟ تفتح هذه الأسئلة الباب لفهم أعمق للكارثة الصحية التي لا تزال تعصف بالكوكب.
فعلى الرغم من مرور ما يقرب من عام ونصف العام على ظهور فيروس كورونا في الصين، وتوصل بعض الدول للقاحات متعددة للوباء، وبدء حملات التلقيح بالفعل، لا تزال موجات الفيروس وتحوراته المتعددة تعصف ببعض الدول، وعلى رأسها الهند الآن، مع ارتفاعات قياسية في أعداد المصابين والمتوفين عالمياً.
وتم تسجيل أكثر من 904 آلاف حالة إصابة حول العالم يوم 29 أبريل/نيسان الماضي، بحسب موقع وورلدميترز كورونا، وهي حصيلة قياسية لم يتم رصدها منذ تفشي الفيروس خارج الصين وتحوله لجائحة عالمية، منذ 11 مارس/آذار 2020، بينما تم تسجيل أكثر من 15 ألف حالة وفاة، في إشارة على أن حرب البشرية ضد الوباء أبعد ما تكون من نهايتها.
هذه الموجة الجديدة من الوباء، والتي تتحمل الهند عبئها الأكبر في ظل توحش الفيروس هناك وتفشيه القياسي، تسببت في توجيه انتقادات عنيفة لرئيس الوزراء ناريندرا مودي اليميني الشعبوي، وتوجيه الاتهامات لسياساته بأنها إحدى أسباب الكارثة.
مودي الهند في قفص الاتهام
صحيفة The Washington Post الأمريكية نشرت تحليلاً لها بعنوان "قوميو تيار اليمين ليسوا الوحيدين الذين فشلوا في إدارة الوباء"، ألقى الضوء على أكثر بلدين متضررين من الوباء حالياً، وهما البرازيل والهند، ورصد كيفية تسبب حكم القوميين اليمينيين وسياساتهم خلال موجات شنيعة من الفيروس في إرباك أنظمة المستشفيات وامتلاء المقابر ومحارق الجثث، إذ وصل عدد الوفيات اليومية الآن إلى الآلاف في كلا البلدين، ومن المحتمل أن يكون الرقم الحقيقي في الهند أعلى بكثير من الرقم المُعلن عنه.
مودي كان قد أعلن في وقت سابق من العام الجاري الانتصار على فيروس كورونا في الهند -فيما يبدو أنه تقليد لإعلان الرئيس الصيني شي جين بينغ الأمر ذاته يوم 10 مارس/آذار 2020 من مدينة ووهان بؤرة التفشي- لكن شتان الفارق بين الحالتين، فالصين لم تعانِ من أي موجات حادة من الفيروس منذ إعلان شي، بينما تحولت الهند إلى كارثة حقيقية هب العالم كبيره وصغيره لنجدتها.
وأتبع مودي إعلانه المبكر بالانتصار على كورونا بالمشاركة في سلسلة من التجمعات السياسية الضخمة في جميع أنحاء البلاد قبل عدد من انتخابات الولايات في شبه القارة التي يبلغ تعداد سكانها نحو 1.4 مليار نسمة، ليصبح ذلك أحد الأسباب الرئيسية في الموجة الفتاكة الحالية، بحسب خبراء الصحة في الهند وخارجها.
وكتبت الصحفيتان في The Washington Post جوانا سلاتر ونيها مسيح: "بدلاً من الاستعدادات العاجلة لموجة ثانية من الفيروس في نظام رعاية صحية ضعيف بالفعل، صبَّت الحكومة قدراً كبيراً من تركيزها على اللقاحات، وهي حملة محدودة للغاية لن تكفي للحد من الكارثة القادمة… وبدلاً من توخي الحذر فضلت الحكومة تهنئة نفسها مراراً وتكراراً، وأعلنت في الشهر الماضي أنَّ الوباء في مراحله الأخيرة في الهند".
كما كتب العالم السياسي سوهاس بالشيكار في صحيفة The Indian Express: "في غضون 15 شهراً، قدَّمت حكومتنا درساً نموذجياً في سوء الإدارة. أولاً كان هناك إغلاق قاسٍ وغير فعَّال إلى حد ما أثبت أنه مدمر لاقتصاد الدولة". وبعده كافحت الحكومة لتوفير الإغاثة الاقتصادية الكافية لبلد منكوب، وفشلت في تعزيز البنية التحتية للرعاية الصحية الحيوية وتباطأت في طرح اللقاح.
بولسونارو.. ترامب البرازيل
وعلى الناحية الأخرى من الكرة الأرضية، وتحديداً في أمريكا الجنوبية والدولة الأكبر فيها البرازيل لا تختلف الأمور كثيراً، حيث كتب تيرانس ماكوي، الصحفي في The Washington Post: "منذ بداية الوباء استَخفَّت الحكومة البرازيلية بخطورة الفيروس الذي أنهك جسد دولة تعدادها 120 مليوناً. ودعا بولسونارو الشعب للاستمرار في حياتهم الطبيعية، واستمع له عدد كافٍ -إما بسبب الفقر، أو السياسة، أو الملل- مما قوَّض إجراءات احتواء غير متكافئة مع حدة الفيروس".
وفي الأسبوع الماضي، بدأت لجنة تابعة لمجلس الشيوخ التحقيق في دور بولسونارو في الكارثة الوبائية التي تواجهها الدولة. وقد يقدم التحقيق أدلة ربما تقود إلى محاكمته برلمانياً. وقال هامبرتو كوستا، عضو المعارضة في اللجنة، لصحيفة The Intercept: "إنها مأساة صحية واقتصادية وسياسية حقيقية، والمسؤولية الرئيسية تقع على عاتق الرئيس".
ويعيد هذا النموذجان إلى الأذهان ما قاله الفيلسوف السياسي فرانسيس فوكوياما العام الماضي رداً على سؤال: هل كانت بعض الأنظمة السياسية في وضع أفضل يسمح لها بهزيمة الوباء أكثر من نظيراتها؟ إذ قال فوكوياما لشبكة BBC وقتها: "قد تنجح جائحة كوفيد فعلاً في تهدئة فورة الشعبوية. لا أعتقد أنَّ هناك ترابطاً بين كون الدولة ديمقراطية والأداء الجيد أو السيئ [في التعامل مع فيروس كورونا المستجد]. لكن هناك بلا شك علاقة بين كونك قيادياً شعبوياً والأداء السيئ".
وكان فوكوياما يتحدث وقتها تحديداً عن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، واتخذ إدارته للوباء مثالاً نموذجياً على الإدارة الخاطئة للكارثة الصحية، حيث ارتفعت أعداد الإصابات ارتفاعاً حاداً في الوقت الذي تخبط فيه البيت الأبيض في الرد الفيدرالي، وتنازع مع حكام الولايات وألقى بظلال من الشك على توصيات خبراء الصحة العامة، وألقى باللوم على الخصوم الأجانب والمنافسين المحليين على حد سواء.
وذهب الجدل إلى القول إنَّ النزعة القومية المتعالية من النوع الترامبي لا يمكن أن تقدم الكثير في مواجهة الوباء الذي يتطلب حكماً تكنوقراطياً رصيناً وتنسيقاً دولياً، وبعد مرور عام لا يزال تشخيص فوكوياما دقيقاً على نطاق واسع.
هؤلاء أيضاً فشلوا في إدارة حرب الوباء
لكن هذا الأمر لا يتعلق فقط بالهند والبرازيل وقبلهما الولايات المتحدة، فقد حقق الزعماء الشعبويون، على حد تعبير فوكوياما، إخفاقات فادحة في أماكن أخرى، بينما استخدموا ذريعة الوباء لتعميق حكمهم، ويمكن القول إنَّ هذا ينطبق على الفلبين، حيث اتهم النقاد الرئيس القومي القوي رودريغو دوتيرتي بتقليص المساحة الديمقراطية في البلاد من خلال إجراءات الإغلاق التي اتخذتها حكومته.
ومع ذلك، أثارت الطفرة الحالية للفيروس مخاوف من أنَّ مستشفيات مانيلا قد تئن تحت وطأة الإصابات قريباً. وفي المجر فرض رئيس الوزراء غير الليبرالي فيكتور أوربان قانون الطوارئ لفترة وجيزة العام الماضي، ومع ذلك لا تزال بلاده تسجل واحدة من أعلى معدلات الوفيات الناجمة عن فيروس كورونا المستجد في العالم، بحسب تحليل واشنطن بوست.
وأوروبا أيضاً مليئة بالحكومات التي تديرها أحزاب أو فصائل وسطية تابعة لليسار، والتي تعثرت أيضاً وسط الوباء، بما في ذلك حكومات تحالف يسار الوسط من إسبانيا إلى بلجيكا إلى إيطاليا، وباستثناء أستراليا ونيوزيلندا، حيث حصلت كل من الحكومة اليمينية في الأولى وحكومة يسار الوسط في الثانية على دفعة تعزيز في مواجهة الوباء بسبب بعدهما الجغرافي، سُجِّلَت دراسات الحالة الوحيدة المستمرة لحكومات أدت "أداءً جيداً" خلال الوباء في آسيا.
ويُنظَر على نطاق واسع إلى دول مثل فيتنام وتايوان وكوريا الجنوبية وسنغافورة على أنها نماذج للنجاح، رغم أنَّ أنظمتها السياسية وقادتها مختلفون تماماً، وقد نجحت الصين، حيث ظهر الفيروس لأول مرة، في تضييق الخناق على انتشاره من خلال حشد استبدادي لا يمكن أن تضاهيه دول أخرى.
لكن الحكم القومي المتخبط لم يعد يهمين على عناوين الصحف خلال فترة الوباء، فقد أشعل طرح اللقاحات نقاشاً مختلفاً تماماً حول أخلاقيات قومية اللقاح والجغرافيا السياسية لإنتاج اللقاحات وتوزيعها، وفي هذا النقاش يتعلق الأمر أكثر بالأثرياء مقابل مفتقري الموارد عالمياً، في ظل تسابق إدارة بايدن لتطعيم السكان الأمريكيين بأكملهم، بينما لم تتحرك إلا مؤخراً للمساعدة في توسيع وصول اللقاح إلى أجزاء أخرى من العالم.
وفي هذا السياق، كتب أخيل راميش، الزميل في منتدى المحيط الهادئ: "برهن القادة الذين نصَّبوا أنفسهم على رأس النظام الدولي الليبرالي، بأنهم قوميون، على الأقل فيما يتعلق باللقاحات والأدوية والإمدادات الحيوية الأخرى. بينما أثبت القوميون في الشرق، الذين يتعرضون للسخرية باستمرار، أنهم عولميون متعاطفون؛ إذ تقود الصين والهند الطريق في دبلوماسية اللقاحات".
والخلاصة هنا هي أن زعماء اليمين المتطرف والشعبوي من أمثال مودي وبولسونارو ودوتيرتي وقبلهم ترامب وغيرهم قد كان لسياساتهم دور لا يمكن إنكاره في فشل بلادهم في إدارة حرب الوباء، ما تسبب في تفاقمه بالصورة التي حدثت ولا تزال.