إذا اعتقدت أنه تاجر سلاح كبير، فإن هيئة إيميليان جيبريف قد تفاجئك بما تبدو عليه من تواضع وسمته الأقرب إلى سمت جدٍّ مرتبك، لا سيما بإيثاره ارتداء قمصان كرة القدم وتي شيرتات البولو على البدلات وربطات العنق، وإصراره على قيادة سيارته بنفسه وتشديده المتواصل على أنه لا أهمية له خارج وطنه بلغاريا.
لكنّ أموراً وقعت هذا الأسبوع، جاءت لتكشف بوضوح عن مدى أهمية جيبريف، على الأقل من جانب إحدى فرق نخبة العملاء الروس داخل جهاز الاستخبارات العسكرية في الكرملين، بحسب تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
أهميته عُرفت بالصدفة!
إذ بعد أيام من اتهام السلطات التشيكية لفريق الاغتيال الروسي، المعروف باسم الوحدة 29155، بالوقوف وراء سلسلة التفجيرات التي وقعت عام 2014 في مستودع أسلحة وأسفرت عن مقتل شخصين، أقرَّ جيبريف بأنه صاحب البضائع والأسلحة التي كانت مخزنةً في تلك المستودعات. ووفقاً لمسؤولين تشكيين، كانت بضائع جيبريف هي الهدف.
هذا الكشف هو تطور جديد ولافت للانتباه، خاصة أن السلطات تقول إن الفرقة الروسية حاولت بالفعل مرتين اغتيال جيبريف. ففي عام 2015، قالت السلطات البلغارية إن ضباطاً تابعين للوحدة الروسية سافروا إلى بلغاريا وسمَّموا جيبريف بمادة تشبه غاز الأعصاب "نوفيتشوك" نفسه الذي استُخدم ضد جواسيس سابقين ومعارضين شرسين للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وبعد أن فشلت المحاولة الأولى لقتله، عاد العملاء وحاولوا تسميمه مرة أخرى.
لطالما كان هناك نوع من الغموض بشأن السبب وراء إصرار الروس على التمكن من جيبريف. لكن الآن تضيف القضية التشيكية أدلةً أخرى على أن الكرملين كان يلاحقه بسبب تجارته وصفقاته في بيع الأسلحة.
في رسالة بريد إلكتروني مرسلة إلى صحيفة The New York Times، أقرَّ جيبريف بأنه كان يخزن ذخيرة تابعة له في مستودع الأسلحة التشيكي، واعترف بشيء لطالما نفاه: أن شركته "إمكو" Emco شحنَت معدات عسكرية إلى أوكرانيا في أعقاب الأحداث التي وقعت هناك في عام 2014، عندما أطلق انفصاليون مدعومون من الجيش الروسي وأجهزة استخبارات تابعة لروسيا حرباً ضد القوات الأوكرانية.
من جهة أخرى، جاء الكشف عن مشاركة الفريق الروسي في التفجيرات التي وقعت في جمهورية التشيك ليضيف جديداً إلى قائمة متنامية من العمليات المنسوبة إلى الوحدة 29155، ويصبُّ مزيداً من الزيت على نار التوترات المشتعلة بالفعل بين روسيا والدول الغربية.
الرد الدبلوماسي على واقعة روسيا
على إثر ذلك، قالت الحكومة التشيكية يوم الخميس 22 أبريل/نيسان إنها ستطرد نحو 60 دبلوماسياً روسياً، بالإضافة إلى 18 دبلوماسياً كانت قد طردتهم بالفعل من البلاد ردَّاً على التورط في الانفجارات، وهو ما قد يفضي إلى تفكيك شبه كامل للوجود الدبلوماسي الروسي في البلاد. وفي المقابل، تعهدت روسيا بالرد وفقاً لذلك، وطردت بالفعل 20 مسؤولاً من السفارة التشيكية في موسكو.
لسنوات، عملت وحدة العملاء 29155 في أوروبا قبل أن تكتشفها وكالات الاستخبارات الغربية. وكشف تحقيق أجرته صحيفة The New York Times في عام 2019 عن الغرض من الوحدة وبيّن أن ضباطها هم من نفذوا محاولة اغتيال وقعت قبلها بعام لجاسوس روسي سابق يُدعى سيرغي سكريبال، كان قد تعرض لمحاولة تسميم في سالزبوري بإنجلترا.
اتهم المدعون البلغاريون ثلاثة ضباط من الوحدة 29155 بتسميم جيبريف في يناير/كانون الثاني 2020 وأصدروا أوامر بالقبض عليهم. كما نشرت الجهات المختصة فيديو مراقبة يظهر فيه أحد المهاجمين وهو يضع السم على مقابض أبواب سيارات جيبريف وابنه وأحد مساعديه البارزين في مرآب يقع بالقرب من مكاتبهم في العاصمة البلغارية صوفيا.
ومع ذلك، يشكك جيبريف في احتمال أن تكون الوحدة قد تصرفت بمفردها، ما يشير إلى أنه حتى لو كان القتلة الروس هم المسؤولين عن تسميمه، فإن هناك احتمالاً بارزاً بأن يكونوا متواطئين مع أعداء له في بلغاريا.
في صيف وخريف عام 2019، التقى مراسل صحيفة The New York Times، مايكل شويرتز، بالتاجر البلغاري جيبريف عدة مرات، ويقول شويرتز إنه تجوَّل معه في أحد مصانع الذخيرة الخاصة به بالقرب من بلدة بلغارية تُدعى مونتانا، حيث تجري عمليات تعبئة قذائف الهاون بأحجام مختلفة في صناديق خضراء وشحنها إلى جميع أنحاء العالم. غير أن جيبريف لم يكشف وقتها عن أي علاقة له بالتفجيرات التشيكية، وتحدث فقط على مضضٍ عن المرتين اللتين سُمِّم فيهما.
ما علاقته بأوكرانيا؟
كما بدا جيبريف خلال اللقاء ممانِعاً لأي استرسال في الحديث عن علاقة شركته بأوكرانيا. ففي البداية، قال إن شركته أوقفت جميع صادرات الذخيرة إلى أوكرانيا مع بداية الحرب في عام 2014. لكن يوم الجمعة الماضي 23 أبريل/نيسان، أقرَّ بأن شركته "إمكو" وقَّعت عقداً مع "شركات أوكرانية مرخَّصة" في أواخر عام 2014 بعد بدء الحرب. وفي تواصل سابق عبر البريد الإلكتروني، أصرَّ جيبريف على أن الأسلحة المخزنة في المستودعات التشيكية لم تكن مخصصة لأوكرانيا.
من جهة أخرى، قال مسؤول أوكراني حالي وآخر سابق، تحدثا شريطة عدم الكشف عن هويتهما لأن الحديث يتعلق بمعلومات عسكرية سرية، إن "إمكو" وقَّعت عقداً في عام 2014 لتوفير ذخيرة مدفعية للجيش الأوكراني. وقال المسؤول السابق إن تدابير اتّخذت للحيطة من محاولة المتعاطفين مع روسيا في الحكومة البلغارية من قطع طريق الشحنات، ولذلك وُضعت ملصقات على صناديق الذخيرة تُظهرها كما لو كانت متجهة إلى تايلاند. (غير أن جيبريف نفى تلك المعلومة).
اكتشفت الحكومة الروسية الشحنات على أي حال، وفقاً للمسؤول السابق، وضغطت على الحكومة الروسية لوضع حدٍّ لها.
وفي هذا السياق، كان تقديم مساعدة عسكرية للحكومة الأوكرانية في أي وقت منذ عام 2014 ينطوي على مخاطرة كبيرة.
لكن بعد أن أطاح المتظاهرون المؤيدون للديمقراطية بحكومة الكرملين العميلة هناك، استولت وحدات من القوات الخاصة الروسية التي ارتدت زياً عسكرياً لا يكشف عن هويتها على شبه جزيرة القرم وحرَّضت على انتفاضة انفصالية لا تزال مستمرة في شرق شبه الجزيرة.
فرق الاغتيالات الروسية تجتاح العالم
وفي غضون ذلك، انتشرت فرق الاغتيالات الروسية في جميع أنحاء البلاد، وأسفرت عملياتهم عن مقتل كبار المسؤولين في الجيش والاستخبارات الأوكرانية، وفقاً لمسؤولين أوكرانيين.
بالعودة إلى الحاضر، قال رئيس وزراء جمهورية التشيك، أندريه بابيس، هذا الأسبوع، إن التفجيرات كانت "هجوماً غير مسبوق على الأراضي التشيكية"، لكنه أوضح أن الهدف الحقيقي لم يكن بلاده، بل "بضائع تخص تاجر أسلحة بلغارياً".
يُذكر أن الانفجارات التي وقعت في أكتوبر/تشرين الأول وديسمبر/كانون الأول 2014، كانت قد نُسبت في البداية إلى عطل فني. ولم يتضح بعد سبع سنوات كيف خلُصت السلطات التشيكية إلى أن الانفجارات كانت جزءاً من أعمال تخريبية روسية.
يقول خبراء أمنيون غربيون إن جمهورية التشيك لطالما كانت منذ فترة طويلة قاعدة انطلاق لعمليات الاستخبارات الروسية. والسفارة الروسية في العاصمة التشيكية براغ هي إحدى أكبر سفارات روسيا في أوروبا. ويُعتقد أن جميع مسؤولي السفارة البالغ عددهم 18 الذين طردتهم الحكومة التشيكية حتى الآن، رداً على التفجيرات، كانوا جواسيس.
أحد العاملين في السفارة، ويُدعى فيكتور بودياك، حصل على اعتماده في أوائل عام 2020 للعمل كنائب للملحق العسكري. وكان بودياك عمل في وقت من الأوقات ضابطاً بارزاً في الوحدة 29155، ومن المحتمل أن يكون قد شارك في دعم أنشطة الوحدة في جمهورية التشيك وأماكن أخرى في أوروبا الشرقية خلال السنوات الأخيرة، وفقاً لمسؤول أمني أوروبي.
هناك مؤشرات على أن مهمة تفجير مستودعات جيبريف كانت ذات أهمية قصوى للكرملين. وكانت منظمة التحقيقات Bellingcat راجعت سجلات السفر، لتكشف أن الميجور جنرال (لواء) أندريه ف. أفيريانوف، قائد الوحدة 29155، سافر متخفياً إلى فيينا قبل أيام من التفجيرات، وربما توجه بالسيارة إلى جمهورية التشيك، ثم إلى أوسترافا حيث -وفقاً للسلطات التشيكية- كان يتمركز الرجلان اللذان كشفت عنهما تسجيلات المراقبة وشاركا في العملية تحت اسمي بتروف وبوشيروف.
من جهة أخرى، لطالما أثار قيام الجواسيس الروس بعمليات تخريبية، على غرار العمليات العسكرية خارج أزمنة الحرب، اضطراباً كبيراً في أوروبا.
وعن ذلك، يقول ديفيد ستوليك، كبير المحللين في "مركز القيم الأوروبية لسياسات الأمن": "أعتقد أن هذا أمر مروع، ليس فقط لجمهورية التشيك، لكن للدول الأخرى أيضاً في الاتحاد الأوروبي. إنه أمر يكشف بجلاء عن كيفية تعامل روسيا مع البلدان الأوروبية".