"انقلاب في تونس يجرى الإعداد له بشكل هادئ وشبه دستوري"، بات هذا الحديث يتردد في البلاد تعليقاً على المواقف والتحركات الأخيرة التي يقوم بها الرئيس التونسي قيس سعيد.
إذ انتشرت في الفترة الأخيرة تساؤلات بين العديد من التونسيين حول ما إذا كان الرئيس قيس سعيد يحضر لانقلاب دستوري هادئ.
تأتي تلك التساؤلات في ضوء سلسلة من التحركات المتزايدة في عدوانيتها التي عمد إليها الرئيس التونسي، قيس سعيد، خلال الأشهر الأخيرة، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
ودفع ذلك بعض المراقبين إلى التحذير من أن سعيد قد يكون بصدد تمهيدِ الطريق لمزيدٍ من الإجراءات الرامية إلى القضاء على خصومه وتعزيز سلطاته الرئاسية، بناء على تفسيره هو الخاص لدستور البلاد الذي وُضع في أعقاب الثورة التونسية، وفقاً للموقع البريطاني.
وتعزز قلق البعض من سيناريو حدوث انقلاب في تونس، بعد زيارة سعيد للقاهرة ولقائه بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الأمر الذي قوبل بانتقادات حادة في الأوسط التونسية.
قيس سعيد مسار غير مألوف
شقَّ سعيد لنفسه مساراً غير مألوف في السياسة التونسية المعاصرة، فهو أستاذ القانون الدستوري المغمور الذي ترشح مستقلاً دون دعمٍ من حملة منظمة أو تمويلٍ باهظ، ومع ذلك فاز بأكثر من 70% من الأصوات في أكتوبر/تشرين الأول 2019.
وهو، بحكم التعريف، رئيساً شعبوياً، لكن ليس شعبوية دونالد ترامب أو فيكتور أوربان؛ فهو يتمتع بسجل نظيف، وينطلق من أرضية التعهد بمحاربة الفساد، وحتى الآن بدت نيته معقودة على الإصلاح. كما أنه يبذل الجهود ليبدو في صورة الرجل العادي الذي لا يتكلَّف البساطة ولا يدَّعي اختلافاً عن مواطنيه.
مع ذلك، ومنذ بداية العام، تشهد تونس وجهاً جديداً لسعيد، ففي الأشهر الأخيرة، ثابر الرجل على صورة العنيد الصامد الذي يتمتع بضربٍ، وإن بدا مبالغاً فيه في بعض الأحيان، من الحنكة السياسية، وأظهر عدم الاستعداد للتفاوض أو التسوية مع خصومه.
لكن من جهة أخرى، يشعر بعض التونسيين أنه ربما هذا هو بالضبط ما تحتاج إليه البلاد، ويبدو سعيد في هذا السياق مؤشراً على عمق الانقسام السياسي الذي لا ينفك يترسخ في تونس منذ العام الماضي.
أنا القائد الأعلى للشرطة والجيش
ففي فعالية أُقيمت يوم الأحد الماضي 18 أبريل/نيسان بمناسبة الاحتفال بالذكرى الخامسة والستين لتأسيس قوات الأمن الداخلي التونسية، بعث سعيد في خطابه برسالة واضحة، إن لم تكن تهديدية، إلى رئيس الوزراء هشام المشيشي، الذي كان يعدُّ حليفه في مرحلة سابقة، بأنه بات خصماً سياسياً لرئيس البلاد.
وقال سعيد في خطابه، الذي كان من بين حضوره كل من المشيشي وخصم آخر من خصوم الرئيس البارزين، رئيس البرلمان وزعيم حزب النهضة راشد الغنوشي: "رئيس الدولة هو القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية وللقوات المسلحة المدنية، وليكن هذا الأمر واضحاً لكل التونسيين"، وأضاف: "لا يوجد تمييز. القانون ودساتير العالم وقوانين العقود واللوائح كلها تنص على ذلك؛ القوات المسلحة تشمل الجيش وقوات الأمن".
جاءت إشارة سعيد الصريحة بأن رئيس البلاد له السلطة على قوات الأمن الداخلي في البلاد، وليس الجيش فقط، لتضع عديداً من المراقبين والسياسيين في تونس في حالة ترقب وتأهب قصوى لما يمكن أن يحدث بناء على ذلك.
واقع الأمر أن الدستور التونسي لعام 2014 التفت بعناية إلى الفصل بين السلطات وما يخضع منها للسلطة التنفيذية، وتمنح بنوده الرئيسَ صلاحيات فيما يخص الشؤون الدبلوماسية والعسكرية، فيما تخضع وزارة الداخلية وقوات الأمن الداخلي، من الناحية النظرية، لسيطرة رئيس الوزراء.
قد يبدو هذا الجدل الأخير نقاشاً في تفاصيل دستورية دقيقة للبعض، لكنه يتعقب نمطاً من خطاب يزداد تشدداً من جانب الرئيس ويطالب فيه بأن تكون له اليد العليا في السيطرة على النزاع السياسي الذي شلَّ البرلمان وعطّل مسار الإدارة السليمة للحكم في البلاد لعدة أشهر.
المعضلة الكبرى في المحكمة الدستورية العليا
في يناير/كانون الثاني، رفض سعيد استدعاء أربعة وزراء اختارهم المشيشي في تعديل وزاري لحلف اليمين الدستوري أمامه، قائلاً إن الأفراد المعنيين تعلق بهم شبهات تضاربٍ في المصالح.
ثم خلال الأسبوع الماضي، وفي خطوة أثارت قلق كثيرين، أوقف سعيد جهود البرلمان للمضي قدماً في إنشاء محكمة دستورية تونسية، على الرغم من أن إنشاء المحكمة الدستورية لطالما عُدَّ عنصراً أساسياً في أهداف الثورة التونسية وآمالها في ديمقراطية مرنة لم يُكتب لها التأسيس بعد.
لكن سعيد قال إن المهلة المحددة لإنشاء المحكمة قد انقضت وإن الحكومة تباطأت. ورأى بعض المراقبين في ذلك علامةً على أن سعيد شعر بالتهديد من تحركات الغنوشي -المدفوعة سياسياً، إذا نظرنا إلى توقيتها، لأن محكمةً من هذا النوع قد تكون الطريقة الوحيدة لإلزام سعيد بحدوده الدستورية وإبطال مفعول تحركاته- ومن ثم فإن سعيد قاوم هذه الخطوة ليحرم البرلمان حيازة مزيدٍ من السلطة.
ويؤدي غياب المحكمة الدستورية في البلاد إلى تعقيد الأزمة بين سعيد والبرلمان والحكومة، لأنه ليس هناك جهة تحسم الخلافات حول الصلاحيات الدستورية للأطراف الثلاثة.
قرار الرفض، برره الرئيس التونسي في رسالة وجهها إلى رئيس البرلمان بجملة من الحجج القانونية، أولها تجاوز البرلمان الآجال الدستورية المحددة بسنة من الانتخابات التشريعية كحد أقصى لإرساء المحكمة الدستورية، مستنداً في ذلك إلى الفقرة الخامسة من الفصل 148 من دستور 2014.كما استند قيس سعيد إلى حجج قانونية أخرى "متصلة بما شهدته تونس منذ وضع الدستور إلى اليوم".
وفي السياق هذا، دعا رئيس الجمهورية إلى احترام كل أحكام الدستور "بعيداً عن أي تأويل غير علمي بل وغير بريء"، حسب نص الرسالة.
وفتح رفض قيس سعيد التوقيع على هذه التعديلات التي سيتم بمقتضاها انتخاب بقية أعضاء المحكمة الدستورية سجالاً سياسياً ودستورياً واسعاً، بين من اعتبره حقاً يكفله الدستور لرئيس الجمهورية وبين من يرى فيه استغلالاً للدستور وتأويلاً غير شرعي لأحكامه.
ولكن النقطة التي أثارت حفيظة العديد من الدستوريين والسياسيين هي حديث قيس سعيد عن انقضاء الآجال القانونية لإرساء المحكمة الدستورية، وهو ما يوحي باستحالة تشكيلها مستقبلاً.
وقال الأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي إن المعنى السياسي لهذا التعليل يفضي إلى إسقاط حق البرلمان في انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية واستحالة تشكيلها، معتبراً أن هذا التأويل خاطئ وخطير.
"انقلاب في تونس ولكنه ناعم"
واتهمت حركة النهضة الحزب الأغلبية في البرلمان التونسي في بيان حمل توقيع زعيمها، راشد الغنوشي، رئيس الدولة بـ"خرق الدستور، معتبرة أنّ "إقحام المؤسسة الأمنية في الصراعات يمثل تهديداً للديمقراطية والسلم الأهلي ومكاسب الثورة".
حركة النهضة، استغربت من عودة رئيس الدولة إلى خرق الدستور، كما اعتبرت إعلانه نفسه قائداً أعلى للقوات المدنية الحاملة للسلاح دوساً على الدستور وقوانين البلاد، وتعدّياً على النظام السياسي وعلى صلاحيات رئيس الحكومة، رافضة ما وصفته بالمنزع التسلطي لقيس سعيد داعية القوى الديمقراطية إلى رفض هذا المنزع واستكمال البناء الديمقراطي وتركيز المحكمة الدستورية وذلك بحسب نصّ البيان.
وفي تصريحات أطلقها يوم الاثنين 19 أبريل/نيسان، اتهم زعيم حزب "أمل" التونسي أحمد نجيب الشابي، رئيسَ البلاد سعيد بالسعي إلى تنفيذ "انقلاب ناعم"، فيما كتبت L'Economiste Maghrebin أن الخطاب كان علامة على "نزعة سعيد المتعذِّر ضبطها إلى الهيمنة على السلطة".
وكتب أستاذ القانون الدستوري رابح الخرايفي، في منشور على موقع فيسبوك، أن هذه التصريحات قد تعني أن رئيس البلاد "مقبل على اتخاذ قرارات مؤلمة و[خوض] أيام صعبة، قد تبدأ بجملة من الاعتقالات في صفوف نواب"، في إشارة إلى قول سعيد إن السياسيين لا يمكنهم الاعتماد على الحصانة.
وقال الخرايفي إن "المهم في هذا الخطاب هو أنه بلاغ لجميع التشكيلات الأمنية بأن القرارات والتعليمات تصدر من عند الرئيس وحده، ويعني بذلك ويدعوهم إلى عدم الاستماع لرئيس الحكومة".
وفي تصريحات أدلى بها لموقع Middle East Eye، تحدث رضوان المصمودي، عضو اللجنة السياسية لحركة النهضة، عن مخاوفه المستندة إلى أن إصرار سعيد على إعادة تفسير الدستور قد يؤدي إلى "قرارات خطيرة" قد تفضي إلى ما يعادل انقلاباً عسكرياً.
يقول المصمودي: "لن يكون الأمر انقلاباً عسكرياً تقليدياً -فهذا مستحيل في تونس، لكن الممكن هو إنهاء التحول الديمقراطي في تونس، فمع استمرار التدهور في الوضع الاقتصادي والاجتماعي، قد تصل البلاد إلى وضوع فوضوي وشديد التردِّي".
لا يستطيع الانقلاب حتى لو أراد
ومع ذلك، يؤكد عديد من المحللين أن الأمر حتى الآن لا يزال في حيز الكلام، وأنه حتى لو أراد سعيد التصرف بهذه الطريقة، فليس لديه الموارد التي تكفل له الوصول إلى أهدافه.
ذهب يوسف الشريف، وهو خبير في الشؤون السياسية لدول شمال إفريقيا، في مقابلته مع MEE إلى هذا الرأي، وقال إنه "من التطرف القول إن هذا انقلاب. بالتأكيد، يريد سعيد العودة إلى نظام رئاسي، لكنه لا يملك الأدوات لذلك ولا فريقاً قوياً لتنفيذ ما يقول إنه يريد القيام به".
وعلى المنوال ذاته، يقول المحلل السياسي طارق الكحلاوي، إن أولئك الذي يصورون خطاب سعيد على أنه "انقلاب في تونس" مدفوعون إلى ذلك بمواقفهم السياسية، "فميزانُ القوى السياسي في البلاد لا يتيح له إمكانية [الانقلاب].. هذه حرب كلامية ومشكلة افتقار إلى الثقة" بين الرئيس ومعارضيه.
ويرى الكحلاوي أن ما دفع سعيد إلى سلوكه الأخير هو صراعه المستمر منذ فترة طويلة ويهيمن عليه انعدام الثقة مع الغنوشي وحركة النهضة، ومؤخراً مع المشيشي.
ويقول الكحلاوي: "ما يفعله قيس سعيد لا يأتي وفقاً لسيناريو مُعد، بل يتطور مع تغير الوضع. افتقاره إلى الثقة بالأحزاب السياسية آخذ في الازدياد، لكن هذا لم يكن موقفه منذ البداية".
ويوضح الكحلاوي الأمر بأن جزءاً من القضية هو أن سعيد ليس سياسياً تقليدياً، وتعليقاته ذات الطابع السياسي لا ينبني عليها تحركات على مستويات ثانية أو ثالثة، و"تصرفاته ليست موجهة لضحيةٍ تصمت ولا تفعل شيئاً: فالطرف الآخر يعمد إلى كثير من المناورات السياسية السرية، ويتحدث بخطاب مزدوج، لذلك فهو متوتر على نحو متزايد".
وبحسب يوسف الشريف، الخبير في الشؤون السياسية لدول شمال إفريقيا، فإن الصراع بين الغنوشي وسعيد بدأ يخرج عن السيطرة، مضيفاً أنه قد يفضي في النهاية إلى حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة.
لا يزال محافظاً على شعبيته
على الرغم من افتقاره التام إلى أي خبرة سياسية أو دعم حزبي، فإن شعبية سعيد بين الناخبين هي التي تبقيه صامداً. ويقول محللون إن استمرار شعبيته مرجعها إلى معارضة سعيد الصامدة لحركة النهضة والنخبة السياسية في البلاد.
وتشير التقديرات الخاصة باستطلاعات الرأي الأخيرة إلى نسبة التأييد له بلغت عتبة 50%، متقدماً على غيره من قادة الأحزاب والسياسيين بفارق كبير.
يقول الشريف: "لقد طرح نوعاً من القطيعة الواضحة مع هذا النظام السياسي. وهو لا يسعى إلى أي نوع من التسوية أو التفاوض مع ممثلين مختلفين للحكومة، والناس يحبون ذلك، ولهذا السبب صوتوا له، ودافعُهم الأساسي إلى ذلك بغضُهم للشخصيات السياسية الأخرى".
ومع ذلك، يجادل الشريف بأنه "في ظروف أخرى، كان سيفقد شعبيته… فهو لا يعمل على تغيير النظام ويقود البلاد إلى طريق مسدود دون تقديم بديل".
في المقابل، يعتقد أن كثيراً من أنصار سعيد أن النظام البرلماني هش ويرغبون في عودة النظام الرئاسي، قائلين إن حكومة قوية وموحدة هي ما تحتاج إليه تونس، لاسيما وهي تواجه أزمة اقتصادية غير مسبوقة.
غير أن المصمودي، المنتمي إلى حركة النهضة، يقول إن تونس بحاجة إلى مزيد من الوقت لتأمين الانتقال الديمقراطي للبلاد، وإن أي إصلاحات من هذا النوع تخاطر بعودة البلاد إلى الديكتاتورية. ويلخص الأمر من وجهة نظره بالقول: "تونس لا يمكن أن يحكمها رجل واحد، لم يعد هناك مكان لهيمنة الرجل الواحد" على حكم البلاد.