"العمل مع ميركل كالعمل بجوار محطة طاقة نووية"، كان هذا وصف جنرال ألماني كبير أصبح واحداً من كبار موظفي المستشارية الألمانية.
يقول الجنرال "إنها لا تتوقف عن العمل"، حسبما تنقل عنه الخبيرة الألمانية السياسية كونستانز ستيلزنمولر في مقال نشر بمجلة Foreign Affairs الأمريكية.
ولكن سجل ميركل التي تقترب من تسليم السلطة، بقدر احتوائه على إنجازات كبيرة، يضم إخفاقات بعضها قد تعاني ألمانيا وأوروبا من آثاره لسنوات.
أكثر زعماء العالم تمتعاً بثقة الناس حتى إنها تنافس باربي
باتت أنجيلا ميركل الآن في الأشهر الأخيرة من ولايتها الرابعة والأخيرة كمستشارةٍ لألمانيا، والتي من المقرر أن تنتهي بالانتخابات الوطنية في الـ26 من سبتمبر/أيلول. ولم يشغل أحدٌ هذا المنصب لفترةٍ أطول منها، باستثناء المستشار هلموت كول الذي أشرف على ضم ألمانيا الشرقية والغربية عام 1990. كما أظهر استطلاعٌ للرأي العام الماضي أنّ ميركل هي أكثر زعماء العالم تمتعاً بثقة الناس.
في حين صنّفتها مجلة Forbes الأمريكية على أنّها أقوى امرأة في العالم لعشر سنوات متتالية. وفي عام 2009، وصل الأمر بشركة الألعاب Mattel إلى صنع دمية لأنجيلا ميركل على شكل باربي. كذلك بدأ المعلقون الأمريكيون والبريطانيون منذ فترة في وصفها بـ"زعيمة العالم الحر"، نتيجة استيائهم من قادتهم، وهو اللقب الذي يُقال إنّ المستشارة تكرهه.
ولكن في الوقت ذاته، فإنّ غموض ميركل وحذرها التكنوقراطي أثارا إحباط وغضب من أرادوا لألمانيا أن تُقدّم رؤيةً أوضح لدورها في نظام العالم الليبرالي، وأن تتحمل مسؤولية الدفاع عن هذا النظام وصياغته- أو حتى تعترف بتأثير قراراتها على جيرانها وحلفائها وتحاول تخفيفها.
ورغم أنّ المستشارة المحافظة (66 عاماً) ما تزال أكثر سياسية محبوبة في بلدها، لكن القبول الجماهيري لحكومتها تراجع بشدة، في ظل نمو الإحباط الناجم عن طريقة الإدارة العشوائية لجائحة كوفيد.
وبالتالي فإنّ النهاية الوشيكة لحقبة ميركل تُثير الكثير من الأسئلة التي تحمل دروساً مستفادة مهمة- على الأقل لأولئك الذين يطمحون لخلافتها. فماذا كانت وصفتها للسلطة؟ وهل يمكن تكرارها؟ وهل جعلت رئاستها ألمانيا وجيرانها وحلفاءها أفضل حالاً؟ وهل هيّأت بلادها للمستقبل؟
المرأة المطلقة التي لم يكن أحد يتخيل أن تصبح مستشارة لألمانيا
في بداية حياتها المهنية، كانت فكرة أن تصير ميركل مستشارةً لألمانيا هي أبعد ما يكون عن المنطق، إذ ستخلف بذلك سلسلةً من كبار رجال السياسة الضخام من ألمانيا الغربية، الذين يشربون الخمر والسجائر ويغازلون النساء بكثرة، حسبما ورد في مقال مجلة Foreign Affairs الأمريكية.
وحين انهار جدار برلين عام 1989، كانت ميركل كيميائيةً مطلقة في الـ35 من عمرها، وتعمل في معهد للبحوث الأكاديمية ببرلين الشرقية. وكانت قد انضمت للتو إلى حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي حين اختارها كول كذلك لتأدية أكثر الوظائف صعوبةً في أول حكومةٍ للمستشار عقب إعادة توحيد ألمانيا: وزيرة المرأة والشباب. وتركت بصمةً لا تُنسى هناك بقدر البصمة التي تركتها في وظيفتها التالية وزيرةً للبيئة. وكان كول، المنشغل بتلميع إرثه والقضاء على منافسيه، يُشير إليها باسم: "تلك الفتاة".
ثم أجهزت على المستشار كول الذي أدخلها عالم السياسة
ولكن حين وجد كول نفسه غارقاً في فضيحة تمويل حزبية عام 1999، كانت ميركل- دون عشرات الشباب المحافظ الذي كان يُحيط بالعجوز- هي من أجهزت عليه بمقالةٍ على الصفحة الأولى من صحيفة Frankfurter Allgemeine Zeitung الألمانية اليومية. إذ طالبت باستقالته كرئيس فخري للحزب. وكانت رصاصة الرحمة التي أطلقتها هذه هي السبب وراء انتخابها رئيسةً للحزب. وبعد ست سنوات، صارت أول شخصٍ من ألمانيا الشرقية، وأول امرأة تُنتخب مستشارة في عام 2005.
ومنذ ذلك الحين، اجتازت ميركل سلسلةً مضنية من الاضطرابات الداخلية والخارجية، ومنها الأزمة المالية العالمية عام 2008 وما أعقبها من انهيار منطقة اليورو، وضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 وغزوها لأوكرانيا، ثم أزمة اللاجئين عام 2015 وما أعقبها من صعودٍ هائل للحزب اليميني المتشدد: البديل من أجل ألمانيا، وها هي الآن تُواجه أزمة جائحة كوفيد-19.
ملكة التسويات
وقد ظلت في السلطة لفترةٍ أطول من كافة أقرانها في البلدان الصناعية، باستثناء فلاديمير بوتين طبعاً. وقد مكّنها ذلك من التوسط في تسويات لا حصر لها بالاتحاد الأوروبي، ومؤتمرات مجموعة السبع، وقمم العشرين.
إلى جانب رئاستها لأربع حكومات ائتلافية في بلادها (ثلاثةٌ منها مع الحزب الديمقراطي الاجتماعي وواحدة مع الحزب الديمقراطي الحر). وقد تغلّبت على الزعماء المستبدين، والحلفاء، وشركاء التحالفات، وأعدائها داخل الحزب بذكائها.
ومع ذلك يظل الأمر الصادم أكثر من غيره عن المستشارة هو كونها طبيعيةً بكل صرامة. إذ يحمل صوت ميركل الواضح والخفيف نغمات الريف المليء بأشجار الصنوبر في شمال غرب برلين، حيث كان والدها قسيساً لوثرياً. ويتألّف زي عملها من أحذية مسطحة بسيطة، وسراويل سوداء، وإمدادات لا تنتهي من السترات الطويلة بكل لون.
وتعيش المستشارة مع زوجها، أستاذ الكيمياء المتقاعد، داخل شقتهما القديمة في برلين بدلاً من محل الإقامة الرسمي، وفرد الأمن الظاهر الوحيد هو ضابط شرطة واحد يقف أمام المبنى. وبموافقة أهالي برلين، تظهر ميركل أحياناً وهي تتمشى في وسط المدينة أو تتسوّق داخل السوبرماركت ومعها حراسها الشخصيون.
ويُمكن القول إنّ تواضع ميركل يُعتبر في حد ذاته معبراً عن مدى قوتها. إذ تقول كاتبة المقالة وصفها لي أحد الألمان بأنّها مجال قوةٍ متحرك: "أثناء الحديث معها، تُدرك أنك تخضع لتدقيقٍ هادئ وشامل في كل لحظة".
الوزراء يخشون إلمامها بالتفاصيل وبايدن لم يحب روحها
بينما تذكّر شخصٌ آخر اجتماعاً لميركل مع نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن عام 2013. إذ أطاحت بمحاولاته لإغرائها، وتابعت نقاط جدول أعمالها حتى شعرت بالرضا واقتنعت بأنّها حصلت على ما تحتاج لمعرفته. وبعدها ألغت اجتماعها التالي الذي كان مقرراً لمواصلة الحديث. "انتهى به المطاف وهو يحكي لها عن نظره إلى عيني الرئيس الروسي وقوله: أستطيع النظر إلى داخل روحك، ولكنها لا تُعجبني. وقد ردت على ذلك بتعبير وجهٍ يُشبه بوتين تماماً".
وأخلاقيات ميركل في العمل أسطوريةٌ بقدر روح دعابتها، إلى جانب إلمامها الكامل بأوراق الإحاطة، وشهيتها للمعلومات والجدال. حيث قال أمريكيٌ شهد بعض محادثاتها الهاتفية مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما إنّهما "يبدوان وكأنّهما في ندوةٍ لخريجي الجامعات". كما يخشى الوزراء ذاكرتها التي تحفظ أدق تفاصيل حقائبهم الوزارية- بما في ذلك أعقد التفاصيل الفنية والعلمية المرتبطة بالتجارة والتقنية الرقمية والجائحة. لكن أكثر ما يميز ميركل عن أقرانها هو قدرتها على التمسك بالسلطة في مواجهة كل الصعاب.
أسلوبها غير الخطابي يهزم أكفأ الدبلوماسيين
ومن أهم السمات التي تُميّز طريقتها هو أسلوبها في الحديث بطريقةٍ غير خطابية تضع المعلقين والدبلوماسيين على حدٍّ سواء في موقف أضعف.
ويرجع هذا الأسلوب إلى ما يصفه الاستراتيجيون الألمان بـ"التسريح غير المتكافئ": اجعل القضية مملة، وانزع التسييس عن الصراعات، وبالتالي ستُبقي ناخبي الخصوم بعيداً عن صناديق الاقتراع.
وقد مكّن هذا النهج ميركل من تحديث حزبها المحافظ، وجرّه إلى الوسط السياسي، وإبعاد شركاء تحالفها من الديمقراطيين الاجتماعيين والأحرار عن المشهد، واستغلال بعض عناصر منابرهم للاستفادة من المزايا الضريبية للآباء والحد الأدنى القانوني للأجور.
تعتمد على دائرة صغيرة من الموثوقين
والعمود الرئيسي الثاني الذي تقوم عليه طريقة إدارة ميركل للسلطة هو أنّها تُفوّض المسؤوليات، ولكنها تحد من ثقتها بشدة. إذ تتألّف الدائرة المقربة للمستشارة من فريقٍ صغير جداً ممن يدينون لها بالولاء، وقد عملت معهم لسنوات (أو عقود في بعض الأحيان)، لذا يمكنها الثقة بشكلٍ مطلق في انضباطهم وحفاظهم على السرية.
أما الجميع، من وزراء الحكومة إلى موظفي الحزب، فتُبقيهم على مسافةٍ أبعد. ويحصل المرء معها على القبول والثقة حين يُحقق النجاح. لكن من يتعثر أو يتورط في المشكلات فإما أن يجد نفسه أمام فهمٍ جديد لخياراته المتاحة، أو يبدأ فجأةً في استكشاف الحياة خارج عالم السياسة.
وتدرك ماذا يريد الناخب، ولكنها تحدته مرتين
أما السمة الثالثة لطريقة ميركل فهي قدرتها على قياس مزاج قاعدتها الانتخابية، والاستجابة لها. إذ أبدعت في البداية بما يتناسب مع طموحاتها للقيادة الوطنية حين ألقت خطاباً ليبرالياً متقداً عن الإصلاح الاقتصادي في مؤتمرٍ للحزب عام 2003. وحين تبيّن أنّ خطابها يمثل تغييراً كبيراً في وجهة نظر مندوبي الأحزاب بدرجةٍ قد تُكلّفها منصب المستشارية؛ تراجعت سريعاً.
وقد سبحت ميركل مرتين ضد التيار السياسي. خلال الأزمة المالية عام 2008، حين أظهرت استطلاعات الرأي أنّ الألمان يعارضون بشدة عملية إنقاذ دول الاتحاد الأوروبي الغارقة في الديون. لكن عارضت حزبها والرأي العام بكل حزم حين ضغطت من أجل إرسال حزم الإنقاذ والإصرار على بقاء اليونان في منطقة اليورو. كما صار قرار اللاجئين بدوره مثيراً للجدل، وأدّى إلى صعود اليمين المتشدد عام 2015.
وقد جاهد محللو ميركل من أجل التوفيق بين هذه المفارقات. لكن الأمر بكل بساطة هو أنّ ميركل صاحبة الفكر التجريبي الموزون ليس لديها متسعٌ من الوقت للرؤى حين تكون أمام مشكلةٍ تحتاج إلى حل. وربما تلاعبت ببعض مبادئها من أجل السلطة، لكنها كانت أيضاً على استعداد لدفع الثمن مقابل الدفاع عن أعمق قناعتها.
ولم ينجح الكثير من أقرانها في الفوز بهذا الرصيد من رأس المال السياسي. ويُقِر المعجبون بها بأنّه رغم براعتها في اجتياز أعتى التيارات السياسية، لكنّها لطالما كانت مترددةً في تشكيلها بنفسها.
إرثٌ متأرجح.. أبرز أخطاء ميركل
مع اقتراب الانتخابات الألمانية، ما هو مصير كل هذا الرصيد السياسي؟ وما هو الإرث الذي ستتركه ميركل؟ وهل ستستحق أن تُوصف بأنّها كانت "مستشارةً عظيمة"؟
لا شكّ في أنّ ميركل غيرت وجه سياسات ألمانيا في حقبة ما بعد الحرب الباردة، وجعلت حزبها أكثر ليبرالية، وقادت نهضةً استثنائية في النفوذ الاقتصادي والسياسي لألمانيا داخل أوروبا، وفعلت الكثير من أجل الدفاع عن المشروع السياسي الأوروبي. ومع ذلك فإنّ استحقاقاتها للعظمة غير محسومة، وربما يرجع هذا إلى أنّ العديد من إنجازاتها كان لها دائماً جانبٌ مظلم.
الجائحة وأزمة التكنولوجيا
فقبل جائحة كوفيد-19، شهد عصر ميركل إفاقة الاقتصاد الألماني من سباته الطويل ليصير رابع أكبر اقتصادٍ في العالم، مع ارتفاعٍ كبير في مستويات المعيشة، وانعدام شبه تام للبطالة، وحالات فائض تاريخية في موازنات الحكومة. وكانت سياساتها الاقتصادية ملائمةً للشركات والأعمال بشكلٍ ملحوظ، ولكنها فشلت في الضغط من أجل تحقيق التكيف التكنولوجي اللازم على نحوٍ عاجل في الصناعات الرئيسية، أو تحديث البنية التحتية المادية والرقمية.
وصارت ميركل المرشحة الأولى للقب "مستشارة المناخ"، بفضل دعايتها القوية لسياسات المناخ التقدمية على مستوى العالم. لكن سياساتها المحلية في المناخ غرقت في العديد من التناقضات مع سياساتها المتعلقة بالطاقة: حيث إنّ ابتعادها عن الطاقة النووية عام 2011 تسبب في زيادة اعتماد ألمانيا على الفحم. ورغم إنفاق ثروةٍ طائلة على دعم مصادر الطاقة المتجددة، فقد واجهت البلاد صعوبة في الوفاء بالتزاماتها الدولية المتعلقة بمعدلات انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية.
في أوروبا الكل غاضب منها ولا أحد يستطيع الاستغناء عنها
كما أنّ سجل ميركل في أوروبا أكثر تعقيداً. حيث شعرت دول جنوب أوروبا بالاستياء نتيجة سياسات التقشف المفروضة من برلين خلال أزمة منطقة اليورو، وحمّلوها مسؤولية صعود الشعبوية في أثينا وروما. وعلى النقيض، طالبت بعض دول شمال أوروبا والبلطيق بإخراج اليونان من منطقة اليورو في أعقاب أزمة الديون. كما أغضبت دول شرق أوروبا حين رحبت باللاجئين، لذا رفضوا المشاركة في برنامج إعادة توطين على مستوى الاتحاد الأوروبي. إلى جانب اتهامها من قبل الليبراليين في جميع أنحاء القارة بغض الطرف عن تراجع الديمقراطية في بولندا والحكم الاستبدادي الكامل في المجر.
وقد شعر رؤساء وزراء بريطانيا، من ديفيد كاميرون وحتى بوريس جونسون، بالحيرة نتيجة رفض ميركل المهذب لدفع أي ثمن مقابل منع بريطانيا من الانفصال عن الاتحاد الأوروبي. كذلك أُصيب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالإحباط الشديد حين لم تتأثر بأفكاره "العظيمة" لتحقيق تكاملٍ أوروبيٍ أعمق.
ولكن ميركل نجحت في العديد من المناسبات أن تبني جسور الثقة وتُنهي الانقسامات الأوروبية العميقة بكل صبرٍ وهدوء. إذ قاتلت من أجل الحيلولة دون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بدون صفقة. كما تحركت لدعم صندوق الاتحاد الأوروبي للتعافي من الجائحة في مايو/أيار عام 2020، في خطوةٍ من المرجح أنّها حالت دون تفكك الاتحاد.
وكان قرار ميركل بعدم إغلاق حدود ألمانيا في وجه اللاجئين عام 2015- إذ قالت حينها: "نستطيع أن نفعلها"- تصرف مدفوع بالمشاعر الإنسانية النبيلة. علاوةً على أنّه كان التصرف الوحيد المسؤول في ذلك الوقت، لأنّه خفّف ضغطاً كبيراً عن الجيران الأوروبيين الأصغر ودول البلقان.
ومع ذلك فإنّ التكاليف الداخلية والخارجية كانت كبيرة. إذ عانت المدن والولايات الألمانية طيلة شهور من أجل التكيف مع تدفق اللاجئين، وشعر المواطنون وكأنّ الحكومة تطلب منهم تحمل مسؤولية أكبر من اللازم بمساعدة الوافدين الجدد. كما اعترض جيران ألمانيا على أنّ قرار ميركل خلق حافزاً كبيراً لزيادة الهجرة.
والأسوأ من ذلك كله هو أنّ الأزمة غذّت صعود الحركات الإثنو-قومية بطول أوروبا وعرضها. وفي ألمانيا، حوّلت الأزمة "البديل من أجل ألمانيا" من حزبٍ صغير يُشكّك في الاتحاد الأوروبي إلى قوةٍ يمينية مُتشدّدة صاعدة ومعادية للأجانب، حيث دخل المجلس التشريعي وصار زعيماً للمعارضة في غضون أربع سنوات فقط. وساد التمرد داخل حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، وكانت ميركل أقرب لفقدان وظيفتها من أيّ وقتٍ مضى. إذ أُعيد انتخابها عام 2017 بأسوأ نسبة تصويت لحزبها في حقبة ما بعد الحرب (33% من الأصوات الشعبية)، كما اضطرت للتفاوض على تشكيل حكومة لمدة خمسة أشهر في سابقةٍ هي الأولى من نوعها.
الروس والصينيون خدعوها بعدما كانت تطمع في شراكتهما
وكانت إدارة علاقات ألمانيا المتغيرة مع القوى العظمى تُمثّل التحدّي الأكثر إزعاجاً لميركل على الإطلاق. إذ لم يكُن أمام ألمانيا الكثير من الخيارات الاستراتيجية باعتبارها قوةً أوروبية متوسطة تتشارك نفس القارة مع روسيا وتستورد الطاقة منها، وتعتمد على الصادرات من الصين (أكبر شركاء ألمانيا التجاريين خارج الاتحاد الأوروبي)، كما تعتمد على الولايات المتحدة في مظلتها الدفاعية. وتاريخياً، انعكس ذلك بشدة على الغريزة المتأصلة للموازنة بين الحلفاء والخصوم على حدٍّ سواء، ولم تكُن ميركل استثناءً لهذا التقليد.
وفي الواقع، قبل عقدٍ من الزمان، كانت برلين تنظر إلى موسكو وبكين باعتبارهما شريكين استراتيجيين، فيما كانت تأمل أنّ تصبح صفقةً ثنائية: حيث تساعدهما ألمانيا على إحداث تحوّل في الاقتصاد والأنظمة السياسية على حدٍّ سواء. وأحدث هذا طفرةً في عالم المال والأعمال. إذ كان Ost-Ausschuss، أبرز اتحادات الضغط السياسي للشركات العاملة في روسيا، طرفاً نافذاً في وضع السياسات التجارية. وأراد العديد من الرؤساء التنفيذيين الألمان الانضمام إلى رحلات المستشارة السنوية إلى الصين، لدرجة أنّ الوفد أحياناً كان يحتاج إلى ثلاث طائرات لنقله. وكانت ميركل تحرص في الوقت ذاته على لقاء المعارضين الصينيين والروس داخل السفارة الألمانية، كما استقبلت الدالاي لاما في برلين عام 2007. ومع ذلك، فإنّ روسيا المُعدّلة والصين الصاعدة تلعبان بأسلوبٍ هجومي يجعلهما من المنافسين الاستراتيجيين للغرب بعيداً عن "دولهم المجاورة" وداخل الشرق الأوسط وإفريقيا، وداخل أوروبا أيضاً- بما في ذلك الحدود المادية والرقمية لألمانيا.
وقد أدانت ميركل الكرملين بشدة لمحاولة اغتيال نافالني، وجلبته إلى برلين لتلقي العلاج. كما دعمت عقوبات الاتحاد الأوروبي الجديدة ضد مسؤولين روس بارزين رداً على ذلك. لكنها رفضت مع ذلك إخراج أكبر أسلحتها وتعليق مشروع خط أنابيب شركة Gazprom "السيل الشمالي 2″، والذي يفترض بها أنّ يجلب الغاز الطبيعي الروسي إلى ألمانيا بعيداً عن طرق النقل الأوكرانية والبولندية- وذلك رغم الضغوط الهائلة من إدارتي ترامب وبايدن.
وعلى نحوٍ مماثل نجد أنّ الاستبداد الصيني الوحشي في عهد شي جينبينغ، واضطهاد الإيغور والنشطاء، والحملة من أجل الهيمنة الإقليمية، والقمع في هونغ كونغ، والتهديدات تجاه تايوان، ودبلوماسية المواجهة مع أوروبا قد تسببت جميعها في زيادة حدة المواقف تجاه الصين داخل برلين. ونظراً لمخاوف الأمن السيبراني مثلاً، نجد أنّ حكومة ألمانيا تُخطّط لفرض قيود جديدة على مزودي خدمات الاتصالات لمنع شركة Huawei الصينية فعلياً من المشاركة في بناء شبكات الجيل الخامس بالبلاد. ومع ذلك، حين تولت ألمانيا رئاسة الاتحاد الأوروبي في النصف الثاني من عام 2020، مرّرت ميركل اتفاق استثمار بين الصين والاتحاد الأوروبي رغم تردد المخاوف على جانبي الأطلسي.
ترامب صدمها والضعف العسكري الألماني منعها من الرد على بوتين
ولكن ميركل لم يُؤلمها شيء بقدر اضطرارها للتعامل مع الولايات المتحدة العدائية في عهد دونالد ترامب. إذ كانت تحلم بالسفر إلى أمريكا حين كانت شابةً صغيرة في ألمانيا الشرقية. وفي عام 1993، قضت أربعة أسابيع في جولة حول كاليفورنيا مع الرجل الذي سيصير زوجها الثاني. وحين صارت المستشارة الألمانية، صارت من أنصار العلاقات بين جانبي الأطلسي، لدرجة أنّها دافعت عن حرب جورج بوش الابن في العراق. وبدا لها أن أوباما لن يصنع الفارق في البداية، لكنّها تقربت منه لاحقاً، لدرجة أنّ أوباما هو من أقنعها بالترشح لولايةٍ رابعة نتيجة الخطر الذي يُمثّله ترامب على أوروبا. وقد تبين لاحقاً أنّ ترامب يحمل في صدره عداءً لا يخمد للاتحاد الأوروبي وألمانيا والمستشارة.
وفي مايو/أيار عام 2017، بعد ظهور ترامب الأول في قمة مجموعة السبع، قالت ميركل لجمهور حملتها الانتخابية: "لقد انتهى عصر الاعتماد الكامل على الآخرين، إلى حدٍّ ما".
وقد رحبت ميركل بانتخاب بايدن بكل حرارة وارتياح. كما أنّ وزيرة دفاعها أنغريت كرامب كارينباور، التي تشاركها وجهات نظرها حول أهمية التحالف مع الولايات المتحدة، تواصل الضغط عليها من أجل زياد الإنفاق العسكري وجعل الجيش الألماني أكثر هجومية. وصحيحٌ أنّ القدرات الأمنية الألمانية تعاني من قصورٍ شديد منذ فترةٍ طويلة. وقد أدى ضعف الجيش الألماني إلى جعل ميركل تتردد في التصدي لموسكو وبكين، كما قوّض أمن أوروبا وحلف الناتو على حد سواء.
في أيامها الأخيرة، لماذا تحذر ميركل من فترة صعبة؟
يبدو أنّ المشهد الجيوسياسي المظلم وخطر اليمين المتطرف قد أثارا شيئاً في نفس ميركل، حسبما تقول الكاتبة كونستانز ستيلزنمولر.
فوفقاً لخبر مجلة Der Spiegel الألمانية، فقد تحدثت ميركل إلى المجموعة البرلمانية في حزبها عام 2018 عن الحروب الدينية الدامية التي أعقبت الإصلاح.
وقالت ميركل إنّ عقود السلام الستة الأخيرة خدعت الأوروبيين ومنحتهم شعوراً زائفاً بالأمان، مما جعلهم غير مستعدين لما سيحدث لاحقاً: مسترجعة حرب الثلاثين عاماً (1618-1648) التي راح ضحيتها نحو ثلث سكان بعض الأراضي الألمانية. وللتأكيد على رسالتها، أضافت: "لقد مر 70 عاماً أيضاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية".
ومع بداية الجائحة، كانت ميركل من أوائل الزعماء الذين أدركوا أنّ الفيروس قد يتحوّل إلى نسخةٍ معاصرة من كوارث الأمراض. وفي 18 مارس/آذار عام 2020، قالت المستشارة في خطابٍ أمام الأمة المذهولة: "هذا أمرٌ خطير. ويجب أن نتعامل معه بجديةٍ أيضاً. إنّه أكبر تحدٍّ من نوعه منذ إعادة توحيد ألمانيا- أو منذ الحرب العالمية الثانية-، وهو يتطلّب تضامننا المشترك بشدة". وفي البداية، بدا الأمر وكأنّ بلادها استجابت لها في الربيع والصيف، حيث تحرّك المشرعون بسرعةٍ وحسم وانسجام. وبينما تفشّى الفيروس واستشرى في أماكن أخرى، ظلّت أعداد الحالات منخفضةً في ألمانيا لتبدأ البلاد في إعادة فتح أبوابها. وجرى الاحتفاء بألمانيا- وميركل- باعتبارهما نموذجاً مشرقاً للقيادة.
ولكن يبدو الآن أنّ ميركل العالمة، ومديرة الأزمات، ووسيطة التسويات تُواجه أكبر فشلٍ لها على المستوى الداخلي. إذ تجاهل الجميع التحذيرات من موجةٍ ثانية، مما أسفر عن ارتفاعٍ مروع في أعداد الحالات خلال الشتاء، حيث وصلت أعداد الوفيات محلياً إلى 70 ألف حالة حتى مارس/آذار عام 2021.
وهناك العديد من الأسباب وراء هذه الفوضى. ومنها أنّ وضع السياسات الصحية هو مسؤولية الولايات الألمانية. وبموجب النظام البرلماني، لا يُمكن للمستشارة الاعتراض على السياسات التي هي من صلاحيات الولايات، وليس بوسعها سوى محاولة إقناعهم.
بينما تُشير استطلاعات الرأي إلى أنّ الحكومة الألمانية المقبلة سيقودها على الأرجح مستشارٌ محافظ.
وفي الوقت ذاته تبدو ميركل محبطةً ومستنزفة بشكلٍ متزايد، كما تآكل صبرها اللامتناهي، ونفدت طاقتها التفاوضية الأسطورية. وربما ستقدر ألمانيا يوماً ما حقيقة أنّ ميركل كانت تفتقر بشكلٍ فريد من نوعه إلى العيوب الشخصية لأسلافها الثلاثة: أديناور وبراندت وكول، الذين تركوا جميعاً المنصب في الظل ورغماً عنهم. ونزاهتها وتفانيها في العمل هي أمورٌ لا خلاف عليها- كما ستكون أول رئيسةٍ حكومة ألمانية تترك السلطة بمحض إرادتها.