تتزايد التحذيرات الأمريكية في الآونة الأخيرة من هيمنةٍ الصين على اقتصاد الطاقة النظيفة في العالم، وقد دفع ذلك الإدارة الأمريكية الجديدة إلى الدفع من أجل خطوات حثيثة، وإن كانت متأخرة عن خطوات منافستها حتى الآن، لبناء السبيل إلى هيمنة أمريكية على هذا القطاع، والاستفادة مما يتيحه من فرص في الداخل والخارج.
ثورة الطاقة النظيفة تزيد المنافسة بين أمريكا والصين
يقول تقرير لموقع Politico الأمريكي، إنه بناء على ذلك تخطط إدارة بايدن والنواب الديمقراطيون في الكونغرس لضخ حصصٍ أكبر من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين في قطاع بطاريات الليثيوم، أو بطاريات تخزين الطاقة النظيفة، ويشمل ذلك الاستثمار في الأبحاث، وتقديم الدعم لمشروعات الشركات الناشئة المحفوفة بالمخاطر، وتطوير الحوافز الضريبية وبرامج المنح ليس فقط لاستجلاب قطاع إنتاج البطاريات، وإنما لتحفيز عملية نقل سلسلة التوريد بأكملها إلى الولايات المتحدة.
وهذه المحاولة في سبيل استعادة سريعة لزمام المبادرة، بعد أن خسرت الولايات المتحدة بدرجة كبيرة معركةَ إنتاج الطاقة الشمسية في عام 2010، عندما ضخَّت الصين وقتها مليارات الدولارات في هيكل إنتاج ألواح الطاقة الشمسية الخاص بها.
تحاول الولايات المتحدة الآن اللحاقَ بمنافسها الاقتصادي الأبرز في سباق تصنيع البطاريات، التي يُتوقع لها دور كبير في موجة الصعود القادمة للسيارات الكهربائية، وتكفل الاستعانة بها الاعتماد على الطاقة الشمسية وطاقة الرياح بدرجة أوثق، ويزيد على ذلك السعي إلى تحقيق الأفضلية في سباق الهيمنة، لاسيما عند الالتفات إلى ما فرضه الشرق الأوسط من سيطرة على أسواق النفط منذ عدة عقود.
وتحظى المساعي الديمقراطية الناشئة بدعم أطراف عدة: منهم التقدميون المعنيون بقضية التغير المناخي في العموم، والنقابات التي ترى في دعم بايدن لهذا القطاع الجديد وفاءً لوعوده بخلق مزيد من الوظائف، إلى جانب المعتدلين من مختلف الاتجاهات السياسية الذين يرون في العودة إلى الصناعات التي تستعين بالعمال من ذوي الياقات الزرقاء وسيلةً لمساعدة ناخبيهم الذين ما انفكوا يفقدون وظائفهم في قطاع الوقود الأحفوري.
مع ذلك، يقول السيناتور الديمقراطي جو مانشين: "الولايات المتحدة لا تنتج أياً من المعادن الأرضية النادرة، أو كميات قليلة جداً جداً جداً من أي من المعادن الأرضية النادرة التي تتطلبها صناعة البطاريات". مضيفاً: "نحن نعتمد على مصادر من أنحاء أخرى في العالم، والواقع المحض أن الناس يُستعبدون في أجزاء من العالم للحصول على الموارد التي يبدو أننا نريد أن نظل حيالها في موقف البعيد عن الأنظار، والبعيد عن الأذهان، ونكتفي بالقول: (حسناً، لدينا سيارة كهربائية)".
الاستثمار الصيني الضخم في الطاقة النظيفة
يعرف جو بايدن جيداً التاريخ المضطرب لجهود الإدارة الديمقراطية الأخيرة، التي كان جزءاً منها، للاعتماد على الاستثمار في تكنولوجيا الطاقة النظيفة (التكنولوجيا الخضراء) لتحفيز الاقتصاد. فعلى الرغم من سلسلة المحفِّزات التي ضختها الإدارة الأمريكية في هذا القطاع كجزءٍ من حزمة التحفيز المالي في عام 2009، فإن سلسلة صناعة وتوريد ألواح الطاقة الشمسية انتقلت إلى الصين بدرجة كبيرة بعد أن استثمرت الأخيرة بكثافة في هذه الصناعة.
بحلول العام الماضي، أصبحت أكبر ثلاث شركات لتصنيع ألواح الطاقة الشمسية في العالم شركات صينية. ومن ثم، يعتزم بايدن وفريقه عدم السماح بحدوث الأمر ذاته مرة أخرى مع البطاريات، لاسيما مع انطلاق سباقها العالمي بوصفها التقنية التالية في سباق التصنيع الخاص بالطاقة النظيفة.
وفي تصريحات أدلى بها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في 19 أبريل/نيسان، سلَّط الضوء على جانب آخر من التنافس بخصوص موضوع الطاقة النظيفة، قائلاً: "إذا لم تلحق الولايات المتحدة بالركب فستفوت أمريكا فرصةَ تشكيل مستقبل المناخ في العالم بطريقة تعكس مصالحها وقيمها، كما أنها ستفقد عدداً لا يحصى من الوظائف التي كان في المتناول توفيرها للشعب الأمريكي".
إلى جانب ذلك، فإن الأفضلية الكبيرة التي حققتها الصين بالفعل في هذا القطاع جعلت كثيراً من خبراء الطاقة الأمريكيين قلقين من أن تصبح الولايات المتحدة في وضع مضطرةً فيه إلى الانخراط في تشابكات جديدة لصراع السياسات الخارجية القائمة على مورد الطاقة النظيفة، كما حدث مع منطقة الشرق الأوسط التي اضطرت للانخراط في تعقيداتها بفعل هيمنة المنطقة على سوق النفط العالمي.
وللتدليل على ذلك، يسترجع إرنست مونيز، الذي شغل منصب وزير الطاقة في عهد أوباما، ما حدث "في عامي 1973 و1979، عندما قُطعت إمدادات النفط عمداً عن الولايات المتحدة رداً على مواقفها في المنحازة لإسرائيل، وكان رد الفعل الأبرز وقتها هو العمل على تنويع الإمدادات"، ومن ثم، يقول مونيز إنه يجب تطبيق فكرة تنويع الموارد نفسها على تجارة البطاريات ومكوناتها بين الولايات المتحدة والصين.
أمريكا لا تزال متخلفة عن الركب في قطاع بطاريات الطاقة النظيفة
مع ذلك، فإنه لا يوجد في الولايات المتحدة سوى ثلاثة مصانع رئيسية للبطاريات تعمل اليوم، منها "مصنع جيجا" الشهير لشركة تسلا في ولاية نيفادا الأمريكية.
هذا العدد الزهيد بالفعل من المصانع سيرتفع إلى 10 مصانع فقط بحلول عام 2030 إذا استمرت المعدلات الحالية على وتيرتها، وفقاً لشركة Benchmark Mineral Intelligence. وتشمل الزيادة المتوقعة مصنع SK Innovation factory المخطط إنشاؤه في مدينة كوميرك بولاية جورجيا، والذي كان معرضاً لخطر التخلي عنه بسبب نزاع تجاري دولي، حتى وُقِّعت بشأنه تسوية بقيمة 1.8 مليار دولار هذا الشهر لتتيح مواصلة العمل فيه.
في المقابل، وبحلول ذلك الوقت، ستكون الصين أنشأت 140 مصنعاً، وأوروبا 17 مصنعاً، حسب توقعات شركة Benchmark. وفي غضون ذلك، سيكون الطلب في الولايات المتحدة على البطاريات، سواء من شركات صناعة السيارات أو شبكات الطاقة، قد بلغ أرقاماً فلكية.
لذلك، يقول سيمون موريس، العضو المنتدب في شركة Benchmark: "في الفترة بين الآن وعام 2030، تحتاج الولايات المتحدة إلى بناء 20 مصنعاً إضافياً لتصنيع البطاريات، وربما 10 إذا كانت من المصانع الأضخم"، وذلك لتلبية الطلب الوارد عليها من قطاع إنتاج السيارات. و"هذا يعني أنك بحاجة إلى إنشائها بحلول عام 2027، ما يعني أنه يتعين عليك بدء العمل عليها في عام 2023".
وإذا لم تُبنَ هذه المصانع بالسرعة الكافية فسيتعيّن على صانعي السيارات تأخير النماذج الجديدة لصناعة السيارات، ما يحدُّ من أهداف بايدن الطموحة المتعلقة بالمناخ والمركبات الكهربائية. وإلا فقد تلجأ هذه المصانع للبحث عن بطارياتها في الخارج، ما يعني في الغالب الموردين الصينيين، بحسب ما قاله العضو المنتدب في Benchmark.
أمريكا تسعى لاستقطاب صناعات الليثيوم والكوبالت
ولخدمة مصانع البطاريات الجديدة، يقول المشرّعون وأقطاب الصناعة إنهم يأملون في استقطاب صناعات التعدين ومعالجة المعادن المهمة -مثل الليثيوم والكوبالت وما تسمى بالمعادن الأرضية النادرة- إلى الولايات المتحدة، لكن هذه العمليات تأتي مع مخاطر تلوث كبيرة خاصة بها.
إذ يمكن أن تتسبب المناجم المهجورة في تسريب مواد كيميائية إلى مصادر المياه المحلية لعدة قرون، خاصة بعد مرور فترة طويلة من اختفاء الشركات التي كانت تدير المناجم وإفلاسها، وتباطؤ التعدين في الولايات المتحدة على إثر المخاوف البيئية. ومع ذلك، تدور نقاشات حالية بين شركات التعدين والنقابات تُجمع على أن ذلك الوضع يجب أن يتغيّر.
يقول ريتش نولان، الرئيس التنفيذي لـ"الرابطة الوطنية للتعدين"، وهي غرفة تجارية تمثل شركات التعدين الأمريكية: "علينا أن ننتبه لحقيقة أن هذا الاتجاه للاعتماد على الطاقة الكهربائية مبني على التعدين. ومن ثم يجب ألا ندع الصينيين يتفوقون على الولايات المتحدة في هذا السباق. ويجب العمل على إعادة ضخ الدعم في هذه الفرص، واستقطاب مركز الصناعة ليصبح في الولايات المتحدة".
على هذا المنوال، شرع نواب ديمقراطيون من ولايات الفحم التقليدية، مثل السيناتور جو مانشين والسيناتور جون هيكنلوبر، في العمل على صياغة تشريعات لتعزيز صناعة التعدين وتكرير المعادن، على أمل الحصول على بعض المواد من منتجات نفايات الفحم والمناجم القديمة.
كما دعم نواب جمهوريون في السابق بعض الأفكار التي طرحها الديمقراطيون وتقدموا بمشروع قانون معني بدعم "التقنيات المتقدمة لمعالجة نفايات الفحم بغرض استخراج العناصر الأرضية النادرة" لاستخراج المعادن الأرضية النادرة من نفايات الفحم.
لكن حتى الآن، عارض الجمهوريون بشدة معظم المبادرات الديمقراطية التي تتضمن التحول عن الوقود الأحفوري، وعلى ما يبدو فإن دعمهم لحزمة ديمقراطية واسعة النطاق لدعم صناعات الطاقة النظيفة يظل أمراً غير مرجح.
حوافز أمريكية من أجل المنافسة مع الصين
من جهة أخرى، تشمل أفكار الدعم الحالية تقديم إعفاءات ضريبية أو برامج منح حكومية للمناجم الجديدة ومرافق المعالجة والتكرير. وقال السيناتور مانشين: "يجب أن تستثمر الولايات المتحدة في استخراج ومعالجة المعادن النادرة واستصلاح مواقع المناجم المهجورة، وهي كلها مشروعات تفتح السبل أمام توظيف مهارات عمال المناجم الأمريكيين".
لا يزال مشروع اللجنة المالية في مراحله الأولى، لكن السيناتور رون وايدن قال إنه يشمل أيضاً حوافز لدعم التصنيع المحلي لأشباه الموصلات ومكوّنات الخلايا الشمسية، وهما مجالات آخران يخشى فيهما المشرعون الأمريكيون الهيمنةَ الصينية.
كما خصَّصت لجنة شؤون الطاقة والتجارة في مجلس النواب 12.5 مليار دولار لدعم صناعة البطاريات المحلية كجزء من قانون LIFT America Act. لرفع مستوى البنية التحتية في الولايات المتحدة.
ومع ذلك، يشير مصنّعو البطاريات إلى أن الولايات المتحدة إذا كانت تستهدف بناء صناعة البطاريات المحلية لتكون قادرة بالفعل على مواجهة المنافسة الشديدة من الصين، فإنها يتعين عليها تجديد الحوافز حتى تصبح سلسلة التوريد المحلية مكتفية ذاتياً، ودعم صناعة البطاريات على النحو الذي تُدعم به الصناعات الأمريكية الكبرى الأخرى.