قرار رئيس المجلس الرئاسي في ليبيا محمد المنفي حظر سفر العسكريين أو الحديث لوسائل الإعلام دون إذن منه يمثل خطوة أخرى هامة على طريق المسار السياسي، فهل يلتزم الضباط وعلى رأسهم خليفة حفتر؟
قرار المنفي الذي أصدره قبل أكثر من أسبوع، لكن تم إعلانه أمس الاثنين 19 أبريل/نيسان، يأتي انطلاقاً من كونه يتولى أيضاً منصب القائد الأعلى للجيش الليبي، ونصت الوثيقة الرسمية الصادرة عن المجلس الرئاسي بتاريخ 8 أبريل/نيسان الجاري، على حظر سفر العسكريين الذين يتولون مناصب قيادية في الجيش خارج البلاد دون الحصول على إذن مسبق من المنفي شخصياً.
والقصة هنا تتعلق بالخطوات الضخمة التي قطعها مشوار الصراع الليبي الممتد منذ الثورة التي أطاحت بنظام معمر القذافي وانقسام البلاد بين سلطتين خلال السنوات الثلاث الأخيرة، الأولى حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً، والثانية في الشرق بقيادة الجنرال خليفة حفتر الذي أطلق على نفسه قائد الجيش الوطني، وصولاً إلى وقف إطلاق النار بين الشرق والغرب في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، ومن ثم انطلاق جلسات ملتقى الحوار الليبي برعاية الأمم المتحدة.
وأدت تلك العملية السياسية إلى تشكيل حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة والمجلس الرئاسي برئاسة محمد المنفي، ومن ثم تسلمت السلطة الجديدة مهامها وبدأت المهمة الأصعب وهي توحيد المؤسسات المنقسمة بين الشرق والغرب، وبالفعل تسلمت حكومة الدبيبة مهام حكومة الوفاق الوطني في الغرب والحكومة الموازية في الشرق، وبدأت الأمور تسير في الاتجاه الصحيح رغم العقبات والتحديات.
ماذا قرر القائد الأعلى للجيش الليبي؟
وبحسب أغلب المراقبين يمثل توحيد الجيش الليبي في الشرق والغرب تحت قيادة واحدة العقبة الأكبر أمام السلطة الجديدة، في هذا السياق يعتبر القرار الذي اتخذه المنفي، بصفته القائد الأعلى للجيش الليبي، خطوة هامة على طريق استعادة وحدة البلاد شرقاً وغرباً وضبط الجانب العسكري والسلاح الذي يمثل تهديداً ليس فقط للمسار السياسي ولكن لحياة وممتلكات المواطنين وشعورهم بالأمان.
ومن هذا المنطلق، نص قرار المنفي على أنه "يحظر اعتباراً من تاريخ هذا القرار على كافة الضباط شاغلي المناصب القيادية بالجيش، السفر إلى الخارج إلا بعد الحصول على إذن مسبق من القائد الأعلى (محمد المنفي) مهما كانت دواعي السفر"، مضيفاً: "وبالنسبة لمن عداهم من العسكريين، تكون الموافقة من إدارة الاستخبارات العسكرية وفقاً للإجراءات المعمول بها".
كما منع المنفي "كافة العسكريين مهما كانت رتبهم ومناصبهم وطبيعة أعمالهم" من الظهور في وسائل الإعلام المرئي والمسموع والإدلاء بالتصريحات، وفق القرار.
وفسّرت الوثيقة التي حملت تلك القرارات وأصدرها المجلس الرئاسي بأنها رد على "قيام بعض الضباط بعقد لقاءات بالداخل والخارج والظهور أمام وسائل الإعلام المرئي والمسموع، والإدلاء بتصريحات ذات طابع سياسي"، ما اعتبرها المنفي خروجاً عن المهام الرئيسية للجيش"، معتبراً هذه الأفعال "من الأعمال المحظورة على العسكريين ويعاقب عليها قانوناً وفقاً لقانون العقوبات العسكرية وقانون الخدمة بالجيش"، بحسب تقرير لوكالة الأناضول التركية.
كما أصدر المنفي أوامره للجميع بالالتزام بما ورد في قراره، مطالباً "إدارة الاستخبارات العسكرية وإدارة الشرطة والسجون العسكرية بمتابعة تنفيذه بكل دقة وإبلاغ المدعي العام العسكري عن أي مخالفة لما ورد به لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة".
الاجتماع الأول للمنفي وتدريبات حفتر
انتخاب السلطة الجديدة في ليبيا برعاية الأمم المتحدة كان قد تم يوم 5 فبراير/شباط الماضي من خلال ملتقى الحوار السياسي، وتسلمت السلطة التنفيذية الموحدة برئاسة الدبيبة كرئيس للوزراء والمجلس الرئاسي برئاسة المنفي مهامها يوم 16 مارس/آذار الماضي، بعد أن نالت حكومة الدبيبة ثقة مجلس النواب، ورغم التحديات المتعددة أمام السلطة الجديدة، يظل توحيد المؤسسة العسكرية التحدي الأبرز الذي بدونه سيكون عقد الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقررة في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل مهمة عسيرة على أقل تقدير.
وبرزت هذه المعضلة بشكل خاص يوم 29 مارس/آذار الماضي بالتحديد، والسبب هو ما شهده ذلك اليوم من حدثين متوازيين ومتناقضين تماماً في آن معاً. الحدث الأول هو عقد محمد المنفي رئيس المجلس الرئاسي اجتماعه الأول بصفته قائداً أعلى للجيش الليبي ونشر مكتبه بياناً مقتضباً قال إن "الاجتماع حضره الفريق أول ركن محمد علي الحداد (رئيس أركان الجيش الليبي)، وعدد من أعضاء الكادر الإداري والقانوني والمالي بمكتب القائد الأعلى.
أما الحدث الثاني فقد جرى في الشرق وكان عبارة عن اختتام "تدريبات عسكرية مكثفة بحضور المشير خليفة حفتر القائد العام للجيش الليبي"، تحدث خلاله حفتر عن ضرورة "رفع الكفاءة القتالية" لقواته، وتلا ذلك إصدار أحمد المسماري المتحدث باسم حفتر بياناً قال فيه إن "رؤساء أركان القوات المسلحة، وبعض رؤساء الهيئات ومديري الإدارات بالقيادة العامة، وعدد من ضباط وآمري الوحدات المستقلة".
ويعكس التناقض الواضح بين الحدثين ما يمكن وصفه بمعركة تكسير عظام قائمة بالفعل بين السلطة الجديدة في ليبيا من جهة وبين خليفة حفتر المتمركز في الشرق وسط قواته المدعومة من ميليشيات فاغنر الروسية وغيرها من الميليشيات من جهة أخرى.
ويكرر حفتر أنه يريد إخراج الميليشيات والمرتزقة من ليبيا، دون أي إشارة بالطبع إلى الميليشيات والمرتزقة الذين يقاتلون إلى جواره منذ هجومه الفاشل على طرابلس ومنهم مرتزقة "فاغنر" الروس الذين لا يبدو أنهم يستعدون للخروج من البلاد، فقد نشرت شبكة CNN الأمريكية تقريراً يظهر المرتزقة الروس وهم يحفرون خندقاً ويقيمون تحصينات لتأمين مواقعهم في سرت والجفرة، في إشارة واضحة إلى أنهم ينوون البقاء في البلاد.
العقبة الأخطر للمسار السياسي في ليبيا
وفي هذا السياق يرى أغلب المراقبين أن التحدي الأكبر أمام انتقال ليبيا نحو مرحلة استقرار مستدامة يظل انقسام المؤسسة العسكرية، والسبب الرئيسي هو أن خليفة حفتر يرفض أن يكون القائد العام للجيش تحت سلطة الحكومة المدنية وهي الذريعة نفسها التي بنى عليها انشقاقه وانقلابه على حكومة الوفاق واتفاق الصخيرات.
وحتى يتم التوافق في مرحلة المسار السياسي الحالي تم الاتفاق على أن يحتفظ الدبيبة بمنصب وزير الدفاع في حكومة الوحدة الحالية كخطوة لتفادي الصدام في هذه المرحلة، بحسب مراقبين، ومن ثم يمثل توحيد الجيش إحدى المهمات الرئيسية للمجلس الرئاسي الجديد باعتباره القائد الأعلى للجيش.
ونظراً لحساسية هذا الملف، اجتمع الدبيبة، في مدينة سرت (وسط)، بأعضاء لجنة "5+5" العسكرية المشتركة (5 ضباط من الجيش الحكومي+ 5 قيادات من ميليشيات حفتر)، في نفس اليوم الذي أدى فيه اليمين، حيث بحث الاجتماع دعم "اللجنة بكل ما يلزم لدعم مسار توحيد الجيش الليبي".
وعبر مرآة تلك التطورات مجتمعة يمكن قراءة ما بين سطور قرار المنفي بحظر سفر العسكريين أو ظهورهم إعلاميا دون إذن منه، وهي القرارات التي صدرت يوم الاثنين 8 أبريل/ نيسان، أي بعد نحو أسبوع من الاجتماع الأول الذي عقده المنفي بصفته قائداً أعلى للجيش الليبي وشهد تلك التدريبات العسكرية التي أعلن عنها حفتر في الشرق في نفس اليوم، وهو ما يشير بوضوح إلى أن حفتر لا ينوي الاستسلام بسهولة لحقيقة أنه لم يعد له دور في حاضر ليبيا ومستقبلها، شأنه شأن باقي قيادات مرحلة الصراع الدامية.
وفي ظل تمتع السلطة الجديدة (المنفي والدبيبة) بالدعم الدولي والإقليمي أيضاً، خصوصاً من جانب مصر وتركيا وهو ما تعكسه زيارات الرجلين للقاهرة وأنقرة، تبدو فرصة تلك السلطة للنجاح في مهمتها الصعبة مواتية بدرجة أكبر مما توفر لحكومة الوفاق الوطني، بحسب مراقبين.
كما يضعف من موقف حفتر التخلي الظاهر لبعض داعميه الإقليميين والدوليين عنه، خصوصاً مصر وفرنسا، وإن ظل موقف الإمارات منه "مبهماً"، إضافة إلى الموقف الروسي المتمثل في وجود مرتزقة فاغنر، لكن ذلك لا يعني أن الرجل الذي أعلن نفسه قبل عام حاكماً عسكرياً عاماً على ليبيا سوف يسلم للواقع الجديد بسهولة، وهو ما عكسه توقيت تلك التدريبات العسكرية التي حضر يومها الأخير تزامناً مع لقاء المنفي بقيادات الجيش في طرابلس.
الخلاصة هنا هي أن القرارات التي أعلنها المنفي بمنع العسكريين من السفر أو الظهور إعلامياً والإدلاء بتصريحات ذات طابع سياسي تمثل جولة هامة في حرب تكسير العظام الدائرة حالياً بين السلطة الجديدة من جهة وحفتر من جهة أخرى، والسؤال الذي تحمل إجابته الفترة المقبلة هو: لمن ستكون الغلبة هذه المرة؟