"حرب نووية مدمرة بسبب انتحال قراصنة إلكترونيين لشخصية زعيم دولة كبرى"، ليس هذا فكرة فيلم خيال علمي جامح، بل احتمال قائم في ظل صعوبة الاتصالات بين الدول النووية أو إمكانية اختراقها.
فقبل 59 عاماً كانت مشكلة الاتصالات أحد الأسباب التي جعلت العالم على شفا حرب نووية مدمرة، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
إذ يصادف العام المقبل الذكرى الستين لأزمة الصواريخ الكوبية، حين ساهم فشل قادة الولايات المتحدة والسوفيت في التواصل شخصياً، في تفسيرات خاطئة وسوء تقدير ما دفع القوى العظمى إلى شفا حرب نووية.
واستغرق الأمر ما يصل إلى نصف يوم حتى تنتقل الرسائل بين السفارات المعنية في العواصم التي لم تكن تثق في بعضها البعض كثيراً. وفاقم التأخير من انعدام الثقة، وأصبح العالم على بُعد شعرة من تبادل نووي مدمر. لكن الجانب المشرق من الأزمة هو استيعاب القوى العظمى، وكذلك بقية العالم، للحاجة إلى اتصالات سريعة وموثوقة على مستوى القيادة.
ليس جميع الدول النووية لديها اتصالات ساخنة لمنع الحرب
وعلى الرغم من وجود ما يقرب من 12 خطاً ساخناً الآن، لا ترتبط جميع الدول التي تمتلك أسلحة نووية بهذه الخطوط على مستوى رؤساء الدول، وحتى في بعض الحالات، لا توجد خطوط على أي مستوى.
وما يثير الدهشة أنه في عصر لا يمكن فيه احتواء أي أزمة نووية أو صراع على وجه اليقين بين دولتين، لا توجد حالياً خطوط اتصال متعددة الأطراف يمكن الوثوق بها.
ففي النهاية، تكمن المشكلة في الثقة: سواء الثقة في هوية المحاور، أو في النظام نفسه، بما في ذلك متانته في ظل أقسى الظروف، وكذلك الثقة في الرسائل التي يحملها.
آسيا النووية نموذجاً
وفي جنوبي آسيا، حيث لا تزال التوترات شديدة بين الهند وباكستان والصين بشأن النزاعات الحدودية، لا توجد خطوط ساخنة بين رؤساء أي من هذه الدول الثلاث، ولا توجد سوى خطوط ثنائية محدودة على مستويات أخرى من المسؤولين رفيعي المستوى بين الهند وباكستان، ومؤخراً بين الهند والصين. ومن غير الواضح ما إذا كانت الروابط الثنائية العسكرية والسياسية في هذا المجال موثوقة أو حتى تُستخدَم باستمرار في الأزمات الحقيقية.
ويُنظَر إلى الخط الساخن الهندي-الباكستاني، الذي تديره القوات المسلحة وأُنشِئ بعد حرب عام 1971، منذ عقود على أنه "صاخب وغير موثوق به مع حدوث أعطال متكررة"، وبالتالي لم يلبّ دائماً التوقعات منه.
وفي فبراير/شباط 2021، أعيد إلى الحياة بعد عدة سنوات لمناقشة وقف إطلاق النار الحالي بين البلدين والموافقة عليه. وتكمن مشكلة هذا الخط الساخن في أنه على الرغم من تصميمه للمساعدة في تخفيف حدة التوترات المتعلقة بخط السيطرة، فإنَّ القضايا العالقة بين الهند وباكستان أكثر جوهرية.
وكثير من الخبراء يطلقون على أي مواجهة نووية بين الهند وباكستان وصف "حرب نووية إقليمية محدودة"، لكن هذا التوصيف ليس دقيقاً، فأي حرب نووي بين البلدين – إن حدثت – ستكون كارثة عالمية بكل المقاييس، قد تُخلِّف ضحايا في مختلف أرجاء العالم، حسبما ورد في تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية.
يظل هناك احتمال أن ينتحل شخص صفة رئيس دولة نووية
وفيما يتعلق الأمر بالهند والصين، لا يوجد خط ساخن على مستوى القيادة بين الجارتين النوويتين، بالرغم من أنَّ ناريندرا مودي والرئيس الصيني شي جين بينغ التقيا شخصياً 18 مرة على الأقل، منذ وصول مودي لرئاسة وزراء الهند في عام 2014 وبداية الأزمة في الصيف الماضي.
وفي حين أنَّ مثل هذه المستويات من الانخراط الشخصي نادرة جداً، إلا أنَّ التهديدات التي تُشكِّلها عمليات القرصنة المعقدة أو الانتحال أو حتى محاكاة الصوت البسيطة يمكن أن تخدع حتى القادة الذين لديهم مستوى عالٍ من الألفة مع بعضهم البعض.
فقد تمكن العديد من مضيفي البرامج الإذاعية من التحدث إلى رؤساء دول مختلفين بينما كانوا يتظاهرون بأنهم شخصيات رفيعة المستوى.
ويوماً عن يوم يمتلئ العالم بالتقنيات الناشئة، مثل التسجيلات الصوتية أو مقاطع الفيديو التي ينتجها الذكاء الاصطناعي والمعروفة باسم deepfakes، التي تزيد من مخاطر سوء التواصل ووقوع أخطاء في التقدير. وحتى في الحالات التي يكون فيها قادة مثل مودي وشي على معرفة شخصية وربما يثقون ببعضهم البعض، فإن التقنيات المتداخلة، التي أصبحت أكثر إقناعاً كل يوم، يمكن أن تلقي بظلال قاتمة من الشك تكفي لفقدان الثقة في الخطوط الساخنة الحالية.
وكما يتضح من جودة الاتصالات المضطربة لأول خط ساخن عسكري بين الهند وباكستان، هناك أيضاً تحديات تقنية للتواصل بأمان عبر مسافات طويلة، لا سيما عندما تتدهور الظروف البيئية بسبب الكوارث الطبيعية أو النزاعات أو في الحالات الأسوأ والأكثر إلحاحاً لوقوع تفجير نووي.
وعلاوة على هذه العيوب المادية، هناك أيضاً العاصفة المستمرة من الإعلانات والوثائق الرسمية والبيانات إلى وسائل الإعلام والتغريدات وغيرها من التعليقات على الشبكات الاجتماعية، التي تُفرِز قدراً كبيراً من المعلومات، سواء كانت صحيحة أو مضللة، والتي يتعين تصفيتها.
ومن هنا، يتضح أنَّ مسارات الاتصالات الحالية ليست مناسبة لبيئة التهديد النووي الحالية، وهناك حاجة صارخة إلى الوضوح في إدارة الأزمة النووية للقرن الحادي والعشرين. وقد يكون إجراء مكالمة عبر تطبيق زووم مناسباً لقادة العالم لتبادل المجاملات أو الإهانات، لكنها ليست مضمونة ولا آمنة بما يكفي للمناقشات الحساسة عندما تكون الدول على شفا حرب نووية. كما لا يمكن الاعتماد عليها في بيئة من الاتصالات المتدهورة، حيث قد تكون الشبكات الخلوية والإنترنت معطلة.
وتعمل التقنيات الناشئة، مثل الضربة العالمية الفورية والاستهداف الدقيق والصواريخ التي تفوق سرعة الصوت، والذكاء الاصطناعي، على تغيير المشهد النووي بسرعة؛ مما يساهم في خلق بيئة يكون فيها الاستخدام المحتمل للأسلحة النووية أكثر غموضاً وأصعب في توقعها.
تجربة روسيا وأمريكا في سوريا قد تكون مفيدة
وفي حين أنَّ بعض الخطوط الساخنة ضعيفة من الناحية الفنية حالياً، فقد كانت مفيدة في مساعدة الاتصالات في البيئات المعقدة والمعادية. فقد أثبتت الخطوط الساخنة بين القوات الأمريكية والروسية في سوريا أنها فعالة للغاية في تفادي التضارب.
لكن تكمن المشكلة في أنه على الرغم من صعوبة إنشاء الخطوط الساخنة وتأمينها، من السهل أيضاً فصلها ونبذها، وهو ما فعلته كوريا الشمالية في الماضي في أوقات الخلافات الدبلوماسية والتوترات المتزايدة.
وبينما تسعى الدول المسلحة نووياً إلى الحد من مخاطر نشوب صراع نووي في عصر جديد من المنافسة متعددة الأقطاب بين القوى العظمى، يجب أن تأتي إعادة النظر في الخطوط الساخنة على رأس جدول أعمالها. ومن نواحٍ عديدة، تعد هذه مهمة سهلة الإنجاز وقد تكون بمثابة حافز تقني لتوسيع الثقة والحوار.
مبادرات لتعزيز الاتصالات بين الدول النووية
في الواقع، تبنت فرنسا، بصفتها الرئيس الجديد لعملية P5 التي تضم الدول الخمس النووية (الصين وفرنسا وروسيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة)، مفهوم "الحد من المخاطر الاستراتيجية"، وستجعل تحسين تقنيات الاتصال أثناء الأزمات، مثل الخطوط الساخنة، أولوية قصوى في المناقشات بين الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قبل مؤتمر استعراض معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية المزمع عقده في أغسطس/آب، وبعده أيضاً.
وفي المقابل، قدَّمت العديد من الأصوات الحكومية وغير الحكومية مقترحات واسعة للدول الحائزة للأسلحة النووية للنظر فيما إذا كانت جادة في تحسين البيئة الأمنية. على سبيل المثال، حددت الدول الـ16 المشاركة في مبادرة ستوكهولم قائمة بـ"نقاط الانطلاق" نحو نزع السلاح النووي، التي تشمل تحسين الخطوط الساخنة. وفي الوقت نفسه، أدرج تحالف آخر من 12 دولة، تُشكِّل معاً مبادرة عدم الانتشار ونزع السلاح، الحاجة إلى خطوط اتصال مُقاوِمة للأزمات في "مناطق الإنزال"، أو مجالات الاتفاق المحتملة، لتقليل المخاطر النووية. بدورها، أشارت The Global Enterprise to Strengthen Non-Proliferation and Disarmament (المؤسسة العالمية لتعزيز عدم الانتشار ونزع السلاح النووي) إلى أنَّ روابط الاتصالات بين الدول الحائزة للأسلحة النووية "ليست عالمية، وتلك الموجودة بالفعل تستدعي المراجعة".
ويبحث معهد الأمن والتكنولوجيا وشبكة القيادة الأوروبية في عملية صنع القرار المتعلقة بالأسلحة النووية في مواجهة التعقيد التكنولوجي. وعلى نحو أدق، أجرى فريق معهد الأمن والتكنولوجيا فحصاً دقيقاً لأنظمة القيادة والسيطرة والاتصالات النووية العالمية وحدد الشكل الذي يمكن أن يبدو عليه الخط الساخن العالمي المبتكر، الذي أطلق عليه اسم "Catalink". وتجاوز هذا المشروع المرحلة المفاهيمية وهو جاهز حالياً لتُقيّمه الدول المسلحة نووياً. ويمكن إجراء مثل هذا التقييم دون تغيير في سياساتهم أو مواقفهم أو ترساناتهم، وسيظهر بمظهر جيد في جهودهم لاتخاذ نهج أكثر استراتيجية للحد من المخاطر النووية في الوقت الذي تتصاعد فيه التوترات في مناطق الصراع في جميع أنحاء العالم.
ونظراً للمخاطر الحقيقية للغاية المرتبطة بالتصعيد النووي نتيجة سوء تفسير الخطاب أو الأفعال، أو سوء تقدير الردود بسبب الغموض والسرية، يجب أن يتمتع القادة بالقدرة على التحدث بوضوح وثقة وسرية، حسب تقرير المجلة الأمريكية.
ومن المستحيل الحفاظ على الاستقرار ومنع الاستخدام النووي في عالم غير مستقر متعدد الأقطاب يضم تسع دول مسلحة نووياً باستخدام المنطق ثنائي القطب والأنظمة غير الملائمة التي تعود للحرب الباردة.
وهناك حاجة إلى أنظمة اتصالات متعددة الأطراف حديثة ومشفرة بقوة وقابلة للبقاء ومتاحة لصناع القرار النووي لمواجهة مخاطر الواقع النووي التي يطرحها القرن الحادي والعشرين. الخطوط الساخنة تستوجب تحديثاً عاجلاً.