أعلن رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد، اليوم الأحد 18 أبريل/نيسان، أن الملء الثاني لسد النهضة سيتم في موعده المحدد، بعد يومين من تصريحات أخطر لوزير خارجيته، فكيف تتمكن مصر من منع كارثة أخطر من نكسة 1967، وما دور الإمارات في توريط القاهرة؟
آبي أحمد قال عبر حسابه في تويتر إن المرحلة الثانية من ملء السد ستتم في موسم الأمطار المقبل، أي خلال شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب، بعد يومين فقط من إعلان وزير الخارجية دمقي مكونن أن أديس أبابا لن توافق أبداً على ما وصفها بالشروط "غير العادلة"، التي تسعى إلى الحفاظ على الهيمنة المائية لمصر والسودان.
التصريحات الإثيوبية الصادرة عن أعلى المستويات هناك، إضافة إلى الصور التي تنقل ما يجري على الأرض في السد، تؤكد أن أديس أبابا ماضية في طريقها نحو تنفيذ الملء الثاني لسد النهضة، متجاهلة التهديدات المصرية المتكررة بأن ذلك "غير مقبول" ويهدد استقرار المنطقة بالكامل، بحسب وصف الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، قبل وبعد فشل جولة المفاوضات الأخيرة في الكونغو قبل عشرة أيام.
التعنت الإثيوبي والموقف الإماراتي
وسط القلق الشعبي المصري المبرر تماماً من الأخبار المتواترة الصادرة عن إثيوبيا والمتعلقة بالسد، ودهشة البعض مما يصفونه "بالتعنت والتعالي الإثيوبي" في التعامل مع مصر، يتبادر إلى الذهن تساؤلات تتعلق بخلفيات هذا الملف، وكيف انقلبت الأمور بتلك الصورة منذ زيارة وفد الدبلوماسية الشعبية المصرية إلى إثيوبيا، في أعقاب ثورة 25 يناير/كانون الثاني، وصولاً إلى ما يحدث اليوم على الأرض، وبخاصة التساؤل حول الجهة أو الجهات التي "تقوي إثيوبيا" لهذه الدرجة، وهو التساؤل الذي دائماً ما وجهت إجابته أصابع الاتهام نحو إسرائيل.
لكن شهدت الفترة الأخيرة ظهور متهم آخر لم يكن أحد من المصريين يتصوره، وبالتحديد دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تكررت الإشارات والتقارير نحو دورها في أزمة سد النهضة، وموقفها "المريب"، وربما كان أحدث الإشارات على ذلك الموقف هو بيان الخارجية الإماراتية الصادر يوم 31 مارس/آذار الماضي، بعد يوم من تهديدات السيسي بشأن السد الإثيوبي.
فقد قال الرئيس المصري يوم 30 مارس/آذار، إن مياه النيل خط أحمر لمصر، ووجه تحذيراً للجميع مفاده أن المساس بنقطة واحدة من تلك المياه سيؤدي إلى "حالة من عدم الاستقرار في المنطقة لا يتخيلها أحد"، وعلى الفور صدرت بيانات عربية مساندة للموقف المصري والسوداني، وتبعتها بيانات دولية تدعو إلى ضرورة التوصل لاتفاق قبل الملء الثاني، لكن أبوظبي أصدرت بياناً -وصفه البعض بأنه أقرب لأن يكون صادراً عن أديس أبابا- إذ جاء في البيان الصادر عن وزارة الخارجية والتعاون الدولي "الاهتمام البالغ والحرص الشديد على استمرار الحوار الدبلوماسي البناء والمفاوضات المثمرة لتجاوز أية خلافات حول سد النهضة بين الدول الثلاث، مصر وإثيوبيا والسودان، وأهمية العمل من خلال القوانين والمعايير الدولية المرعية للوصول إلى حل يقبله الجميع، ويؤمّن حقوق الدول الثلاث وأمنها المائي، وبما يحقق لها الأمن والاستقرار والتنمية المستدامة، ويضمن ازدهار وتعاون جميع دول المنطقة".
البيان الإماراتي صدر كما لو أن مواقف الدول الثلاث (إثيوبيا ومصر والسودان) تقف على قدم المساواة، وكأن المفاوضات بشأن السد قد بدأت لتوها، رغم أن تلك المفاوضات مستمرة منذ عشر سنوات، والتعنت الإثيوبي والإصرار على التعامل مع مياه نهر دولي تحكمه الأعراف والقوانين الدولية على أنه ملكية خاصة لم يعد جديداً أو مشكوكاً فيه، وفي هذا السياق يأتي موقف رئيس الولايات المتحدة السابق دونالد ترامب -بعد رعاية واشنطن لجولات مفاوضات وضح خلالها هذا التعنت الإثيوبي تماماً- الذي عبر عن "تفهمه الكامل في حال قررت مصر تدمير السد".
فتِّش عن دور دحلان
اليوم الأحد، نشر تقادم الخطيب، الأكاديمي والناشط السياسي المصري والعضو البارز في الجبهة الوطنية للتغيير، منشوراً حول أزمة السد على صفحته في فيسبوك، ألقى الضوء على الدور الإماراتي، مستشهداً بتقرير حصري كانت مجلة Newsweek الأمريكية قد نشرته في أبريل/نيسان 2015، أي بعد أيام من توقيع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إعلان المبادئ مع نظيره السوداني المخلوع عمر البشير، ورئيس وزراء إثيوبيا السابق هيلاماريام ديسالين في الخرطوم، وهو الاتفاق الذي يمثل الورقة القانونية الوحيدة في يد إثيوبيا بشأن السد، ويفسر جزءاً كبيراً من ذلك التعنت.
"في الواقع كنت ومازالت دائم التشكك في إعلان المبادئ الذي تم توقيعه في 2015، ولماذا تم التوقيع على مثل هذا الإعلان، ومَن الذي صاغ بنوده، حيث إن وزير الري وهو المنوط بوزارته متابعة موضوع سد النهضة قال لا أعرف من الذي كتب البنود وصاغها، ولم أطلع عليها، لكن كل هذه التساؤلات اختفت بمجرد أن وجدت مقالة تم نشرها في Newsweek، نشرت بتاريخ 28 أبريل/نيسان 2015″، بحسب ما كتبه الخطيب.
تقرير Newsweek رصد الدور المحوري الذي لعبه محمد دحلان، القيادي الفلسطيني المفصول من حركة فتح، المقيم في أبوظبي، في صياغة بنود اتفاق المبادئ بناء على "طلب السيسي ورئيس وزراء إثيوبيا"، بعد عام من جولات التفاوض بين الطرفين في القاهرة وأبوظبي والقاهرة وأديس أبابا.
وأشار التقرير إلى أن تلك المفاوضات التي نتج عنها إعلان المبادئ كانت محصورة بين مسؤولين محدودين تماماً، بينهم وزير خارجية إثيوبيا وقتها تيدروس أدهانوم غيبريسيوس (مدير منظمة الصحة العالمية الحالي)، وخالد فوزي، مدير المخابرات المصرية وقتها، والسيسي، وولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد، إضافة إلى دحلان ومساعديه.
ويفصّل التقرير -المنشور قبل ست سنوات- دور دحلان كمبعوث خاص لولي عهد أبوظبي في ملفات المنطقة من ليبيا، إلى الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، إلى سد النهضة وغيرها، ملقياً الضوء على طموحات دحلان أن يصبح رئيساً للسلطة الفلسطينية، التي طرد منها بتهم الفساد والخيانة، والآن أظهرت التطورات على مدى تلك السنوات أن ما جاء في ذلك التقرير يتحقق على أرض الواقع بصورة لا تختلف كثيراً عما قيل وقتها.
لماذا ورّطت الإمارات مصر ثم تخلت عنها؟
واقع الأمر يشير إلى أنه من الصعب الوصول إلى إجابة شافية بشأن الدوافع الكامنة وراء السياسات التي ينتهجها ولي عهد أبوظبي، فهو نادراً ما يظهر بنفسه في واجهة الأحداث، بل يبدو وكأنه يدير المشهد من الخلف، بينما يتصدر الصورة آخرون، كما في حالة سد النهضة، حيث ظهر دحلان في كثير من الصور بصحبة مسؤولين إثيوبيين ومصريين قبل توقيع اتفاق المبادئ المشؤوم.
ويقول الخطيب في منشوره: "هنا أدركت مكمن الخطر، أن الإمارات هي التي تقف خلف كل ذلك، وأن لها يداً في هذا الأمر، والخطيئة في الواقع ليست عليها، بل على من مشي خلفها وباع كل شيء في سبيل الحصول على دعمها لكي يبقى في السلطة".
"الإمارات التي تدعم وتمول سد النهضة، والتي تحاصر مصر في كل المحافل الدولية، وتعمل على تركيع وتجويع الشعب المصري وتدمير مصر وإزالتها من الخريطة، الإمارات التي دعمت رئيس مصر حتى استنفد كل ما لديه خدمة لأهدافها، والآن تقوم بالتخلي عنه، على طريقة الأمريكان في دعم أي ديكتاتور، حتى يستنفد ما لديه، ثم تتخلى عنه (حدث هذا مع صدام وغيره)، الآن تبيعه حرفياً، تدخل لتغير في معادلة تحالف غاز شرق المتوسط، وتعيد تركيبه لاستبعاد مصر من خلال تحالف تجديد انضمت له، عقاباً لحليفها الرئيس الحالي على مصالحته مع تركيا وقطر، ومعروف أن قطر هي من لعبت دور التقريب بين المصريين والأتراك. الإمارات التي باتت تسيطر على قطاع الأدوية في مصر بشرائها شركة آمون، وسيطرتها على القطاع الصحي، والتي ستبيعها، وأنتم تعرفون لمن، وفي يوم وليلة سنجدهم يمتلكون أصولاً عن الدولة، عن طريق وكيلهم الإماراتي.
وفي هذا السياق من السهل استدعاء المواقف الإماراتية تجاه مصالح مصر منذ الإعلان عن التطبيع مع إسرائيل، منتصف أغسطس/آب من العام الماضي، من خلال اتفاق تطوير ميناء حيفا الإسرائيلي، ليصبح الأكبر في شرق المتوسط، وإحياء خط الأنابيب القديم لنقل النفط والغاز من الخليج إلى أوروبا والعالم، مروراً بالسعودية والأردن إلى إسرائيل، وهو ما يمثل ضربة موجعة لدخل قناة السويس المصرية التي تمثل ناقلات النفط والغاز أكثر من ثلث دخلها، وصولاً إلى مشاركة إسرائيل واليونان في خط أنابيب أسفل المتوسط لنقل الغاز، لا تستفيد منه شيئاً، والقائمة تطول.
سد النهضة ونكسة 1967
الحديث عن كارثة اتفاق المبادئ الذي وقّعه السيسي -بتوجيه إماراتي- وأعطى أديس أبابا ما لم تكن تحلم به لم يعد مجرد مكايدة سياسية من جانب المعارضين للرئيس المصري، وما أكثرهم، بل إن أول من حذر من تلك الكارثة كان خبير القانون الدولي ومستشار وزير الري وعضو لجنة التفاوض المصرية الدكتور أحمد المفتي، الذي نشرت تصريحاته في صحيفة "المصري اليوم" المصرية بعد أن انسحب من وفد التفاوض اعتراضاً على ذلك الاتفاق، وكان ذلك بعد أيام قليلة من احتفاء السيسي بالتوقيع مع البشير وديسالين في الخرطوم.
المفتي قال نصاً إن اتفاق إعلان المبادئ أدى "لتقنين أوضاع سد النهضة، وحوّله من سد غير مشروع دولياً إلى مشروع قانونياً"، مضيفاً لـ"المصري اليوم" أن الاتفاق أسهم في تقوية الموقف الإثيوبي في المفاوضات الثلاثية، ولا يعطي مصر والسودان نقطة مياه واحدة، وأضعف الاتفاقيات التاريخية، موضحاً أنه تمت إعادة صياغة اتفاق المبادئ بما يحقق المصالح الإثيوبية فقط، وحذف الأمن المائي، ما يعني ضعفاً قانونياً للمفاوض المصري والسوداني.
وتابع المفتي: "المشروع الإثيوبي كشف عن تقصيرٍ مصري سوداني 100%، لأن البلدين تجاهَلَا أن أساس أي مشروع مائي على الأنهار الدولية المشتركة، يعتمد على المدخل القانوني، وتقدير الوزن القانوني قبل الشروع في تنفيذ المشروع".
وفي نفس السياق كان المستشار والخبير الدستوري محمد نور فرحات -بعد فشل جولة المفاوضات الأخيرة في الكونغو- كتب على صفحته في فيسبوك أن أول إجراء على مصر اتخاذه الآن هو "عرض اتفاق المبادئ على مجلس النواب، ومن ثم رفض التصديق عليه"، لتصبح مصر في حِل من ذلك الاتفاق، كخطوة أولى نحو إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
مصر الآن تواجه كارثة أكبر بكثير من هزيمتها أمام إسرائيل، في حرب 5 يونيو/حزيران 1967، التي احتلت فيها تل أبيب شبه جزيرة سيناء، إذ تمكنت مصر من الانتصار في حرب أكتوبر/تشرين 1973، ومن ثم استعادة أراضيها المحتلة مرة أخرى، لكن تداعيات سد النهضة تهدد شريان الحياة الرئيسي للبلاد، فمياه النيل تمثل قضية "حياة أو موت" لمصر، بحسب وصف السيسي نفسه من على منصة الأمم المتحدة، في سبتمبر/أيلول 2019، وبالتالي فإن تمرير أديس أبابا للملء الثاني دون اتفاق يضمن حقوق مصر يعني أن تصبح مصائر المصريين بأيدي حكام أديس أبابا.
وهذا ما عبَّر عنه الخطيب بقوله: "سد النهضة هو أخطر مسألة تواجه مصر وتهدد وجودها، وإثيوبيا ماضية في طريقها ولن تتراجع، لأنها تدرك أن حلفاء النظام قد باعوه وأصبحوا يدعمونها، وأن خلفاء ريتشارد قد تخلوا عنه، وأن النظام بات معزولاً دولياً ولا أحد يعيره اهتماماً، ومن يدفع الثمن مصر وشعبها. أشفق كثيراً على الذين يحللون ويدعون العقلانية، ويرون أن أمثالي متطرفون في كتاباتهم، سأتركهم لعقلانيتهم وأترك قلمي لجنونه.
"أما الذين يتهمونني وغيري باتهامات باطلة فهؤلاء هم شركاء السلطة في كل ما يحدث، من طبلوا لها ورقصوا وهللوا لكل انتهاك، ولكل ظلم وحرضوا على كل من يقول رأيه بسلمية، هؤلاء شركاء فيما وصلت له مصر. إثيوبيا لن تتنازل ولن تتراجع لأن الذين يحرضون على مصر وشعبها قد أحكموا الخناق عليها، والمسؤول عن ذلك من ألقى بنفسه في أحضانهم، وباع كل شيء من أجل البقاء في السلطة. لو اكتمل الملء الثاني ستكون هزيمة أشد من هزيمة 67، ولن تقوم لنا بعدها قائمة. سيتحكم فينا أي حاكم إثيوبي على طريقة تحكم نتنياهو في الأردن وبيع المياه له ومعاقبته في كل لحظة حينما يشاء، هذا لو أرادوا عقاب مصر وليس إزالتها من الخريطة".
الخلاصة هنا هي أنه "على من ساهم في بناء سد الفناء هذا أن يقوم بوقفه، وهنا ليس مكايدة سياسية، بل تأكيد على إعلاء مصلحة البلد وشعبه على مصلحة الشخص وجماعته"، بحسب الخطيب.