تناولت مجلة The Economist البريطانية في تقرير لها النفوذ النوعي للهند في البلدان النامية، وكيف باتت نيودلهي تنافس بكّين إلى حد ما على هذه الدول التي باتت تشعر بالاستياء من الأسلوب الصيني، مشيرة إلى الاختلاف الذي تحظى به الهند عن جارتها الصين في علاقاتها واستثماراتها بهذه الدول، حتى باتت مرغوبة ويتم تفضيلها على الصين بهذا الشأن.
يشتكون من الشركات الصينية ولكن لا أحد يشتكي من الهندية
في وسط العاصمة الزامبية لوساكا الإفريقية، يمتد جسرٌ علوي مُلوَّن بألوان العلم الهندي، وفي جميع أنحاء العاصمة، تُستخدَم شاحنات شركة تاتا موتورز، وهي جزءٌ من إمبراطورية تاتا الهندية من الصلب إلى التكنولوجيا، في كلِّ شيءٍ؛ من البناء إلى جمع القمامة. اللافتات الموجودة داخل المركبات ترشد السائقين باللغتين الإنجليزية والهندية. ويتصل ركَّاب الشاحنات ببعضهم عبر شبكة الهاتف المحمول التي تديرها شركة Bharti Airtel الهندية للاتصالات.
يشتكي الكثير من الزامبيين، مثلما في كثيرٍ من الدول النامية الأخرى، جهراً في كثيرٍ من الأحيان من الشركات الصينية التي هي من كبار المستثمرين المحليين. وتتمتَّع الهند أيضاً بوجودٍ تجاريٍّ كبير، ولكن لا أحد يشتكي من هذا الوجود.
تمتلك شركة تاتا موتورز مصانع تجميع ضخمة في العديد من البلدان، بما في ذلك جنوب إفريقيا وماليزيا. أما شركة Bharti Airtel، فهي واحدةٌ من أكبر مُشغِّلي الاتصالات في إفريقيا. وتُعَدُّ مجموعة Aditya Birla أكبر منتجٍ في العالم لأسود الكربون، وهو أحد مُكوِّنات إطارات السيارات. والهند أيضاً هي واحدة من أكبر المستثمرين والمُصدِّرين الصناعيين في مصر.
وحتى في القطاعات التي تعتبرها الحكومات قطاعاتٍ استراتيجية، مثل البنية التحتية والاتصالات، لا يُنظَر إلى الاستثمار الأجنبي الهندي المباشر على أنه "مُخطَّط جيوسياسي" أو طموحٌ من أجل "الهيمنة" كما تتهم الصين بذلك. يقول غاريث برايس، من تشاتام هاوس، وهي مؤسَّسة فكرية بريطانية: "هذه إحدى ميزات الهند. مع استثناءاتٍ واضحة، حيث باكستان والصين، فإن الجميع راضون نوعاً ما عن الهند".
الهند.. نفوذ ناعم بذكاء وإدارة أعمال دون أخطار
كانت الهند في السابق تُقارَن بالصين كقوةٍ ناشئة لديها رأس مال تفتخر به. والتصاعد المُذهِل في الاستثمار الصيني خلال العقد الماضي أو نحو ذلك قد أسقط هذه المقارنة. تحاول الدول الفقيرة الآن تمويل تعافيها من كوفيد-19 دون تعميق ديونها أو اعتمادها على الصين. لكن التوسُّع الاقتصادي للهند محدودٌ نوعاً ما بالمقارنة، حوالي 7% من إجمالي التوسُّع الصيني في الاقتصادات النامية (باستثناء الاستثمار في هونغ كونغ، والذي يجري تضمينه في بعض الأحيان). لكن نهج الهند يقدِّم دروساً للمستثمرين الأجانب الذين يحاولون إدارة أعمالهم دون أخطار.
لطالما استثمرت الشركات من الأسواق الناشئة في الأسواق الناشئة الأخرى. وتوفِّر تجربتهم في الداخل، حيث التأخير والفوضى وقيود التمويل، إعداداً مفيداً لهم. ساعدت الهند في تنظيم مؤتمر باندونغ عام 1955، والذي ناقَشَ "التعاون بين الجنوب والجنوب".
تقول المجلة البريطانية، إنه من المُرجَّح أن تتصدَّر الاستثمارات الهندية في العالم الغني عناوين الأخبار. تتضمَّن صفقاتٌ، مثل استحواذ مجموعة تاتا على شركة تيتلي للمشروبات، أو جاغوار لاند روفر، أسماءً مألوفة ومئات الملايين من الدولارات، ومقداراً من الإمبريالية المعكوسة.
لكن الاستثمار الهندي المباشر في العالم الفقير يماثل تقريباً حصتها في البلدان الغنية، وهذا الاستثمار ينمو بشكلٍ مُطرَد بمرور الوقت. في عام 2019، وصلت هذه الاستثمارات إلى 46 مليار دولار، وفقاً لآخر تقديرات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، ارتفاعاً من حوالي 40 مليار دولار في عام 2010؛ 30 مليار دولار منها في آسيا وحوالي 13 مليار دولار في إفريقيا.
غير أن بعض البيانات سطحية. الشركات متعدِّدة الجنسيات التي يقع مقرها الرئيسي في الهند بشكلٍ عام أنشأت شركاتٍ فرعية محلية. وتقوم هذه الشركات بتوجيه الأموال من خلال الملاذات الضريبية، مثل موريشيوس. ومن بين الهنود المغتربين البالغ عددهم 18 مليون نسمة (المولودين في البلاد أو الذين يحملون الجنسية الهندية) هناك روَّاد أعمال يغيِّرون جوازات سفرهم ويسجِّلون الأعمال محلياً. يقول جاي بهاتيا من جامعة كامبريدج: "لقد أصبحت أحجيةً من أجزاءٍ كثيرة".
الهند ليس لديها ما يمكن مقارنته بمبادرة "الحزام والطريق" الصينية
حتى لو كانت بعض أجزاء الأحجية مفقودة، فإن تلك الموجودة تُظهِر السبب الأوضح في أن الاستثمار من الهند يُنظَر إليه بقدرٍ أقل من الشك من ذلك القادم من الصين. وحتى مع نمو الاستثمار الهندي بشكلٍ مُطرَد، ارتفع الاستثمار الصيني في العالم الفقير من 83 مليار دولار في عام 2010 إلى 645 مليار دولار في عام 2019.
والسبب الآخر هو أنه، على عكس الاستثمار الصيني، يأتي القليل من الاستثمار الهندي المباشر من الشركات التي تسيطر عليها الدولة، والتي غالباً ما يُشتَبَه في أنها تعمل بهدف تحقيق الاستراتيجية الجيوسياسية وأهداف السياسة الخارجية. شركة ongc Videsh الهندية هي واحدة من عددٍ قليلٍ من الشركات الهندية الكبيرة المملوكة للحكومة والتي تعمل في الخارج، واشترت أصولاً في بلدانٍ بعيدة مثل موزمبيق وكولومبيا.
لكن قوتها النارية لا تكمن في نفس المضمار مثل أقرانها الصينيين. شقَّت شركة Sinopec، وهي شركة نفط مملوكة للدولة، طريقها لأول مرة إلى صناعة النفط الأنغولية في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وحفَّزَت شركة ongc لشراء حصة في كتلةٍ من شركة شِل العملاقة للنفط والغاز. يشير جوناثان هيلمان، من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وهو مؤسَّسة فكرية في واشنطن، إلى أن الهند ليس لديها ما يمكن مقارنته بمبادرة الحزام والطريق الصينية، وهي مُخطَّط عالمي لبناء البنية التحتية. يقول هيلمان: "لم تنفق الحكومة الهندية الكثير من الوقت في تقديم رؤى كبرى".
يأتي معظم الاستثمار الهندي المباشر في المقابل من الشركات المملوكة للقطاع الخاص، والتي تنفِّذ مشاريع في الخارج لأسباب تجارية بحتة. ومن بين هؤلاء روَّاد الأعمال الذين مؤخَّراً (يُطلَق عليهم "الصواريخ" في كينيا، سخريةً من نيِّتهم في جني الثروات والعودة سريعاً إلى الوطن)، والمستثمرين مُتعدِّدي الجنسيات الذين يتَّخِذون من الهند مقراً لهم، وعائلات الشتات التي تمارس الأعمال التجارية في الخارج، خاصةً في إفريقيا، لأجيال متعاقبة.
الاستثمار الهندي في الدول النامية يثير استياء أقل من نظيره الصيني
بدأ التجار الهنود بالاستقرار حول أطراف المحيط الهندي منذ قرون. في القرن التاسع عشر، أُرسِلَ آلافٌ آخرون إلى زوايا بعيدة من الإمبراطورية البريطانية للعمل في مزارع في موريشيوس، وفي بناء السكك الحديدية في كينيا. بقي الكثيرون وقاموا ببناء أعمالهم التجارية الخاصة.
وخاض آخرون تحدياتٍ في رحلاتٍ طويلة على المراكب الشراعية للانضمام إليهم في إفريقيا. يقولو باراغ خان، خبير العلاقات الدولية الذي كان والده يعمل لدى عائلة تاتاس في إفريقيا: "نميل إلى النظر إلى الأشياء من منظور غير تاريخي ومن منظورٍ جيوسياسي، لذا فإن الأمر كله يتعلَّق بالصين". في إشارةٍ إلى صعود الصين في القارة، استُبدِلَ خط السكك الحديدية الذي جذب الهنود إلى كينيا في تسعينيات القرن التاسع عشر وحلَّ محله خط ماداراكا السريع، وهو خطٌّ صيني الصنع سُمِيَ على اسم ذكرى استقلال كينيا عن بريطانيا (ماداراكا تعني "السلطة الحاكمة").
كان الشتات الهندي يسوده أحياناً الاستياء. في السبعينيات على سبيل المثال، طَرَدَ عيدي أمين، وهو حاكمٌ مستبد، الآسيويين من أوغندا وصادَرَ ممتلكاتهم. لكن بشكلٍ عام، ولَّد التاريخ المشترك بعض الألفة. وذهبت حكومة كينيا إلى حدِّ الاعتراف بالآسيويين باعتبارهم القبيلة الرسمية رقم 44 في البلاد. بدأ فيمال شاه، الذي هاجَرَ جده من الهند، في تأسيس إمبراطورية بيدكو إفريقيا، من العصير إلى علف الماشية، مع والده وشقيقه منذ حوالي 35 عاماً. يعرف شاه أفضل الأطعمة الهندية في نيروبي ويتطوَّع في مركز مجتمع جاين، لكن لديه جواز سفر كيني ويعتبر نفسه كينياً تماماً. يقول: "أنا لست محلياً من الهند".
بعد الاستقلال، نَظَرَ الصناعيون إلى ما بعد حدود الهند لتحرير أنفسهم من الروتين. كان من أول المشاريع الأجنبية لشركة India Inc مصنع نسيج شيَّدته مجموعة Birla في إثيوبيا عام 1959. ثم توسَّعَت المجموعة عبر جنوب شرقي آسيا، حيث كانت الاقتصادات تنفتح. وجاء اندفاعٌ ثانٍ أكبر في الاستثمار الهندي المباشر في التسعينيات، عندما خفَّفَت الهند الضوابط الحاكمة لرأس المال. وفي العام الماضي، أقامت الشركات الهندية 4590 مشروعاً في الخارج، ارتفاعاً من 395 في عام 2000، وفقاً للبيانات التي أعدَّتها بريما شاندرا أثوكورالا من الجامعة الوطنية الأسترالية.
والسبب الآخر الذي يجعل الاستثمار الهندي يثير استياءً أقل من ذلك الذي يولِّده الاستثمار الصيني هو أن الشركات الهندية تتمتَّع بسمعةٍ مُبرَّرة إلى حدٍّ كبير لمحاولتها بجهدٍ أكبر من الصينيين في التوظيف والشراء محلياً. في عام 2006، أجرى البنك الدولي مسحاً لنحو 450 شركة في إفريقيا. وفي المتوسِّط، وظَّفَت ما يقرب من خُمس عمالها من الصين ودول شرقي آسيا الأخرى، في حين جلبت الشركات الهندية أقل من 10% من عمالها من الهند. واستوردت الشركات الصينية 60% من الآلات الجديدة من الصين، في حين اشترى الهنود 22% فقط من الهند. ويستمر هذا الاتجاه إلى اليوم.