تناول تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية قرار الرئيس الأمريكي جو بايدن بسحب جميع القوات الأمريكية من أفغانستان بحلول 11 سبتمبر/أيلول من هذا العام، وانعكاس ذلك على دور القوات الأمريكية في الشرق الأوسط وخصيصاً في الخليج العربي.
وتقول المجلة إن حسم بايدن أمره حول القوات الأمريكية في أفغانستان، يعد قراراً مزدوجاً يفتح الطريق أمام سبيلين مختلفين: أولهما، أنه لما كانت بعض القوات الأمريكية المنتشرة في الخليج العربي موجودةً هناك لدعم العمليات الأمريكية في أفغانستان، فإن إنهاء الولايات المتحدة تدخلها العسكري هناك يعني أنه بات من الممكن سحب القوات الموجودة في الخليج وإعادة توجيهها لمهام في مناطق أخرى.
ما الذي يجب أن تفعله أمريكا بقواتها في الخليج العربي؟
لكن قرار بايدن ينطوي على قراءة أخرى، فإدارته قد تظل تجادل مع ذلك حول العدد الكافي من القوات التي يجب تركها في الخليج، لا سيما مع العدد الهائل من القوات في المنطقة والذي ورثته في النهاية عن إدارات أمريكية سابقة، كما أن ذلك يشمل القوات المتمركزة لدعم العمليات العسكرية الأمريكية في العراق.
وهذا بالطبع ليس نقاشاً جديداً. فعلى مدى السنوات العديدة الماضية، احتدَّ الانقسام في واشنطن حول نقيضين: إما حزم القوات الأمريكية أمتعتها والعودة إلى البلاد لإنهاء سلسلة من الحروب التي لا نهاية لها، وإما البقاء في المسار نفسه والتمركز في الخليج لتحافظ الولايات المتحدة على دورها التاريخي بوصفها ضامناً للأمن في منطقة الخليج.
يذهب بعض الخبراء إلى أن الإجابة تقع في منطقة وسط بين الرأيين المتناقضين؛ إذ ما دام بقية دول العالم -وحتى الولايات المتحدة- معتمدةً بدرجة ما على صادرات النفط والغاز من الخليج، والولايات المتحدة وإيران في حالة صراع، وهناك احتمال بأن تتحول إيران إلى دولة نووية أو تهاجم حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، فإن الولايات المتحدة سيتعيّن عليها الإبقاء على حضور عسكري لها في المنطقة كوسيلة للتحوط. مع ذلك، فإن هذه الانتشار العسكري يمكن أي يصبح أقل حجماً مما هو عليه اليوم.
من جهة أخرى، تقول "فورين بوليسي" إن ما يُجمع عليه الخبراء الأمريكيون هو أن القرارات المتعلقة بتقليص القوات وحجم انتشارها يجب أن تستند إلى حسابات صارمة للحفاظ على مصالح الولايات المتحدة في الخليج؛ وإدراك شامل لحجم التهديدات التي قد تتعرض لها تلك المصالح؛ وتقييم الفوائد والتكاليف والمخاطر والآثار المترتبة على كل سياسة تنتهجها الولايات المتحدة في المنطقة. إذاً ما الذي يخلُص إليه كلُّ فريق من حججٍ بعد مراكمة هذه العوامل من وجهة نظره؟
ما حجج مؤيدي فك الارتباط العسكري الأمريكي عن الخليج؟
1- أولاً: لم يعد للولايات المتحدة مصالح حيوية في منطقة الخليج. إذ لا تنفك تتراجع الأهمية الاستراتيجية للمنطقة بالنسبة إلى الولايات المتحدة بدرجة أساسية، بسبب إنتاج الأخيرة المتزايد من الطاقة وتنوع المصادر في سوق الطاقة العالمي.
2- ثانياً: التهديدات الرئيسية للأمن والاستقرار الإقلميين داخلية بالأساس، فهي نابعة من هشاشة دول المنطقة وعجز أنظمتها عن الاضطلاع بوظائفها، والقوات العسكرية الأمريكية غير مؤهلة للتعامل مع الصراعات الناجمة عن أسباب من هذا النوع.
3- ثالثاً، المصالح الأمريكية الأساسية في المنطقة ليست مهددةً حالياً، ويمكن حمايتها بتكلفة أقل وبحصةٍ أصغر من المخاطر والموارد العسكرية. والمقصود من ذلك أن الولايات المتحدة لا تحتاج إلى الإبقاء على وجود عسكري دائم لها في أوقات السلم لحماية التدفق الحرب للنفط، أو الدفاع عن أمن إسرائيل، أو مكافحة التطرف، أو منع ظهور قوة مهيمنة إقليمية معادية.
4- رابعاً، الولايات المتحدة ستوفر قدراً هائلاً من المال إذا سحبت قواتها الموجودة في الخليج العربي.
5- خامساً، الأفضل للولايات المتحدة أن تقلّص القوات والإمكانات العسكرية التي تنشرها في الخليج وتُعيد توجيهها إلى ميادين التوتر في الساحة الأوروبية ومناطق المحيطين الهندي والهادئ التي تشهد منافسة معها من جانب القوى العظمى روسيا والصين.
6- سادساً، وأخيراً، الحدُّ من انكشاف القوات العسكرية الأمريكية في منطقة الخليج من شأنه أن يقلل من خطر تورطها في نزاعات داخلية تخص دولاً أخرى؛ والشاهد هنا، بحسب هذا الرأي، أنه ما دامت الولايات المتحدة لها قوات بهذا الحجم في المنطقة، فإن خيار السعي وراء حلول عسكرية لمشكلات السياسة الخارجية سيظل خياراً شديد الإغراء.
ما حجج معارضي فك الارتباط العسكري الأمريكي عن الخليج؟
في المقابل، يُشدد مؤيدو الإبقاء على الوضع العسكري الراهن كما هو على أن المكاسب المالية والاستراتيجية لتقليص الانتشار العسكري في المنطقة مبالغٌ فيها، وحججهم في ذلك هي:
1- أولاً، معظم القوات الأمريكية المنتشرة في منطقة الخليج العربي تشارك في دعم العمليات العسكرية الأمريكية في العراق وأفغانستان، كما أنها تضطلع بأدوار غير قتالية: مثل التدريب وتقديم المشورة ومساعدة القوات المحلية. ومن ثم، ما دامت الولايات المتحدة لديها مهام ينبغي الاضطلاع بها في هذين البلدين، فإن خيار تخفيض القوات يظل خياراً محدود النطاق.
2- ثانياً، لم يكن تمركز القوات الأمريكية في منطقة الخليج يتعلق في أي وقت من الأوقات بضمان وصول الولايات المتحدة إلى إمداداتها النفطية -لأنها تستطيع الحصول على النفط من أي مكان آخر- بل إنه يتعلق بالأحرى بضمان وصول الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها في جميع أنحاء العالم إلى النفط. وعلى الرغم من أن منطقة الخليج قد تكون أهميتها للولايات المتحدة قد بدأت في التراجع بالفعل، فإن واشنطن لا تزال لديها مصالح مهمة تتعلق بالحفاظ على استقرار أسواق الطاقة العالمية، وردع أي مغامرات إيرانية في المنطقة.
3- ثالثاً، عدم الاستقرار في المنطقة يهدد شركاء الولايات المتحدة في حفظ الأمن ويخلق مزيداً من الملاذات الآمنة للمجموعات التي تسعى لمهاجمة مصالح الولايات المتحدة، كما أن "سلوك إيران العدواني" وتطلعاتها الجيوسياسية في المنطقة قد يؤدي إلى نشوب صراع مباشر مع الولايات المتحدة نفسها.
4- رابعاً، القوات الأمريكية المتمركزة في دول مجلس التعاون الخليجي لا تعاني إلا عدداً قليلاً جداً من الإصابات والأضرار بين الحين والآخر، ووضع قواتها الحالي صغير بالفعل نسبياً ولا ينطوي الإبقاء عليه على تكلفة كبيرة، قياساً إلى الميزانية التي طلبتها وزارة الدفاع لهذه السنة المالية وبلغت 740 مليار دولار.
من جهة أخرى، ولما كانت دول الخليج العربي توفر لهذه القوات مرافق تدريب متميزة وتتحمل الجزء الأكبر من تكاليف دعم القوات الأمريكية، فإن نقل هذه الأصول والقواعد سيكلف البنتاغون قدراً أكبر من الأموال. ويزيد على ذلك، أن الوجود العسكري الأمريكي الحالي بات التطبيع معه مستداماً من الناحية السياسية، فهو لا يولد عداءً محلياً، ولا يهدد الاستقرار الداخلي، ولا يخلق مشكلات سياسية للبلدان المضيفة، ولم يعد يشكّل خطراً جسيماً لاستفزاز هجمات إرهابية ضده، بحسب المقال.
5- خامساً، يشدد أنصار الإبقاء على وضع الانتشار الراهن للقوات الأمريكية على أن المخاطر الاستراتيجية المحتملة لفك الارتباط العسكري بالمنطقة يُقلّل من شأنها بشدة. ويجادلون بأن هذا الخروج للقوات الأمريكية قد يُخيف حلفاء الولايات المتحدة، وكلما شعر هؤلاء الحلفاء بأنهم عرضة للهجوم، زاد احتمال أن يتصرف بعضهم على نحو أشد حدةً ضد إيران. بعبارة أخرى، القوات الأمريكية موجودة في المنطقة، ليس فقط لردع إيران، لكن أيضاً لكبح جماح شركاء الولايات المتحدة عن أي قرارات مندفعة.
6- سادساً، يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن فك الارتباط بين الولايات المتحدة والمنطقة قد يقوّض مصداقية الردع التقليدي للولايات المتحدة، ومن ثم قد تتصرف إيران بطريقة أشد عدوانية على اعتبار أن تقليص الولايات المتحدة لحجم قواتها دليلٌ على أنها لم تعد ملتزمة بالحفاظ على أمن دول الخليج. وفي الوقت نفسه، قد ترى هذه الدول، بقيادة السعودية والإمارات، أن قرار الولايات المتحدة بالانسحاب من المنطقة يعني أنها لم تعد شريكاً أمنياً موثوقاً به، وأن تلجأ إلى تطوير برامج نووية خاصة بها، ما قد يؤدي إلى اندلاع سباق تسلحٍ إقليمي.
7- سابعاً، إذا غادرت الولايات المتحدة المنطقة، سيتقلّص نفوذها على قضايا النفط عند أي ظروف طارئة تستلزم التفاوض مع السعودية، كما في حالات الانخفاض المفاجئ والحاد والمستمر في إمدادات النفط، على سبيل المثال، والتي قد تؤدي إلى ارتفاع حاد في الأسعار العالمية للنفط، إذ قد يقتضي الأمر حينها من رئيس الولايات المتحدة الضغطَ على السعودية لزيادة إنتاجها النفطي لخفض الأسعار.
الأمر كله يتوقف على الوصول إلى تسوية للصراع في المنطقة
في النهاية، تقول المجلة الأمريكية، إن هناك حججاً وجيهة في كلا الجانبين، لكن المحرك الرئيسي لموقف القوات الأمريكية الحالي هو احتمال نشوب صراع مع إيران. ومن ثم، فإن ممر الخروج الآمن الوحيد للقوات الأمريكية من الخليج يتوقف على التوصل إلى حلٍّ طال انتظاره للقضايا النووية والإقليمية التي أثارت التوتر بين الولايات المتحدة وإيران لسنوات. لكن ما دام هذان البلدان في حالة صراع، فإن وصول الجيش الأمريكي إلى القواعد الإقليمية والحضور العسكري في المنطقة سيظل ضرورة لا غنى عنها.
وفي الختام، فإن الولايات المتحدة لا تحتاج للإبقاء على هذا القدر من القوات المتمركزة في الخليج العربي بمجرد انتهاء العمليات العسكرية الأمريكية في العراق وأفغانستان. ويمكن حماية المصالح الأساسية للولايات المتحدة في المنطقة من خلال وجود عسكري أصغر نطاقاً وأكثر عقلانية في انتشاره واعتماده، مع دعمه عند الضرورة بنشر مزيد من القوات الأمريكية بالتناوب. وإلى أن تتوصل الولايات المتحدة وإيران إلى نوع من التسوية، فإن التخلي الكامل للولايات المتحدة عن حضورها في المنطقة يظل مقيداً بالمثل العسكري القديم: "إذا كنت تريد السلام، فاستعد للحرب".