"إريتريا باتت قوة مهيمنة في إثيوبيا"، والدولتان تتحركان لإقامة محور استبدادي جديد في منطقة شرق إفريقيا ويتعاون مع خصوم أمريكا.
فآبي أحمد الحاصل على حائزة نوبل للسلام والذي كان ينظر إليه على أنه الرجل الذي سوف يجلب السلام للمنطقة، أصبح يعتمد على الرئيس الإريتري أسياس أفورقي (أشهر مستبدي المنطقة)، لضمان استمرار حكمه، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
حرب تيغراي نقطة تحول وموقف أمريكي صادم شجع على ذلك
اندلعت الحرب في إقليم تيغراي الإثيوبي، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وبعد خمسة أشهر تبّدى حجم المجازر والدمار والاضطراب بوضوح.
ومن الشهر الأول، أعربت إدارة ترامب عن تأييدها للحرب، ودعمت تصوير أبي أحمد لها على أنها "عملية إنفاذ قانون" داخلية، وأثنت على إريتريا لالتزامها "ضبط النفس"، في وقت كانت فيه فرق من الجيش الإريتري تتدفق عبر الحدود، وترتكب فظائع أفادت بها بعض التقارير.
على أن إدارة بايدن تتبنى سياسة أكثر حكمة، لكن بطء عملية تعيين أفراد فريقها يعوقها، حسب الموقع الأمريكي.
إذ قدّم وزير الخارجية أنتوني بلينكن مطالب معقولة، وأرسل الرئيس بايدن السيناتور كريس كونز للتعبير عن مدى جدية تعامل واشنطن مع الأزمة. وتقرر تعيين مبعوث خاص للقرن الإفريقي، يُقال إنه الدبلوماسي الكبير جيفري فيلدمان، وهو ما يلغي تثبيت مساعد لوزير الخارجية لشؤون إفريقيا. والمديرة الجديدة للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، سامانثا باور، الناشطة المتحمسة للتصدي للفظائع الجماعية، تنتظر التأكيد.
آبي أحمد يعترف بوجود القوات الإريترية، ولكنه لا يستطيع الاستغناء عنها
كان مطلب بلينكن الأول انسحاب القوات الإريترية، ودفع ذلك آبي -بعد شهور من الإنكار- للاعتراف بأن الجيش الإريتري حاضر بالفعل، وأنه سيطلب من الرئيس أسياس سحبه.
لكن مشكلة آبي هي أنه إذا انسحبت إريتريا فسيخسر تيغراي، وستتمكن المقاومة في تيغراي من التغلب على جيشه البالي.
لكن أسياس رئيس مخضرم، وتحسّب لذلك، إذ وضع عملاءه الأمنيين وقواته الخاصة بشكل استراتيجي في إثيوبيا، بحيث تصبح حكومة آبي الهشة عرضة للخطر إذا انسحب.
وثانياً، طالبت الولايات المتحدة بوقف إطلاق النار وبدء مفاوضات سياسية. وهذا ضروري لوقف المذابح التي تشهدها ساحات المعركة -خلَّفت إحدى المعارك آلاف القتلى في مارس/آذار- والقتال الدائر الذي يعتمد على استراتيجية الأرض المحروقة، والذي سيعود باقتصاد تيغراي إلى العصر الحجري.
لكن آبي رفض هذا، وبدا أنه وأسياس مصممان على شنّ هجوم آخر لهزيمة قوات الدفاع في تيغراي، ولكن ما لم ينجحا في تبيينه هو أن الاستمرار في ارتكاب الفظائع لا يؤدي إلا إلى زيادة عزم تيغراي على الرد. وفي حديث له في 3 أبريل/نيسان، أقر آبي متأخراً أن حرب عصابات "صعبة ومرهقة" تلوح في الأفق، لكنه لم يأتِ على ذكر محادثات السلام.
ثالثاً، طالب بلينكن بالمرور غير المقيد للمساعدات الإنسانية المقدمة من وكالات الإغاثة الدولية لتوفير الغذاء والدواء للمحتاجين.
وكان يمكن أن يضيف، كما يقول الموقع الأمريكي "أنه بدون وقف القتال لن يتمكن المزارعون من تجهيز أراضيهم للزراعة. فالدورة الزراعية لا تقبل التأخير، ولا بد أن يبدأ الحرث قريباً، قبل أن تهطل الأمطار في يونيو/حزيران. وإذا لم يتوفر محصول هذا العام فسيتفاقم الجوع".
ويُشار إلى أن برنامج الأغذية العالمي والوكالات الدولية يقدمان المساعدة لحوالي 1.2 مليون شخص من أصل 4.5 مليون شخص، يُقدَّر أنهم بحاجة للإغاثة الطارئة، لكن بعض التقارير تفيد بأن الجنود يصادرون الطعام فور توزيعه، ويأخذونه من المدنيين تحت تهديد السلاح، وجهود المساعدة في الوقت الحالي محدودة ومتأخرة جداً.
أديس أبابا تحقق في الجرائم التي ارتكبتها في الحرب
أما المطلب الأخير فهو إجراء تحقيق مستقل في التقارير التي تفيد بارتكاب فظائع، وقد بدأه مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، ولكن بالشراكة مع اللجنة الإثيوبية لحقوق الإنسان.
لكن المشكلة في هذا الإجراء هي أنه لا يبدو معقولاً أن نتوقع من موظفي هيئة حكومية إثيوبية -بغض النظر عن نزاهتهم الشخصية- أن يتحملوا الضغط الشخصي الذي ستمارسه عليهم السلطات، حسب تقرير موقع Responsible Statecraft.
وسيرفض العديد من مقاتلي تيغراي هذه النتائج التي سيخرج بها التحقيق تلقائياً على اعتبار أنها متحيزة.
كيف أدت سياسات آبي أحمد لنفور جيران إثيوبيا؟
لدى الولايات المتحدة مهام أخرى في هذا المشهد المعقد أيضاً، ففي العام الماضي أخذت وزارة الخزانة الأمريكية على عاتقها مهمة التوسط في نزاع مياه النيل بين إثيوبيا ومصر.
ولحماية مشروع سد النهضة شكّلت وزارة الخارجية الإثيوبية تحالفاً من دول إفريقية مشاطئة، أدى إلى عزل مصر وحدّ من خطر المواجهة المباشرة، لكن آبي أحمد ضرب به عرض الحائط، فقبل 18 شهراً دخل في محادثات مباشرة مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، الذي دعا الولايات المتحدة للتوسط، ثقةً منه في أن إدارة ترامب ستنحاز إلى صفه، ولم يكن أمام السودان، الطرف الآخر في المحادثات، خيار سوى الاصطفاف مع القاهرة وواشنطن، لكن آبي أحمد بحلول الوقت أدرك خطأه، وبدأ السيناريو الذي توقعه دبلوماسيوه يتكشف تدريجياً، إذ أصبحت إثيوبيا هي المعزولة في ظل استغلال مصر لموقفها الأقوى، وتعليق الولايات المتحدة لبعض المساعدات، ومن حينها انهارت المحادثات عدة مرات، في ظل تصعيد كل جانب للهجته.
ومنح السودان فرصة ذهبية لتحرير الفشقة
وما زاد الطين بلة أن آبي في تحضيره للهجوم على تيغراي أثار استعداء السودان، فقبل أيام قليلة من الحرب طلب من الزعيم السوداني الجنرال عبدالفتاح البرهان إغلاق الحدود السودانية، ولم يفطن إلى أن هذا سيضر باتفاقية حساسة تُمكّن المزارعين الإثيوبيين من زراعة الأراضي داخل حدود السودان.
وهؤلاء المزارعين ينتمون لطائفة الأمهرة (المؤيدة لآبي أحمد)، وبإغلاق الحدود طردت القوات السودانية هؤلاء القرويين، وهو ما أثار غضب حكومة الأمهرة القوية، وأشعل نزاعاً حدودياً بين البلدين.
جدير بالذكر أن منطقة "الفشقة" الحدودية بين البلدين تشهد منذ أشهر، توترات واشتباكات بين الجيش السوداني وقوات إثيوبية.
والفشقة هي أرض سودانية خصبة يحتلها مزارعون إثيوبيون، ويقول السودان إنها تقع على الجانب السوداني من الحدود التي تم ترسيمها أوائل القرن العشرين.
وأثناء حرب تيغراي تدخل الجيش السوداني نهاية العام الماضي، بهدف "السيطرة على كامل أراضيه"، وسط اتهامات وجهتها الخرطوم لأديس أبابا بدعم عصابات إثيوبية تهاجم تلك الأراضي.
الاتحاد الإفريقي يرفض التحقيق في مأساة تيغراي
وما زاد من تعقيد المشهد أن محور الاستبداد الذي يخطط له أسياس يمتد عبر إثيوبيا إلى الصومال، إذ إن الجهود المضنية لتحقيق استقرار الصومال وإعادة إعماره يهددها فشل الرئيس الصومالي محمد عبدالله محمد، في الاتفاق على جدول زمني للانتخابات مع المعارضة، ورفضه التنحي بعد انتهاء فترة ولايته في فبراير/شباط.
والقوات الرئاسية الخاصة بمحمد تلقت تدريبها في إريتريا، ويعتقد العديد من الصوماليين أنه يخطط للاستعانة بها لفرض حل عسكري على معارضيه.
ونظام السلام والأمن الإفريقيان مُدمَّر، والاتحاد الإفريقي فشل في التحرك، وأدت الدبلوماسية والضغط الإثيوبيان (مقر الاتحاد يقع في أديس أبابا) إلى خروج الحرب الإثيوبية ومساعي إريتريا لزعزعة الاستقرار في المنطقة ككل من أجندة الاتحاد الإفريقي. ورفض آبي وساطة دول إفريقية، وأقنع عدداً كافياً من زملائه من الزعماء الأفارقة بأن هذه الحرب شأن داخلي بحت، كي يمنع تشكُّل موقف إفريقي موحد معارض للحرب.
إليك الدول المستبدة التي تؤيد آبي أحمد
وتقاعُس إفريقيا بدوره أعطى الضوء الأخضر لروسيا والصين للتهديد باستخدام حق النقض ضد أي قرار في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
كما يحظى آبي أحمد وأسياس أفورقي بدعم إماراتي لافت، وغير مفهوم من قبل دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تعد أقرب حليف عربي للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.
وكانت أبوظبي الدولة الوحيدة في العالم، إضافة إلى إريتريا، التي أعلنت تأييدها لحرب رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في تيغراي.
وأكدت منصة الاستقصاء المفتوحة المصدر "بيلنجكات"، وجود طائرات بدون طيار صينية الصنع في القاعدة العسكرية الإماراتية بمدينة عصب الإريترية.
وينقل موقع "مدى مصر" عن ثلاثة مسؤولين مصريين ودبلوماسي أوروبي مطّلع على شؤون القرن الإفريقي، قوله إن الإمارات استخدمت قاعدتها في إريتريا لإطلاق طائرات مُسيرة، شنت هجمات ضد تيغراي، مع تقديم الدعم عبر الحدود للجيش الإثيوبي.
كما ضغطت الإمارات على إريتريا لدعم آبي أحمد، وفقاً للمصادر نفسها.
ووصل الدعم الإماراتي لآبي أحمد إلى مرحلة غير متوقعة، فبعد تلويح السيسي بتنفيذ عمل عسكري ضد إثيوبيا، وإعلان العديد من الدول العربية دعمها لمصر في أزمة سد النهضة، قامت أبوظبي بالإعلان عن إرسال مساعدات لأديس أبابا، لمواجهة الأزمة الإنسانية في تيغراي، حسب قولها.
ووسط كل هذه الفوضى يقف آبي، وفي كل خطوة يخطوها يرتكب حماقة، حسب تعبير الموقع الأمريكي.
فلقد أعطى وعوداً لا يمكنه الإيفاء بها، ونقل صورة خاطئة عن الواقع، وصنع أعداءً دونما داعٍ، وحاصر نفسه في تحالفات خطيرة. ومن دعموا خطابه يوماً عن الإصلاح وصنع السلام يبدون ساذجين في أحسن الأحوال، وهو لا يساهم في التوصل إلى توافق، وإنما في الاستقطاب.
ولعل ما يهم الفريق الدبلوماسي الأمريكي القادم أكثر من غيره هو أن الزعيم الإثيوبي أظهر مزيجاً من الغطرسة وسوء التقدير، يجعله محاوراً لا يمكن الوثوق به، (حسب الموقع الأمريكي) وهو يجلس على قمة بلد هش يبلغ عدد سكانه 110 ملايين نسمة، ويقع في منطقة مضطربة.