قالت مصر إنها تعول على روسيا للتدخل في أزمة سد النهضة المحتدمة مع إثيوبيا، فما مدى قدرة موسكو على التصدي لتعنت أديس أبابا؟ وهل روسيا راغبة بالفعل في التدخل في الملف الذي يهدد استقرار المنطقة؟
كانت أزمة سد النهضة بين مصر والسودان من جهة وإثيوبيا من جهة أخرى قد وصلت إلى طريق مسدود بعد فشل جولة المفاوضات الأخيرة في كينشاسا عاصمة جمهورية الكونغو الديمقراطية التي تتولى رئاسة الاتحاد الإفريقي راعي المفاوضات، في التوصل لاتفاق قانوني ملزم تطالب به القاهرة والخرطوم وترفضه أديس أبابا.
وسبق تلك الجولة تهديد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي يوم 30 مارس/ آذار بأن حصة مصر من مياه النيل "خط أحمر" وأن أي مساس بها يهدد استقرار المنطقة ككل لأن جميع الخيارات مفتوحة أمام القاهرة للحفاظ على حقوقها، كما وصفت مصر جولة كينشاسا بأنها الفرصة الأخيرة للتوصل لاتفاق قبل الملء الثاني للسد الذي تستعد إثيوبيا للبدء فيه خلال يوليو/ تموز المقبل.
وفي هذه الأجواء جاءت الدعوة المصرية للتدخل الروسي على لسان وزير الخارجية سامح شكري خلال مؤتمر صحفي مشترك عقده مع نظيره الروسي سيرغي لافاروف في القاهرة الاثنين 12 أبريل/ نيسان، حيث قال شكري أن القاهرة "تعول على قدرة روسيا في الدفع نحو وقف الإجراءات الأحادية من جانب إثيوبيا في ملف سد النهضة".
ورد لافاروف مؤكداً على موقف بلاده الثابت والمتمثل في "رفض المساس بالحقوق المائية التاريخية لمصر في مياه النيل، ورفض الإجراءات الأحادية في هذا الصدد"، معرباً عن التقدير لما وصفه بـ"الجهود الحثيثة والمخلصة التي تبذلها مصر في هذا الإطار"، وعن تطلع موسكو إلى "التوصل إلى حل يحقق مصالح الأطراف كافة، من خلال المفاوضات في أقرب وقت ممكن".
لماذا طلبت مصر تدخل روسيا؟
لا تعتبر روسيا غريبة عن أزمة سد النهضة، فقد عرض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالفعل المساعدة لتقريب وجهات النظر بين القاهرة وأديس أبابا في هذا الملف الشائك، وكان ذلك في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2019، خلال القمة الروسية الإفريقية التي عُقدت في مدينة سوتشي الروسية، وشهدت لقاءات مباشرة بين الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، بالإضافة إلى لقاءات بين السيسي وبوتين وآبي أحمد وبوتين تناولت نفس الملف.
لكن يمكن القول إن مياهاً كثيرة قد جرت في النهر منذ تلك القمة في سوتشي، واليوم وصلت الأمور إلى نقطة حاسمة تهدد الاستقرار في المنطقة بأسرها، حسب وصف الرئيس المصري خلال لقائه لافاروف، الإثنين 12 أبريل/نيسان الجاري، في ظل إصرار أديس أبابا على تنفيذ الملء الثاني للسد، في يوليو/تموز المقبل، دون التوصل لاتفاق قانوني ملزم بشأن تعبئة وتشغيل السد العملاق، وهو ما ترفضه دولتا المصب مصر والسودان.
وفي هذا السياق يأتي الطلب المصري من روسيا التدخل في الملف، في ظل ما تصفه مصر بالتعنت الإثيوبي في المفاوضات، على أمل أن تتمكن موسكو من خلال علاقاتها القوية لدى أطراف النزاع، من إقناع الجانب الإثيوبي بتغيير موقفه والتوصل لاتفاق يراعي المخاوف المصرية من التأثير السلبي على حصة مصر التاريخية من مياه نهر النيل.
هل تمتلك روسيا أوراقاً للضغط على إثيوبيا؟
كانت روسيا القيصرية تتمتع بعلاقات وثيقة مع إثيوبيا، وامتدت تلك العلاقات الاقتصادية والعسكرية أثناء الاتحاد السوفييتي حتى انهياره مطلع تسعينيات القرن الماضي، ومؤخراً وضع الرئيس فلاديمير بوتين نصب عينية استعادة الأمجاد الروسية في إفريقيا، وهو ما نجح فيه بشكل واضح تماماً من خلال القمة الروسية-الإفريقية في سوتشي، أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2019، حيث تجمع 50 زعيماً إفريقياً في ضيافة بوتين.
واستبق بوتين القمة بإسقاط الديون الروسية لدى إثيوبيا بشكل كامل، بموجب مبادرة إسقاط الديون للمساهمة في تنمية إفريقيا، وهو ما تم البناء عليه بالفعل من وقتها حتى اليوم، حيث ارتفعت الاستثمارات الروسية في أديس أبابا بصورة لافتة عكستها زيارة وفد ضخم من المستثمرين الروس إلى أديس أبابا، في فبراير/شباط الماضي، لتوقيع اتفاقيات للاستثمار في مجالات الطاقة والتكنولوجيا والتجارة.
وعلى الجانب الآخر تتمتع روسيا بعلاقات اقتصادية وعسكرية متصاعدة مع مصر أيضاً، عكستها تصريحات المتحدث باسم الرئاسة المصرية بشأن لقاء لافاروف والسيسي، والذي قال عنه المتحدث إنه تناول عدداً من الموضوعات المتعلقة بالعلاقات الثنائية بين البلدين، ومنها التعاون على الصعيدين العسكرى والأمني، بما فيه آلية التعاون المشترك في مجال الأمن ومكافحة الإرهاب على مستوى الأجهزة المعنية، بالإضافة إلى الجهود المشتركة لاستئناف الرحلات الجوية الروسية إلى مصر والمشاورات الجارية في هذا الإطار، كذلك مشروع محطة الضبعة النووية، والإعداد للدورة القادمة للجنة الاقتصادية المشتركة، بحسب صحيفة الأهرام الحكومية.
المتحدث أكد أيضاً على حرص مصر على تعزيز علاقات الشراكة الممتدة مع روسيا، فى إطار التطور المستمر الذي تشهده تلك العلاقات، والذي تكلل بإبرام اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة، وتصديق البرلمان المصري عليها مؤخراً، لافتاً إلى أن الاتفاقية تفتح آفاقاً جديدة رحبة للتعاون الثنائي بين البلدين الصديقين، في العديد من المجالات والمشروعات المشتركة، بالإضافة إلى تلك الجاري تنفيذها، خاصة مشروع إنشاء المنطقة الصناعية الروسية في شرق بورسعيد، ومشروع إنشاء محطة الضبعة لتوليد الكهرباء بالطاقة النووية.
روسيا إذن تمتلك استثمارات ضخمة في كل من مصر وإثيوبيا، ومن مصلحتها ألا تنزلق أزمة سد النهضة إلى مواجهة عسكرية بين البلدين، تهدد تلك الاستثمارات، كما تهدد الاستقرار في منطقة ترى فيها موسكو ملعباً مناسباً للتأكيد على استعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي المنهار، في ظل التوتر المتنامي في العلاقات الروسية مع الغرب، وحاجة موسكو للتأكيد على دورها على المسرح السياسي العالمي.
هل تمتلك روسيا فرصة لإحداث انفراجة في أزمة السد؟
الإجابة عن هذا السؤال تنقسم إلى شقين رئيسيين، الأول يتعلق بامتلاك موسكو أوراقاً للضغط، وهو ما يبدو متوفراً بالفعل، والشق الثاني يتعلق أيضاً بتوفر الإرادة السياسية لدى الروس للتدخل بقوة ومنع انزلاق أزمة السد إلى ما قد يتسبب في الفوضى في المنطقة، وهو ما يبدو متوفراً أيضاً.
لكن العقبة الرئيسية وراء نجاح الوساطة الروسية في ملف سد النهضة تتمثل بالأساس في الجانب الإثيوبي وآبي أحمد بالتحديد، وهذا ما كشفت عنه الجولات الماراثونية من المفاوضات التي بات واضحاً أن هدف إثيوبيا منها لم يكن سوى إضاعة الوقت للوصول إلى إكمال تشييد السد والبدء في مراحل تعبئته، لفرض أمر واقع لا يمكن تغييره ببساطة.
والدليل الواضح على هذه النية الإثيوبية هو جولات مفاوضات واشنطن التي رعتها الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة دونالد ترامب، منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2019، وحتى فبراير/شباط 2020، وتم التوصل خلالها بالفعل إلى اتفاق أبدت أديس أبابا موافقتها عليه بصورة مبدئية، ثم انسحبت من جولة التوقيع وأعلنت رفضها للاتفاق، وهو ما أصاب ترامب بالانزعاج من الموقف الإثيوبي، وقال تصريحه الشهير بأنه "لن يكون متفاجئاً إذا ما أقدمت مصر على توجيه ضربة عسكرية للسد".
ويرى كثير من المراقبين أن هذه النقطة بالتحديد -فشل واشنطن في حل أزمة السد- تُمثل حافزاً إضافياً للجانب الروسي لقبول الدعوة المصرية للتدخل في المفاوضات، التي وصلت لطريق مسدود، فنجاح موسكو فيما فشلت فيه واشنطن وفي ملف بمثل هذه الأهمية يمثل انتصاراً دبلوماسياً ضخماً للرئيس فلاديمير بوتين، يحتاجه بشدة داخلياً وخارجياً في هذا التوقيت.
وقد كان لافاروف واضحاً في تصريحاته، عندما قال إن بلاده تولي "تطورات ملف سد النهضة اهتماماً كبيراً، كما تتطلع إلى استمرار الحوار بين الدول الثلاث، بشأن الوصول إلى اتفاق مُرضٍ لجميع الأطراف"، مضيفاً: "نحن مقتنعون بأن هناك حلاً لأزمة سد النهضة يضمن المصالح الشرعية للدول الثلاث".
وفي ظل رغبة مصر في التوصل لاتفاق قانوني ملزم مع إثيوبيا بشأن السد، للخروج من كارثة إعلان المبادئ الذي وقعه الرئيس المصري مع الجانب الإثيوبي والسوداني في الخرطوم، في مارس/آذار 2015، وأعطى الضوء الأخضر لأديس أبابا للتعامل مع ملف المياه كأنها ملكية خاصة، وأوصل الأمور لما وصلت إليه من انسداد تام في المفاوضات، تمتلك روسيا فرصة سانحة في محاولة إقناع إثيوبيا للتخفيف من موقفها المتشدد بحسب بعض المراقبين.
لكن على الجانب الآخر تبدو فرصة حدوث انفراجة في أزمة السد ضئيلة للغاية، لعدة أسباب، أبرزها ضيق الوقت قبل بدء الملء الثاني، إضافة إلى تحول الملف برمته إلى رمز للكرامة الوطنية في أديس أبابا والقاهرة، وليس فقط قضية مياه، وهذا ما عكسته البيانات الأخيرة الصادرة عن إثيوبيا.
ففي مقال نشرته الخارجية الإثيوبية على موقعها، الإثنين 12 أبريل/نيسان، أشارت أديس أبابا إلى أن "العالم الآن يرى قيادة مصر والسودان في وضع الترويج للحرب وتهديد إثيوبيا بأن جميع خياراتهما مطروحة على الطاولة، لكن هناك مقولة عربية تقول "الهنجمة نصف القتال"، (مثل يراد به أن تتحدث عن نفسك وعن قوتك كثيراً قبل الدخول في معركة) لكن في إثيوبيا لدينا مقولة مختلفة مفادها أنك لا تموت من الخوف، بل تموت أثناء القتال، لذا فإن إثيوبيا لديها أيضاً جميع خياراتها على الطاولة".
ويأتي هذا رداً على تهديدات الرئيس المصري بأن المياه بالنسبة لمصر "خط أحمر"، وأن جميع الخيارات مفتوحة، وهو ما يجعل الوساطة الروسية التي طلبتها مصر تواجه مهمة شبه مستحيلة لإقناع الإثيوبيين بتأجيل الملء الثاني حتى التوصل لاتفاق، لكن تظل الأمور مفتوحة على جميع الاحتمالات.