مع اشتداد الأزمة الأوكرانية يبدو أن الخفي في أسباب التوتر بين روسيا وأوكرانيا أكبر من المعلن، وأن الأمر مرتبط بالصراع الأمريكي الروسي، إضافة إلى التغييرات التي تشهدها أوكرانيا منذ سنوات.
وتتهم كل أوكرانيا وحلف شمال الأطلنطي "الناتو" روسيا بحشد قواتها على الحدود بما يثير المخاوف من عمل عسكري على غرار ما حدث في عام 2014 عندما ردت روسيا على عزل الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش الموالي لها بعمل عسكري أدى إلى ضم شبه جزيرة القرم، وانفصال فعلي لإقليمين في شرق أوكرانيا.
في المقابل تتهم روسيا كييف بتوتير الأجواء إقليم دونباس شرق البلاد، وهددت أوكرانيا بـ"التدمير".
كما حذرت روسيا حلف شمال الأطلسي (الناتو) من إرسال قوات لمساعدة أوكرانيا، وذلك وسط تقارير تشير إلى احتشاد قوات من الجيش الروسي على الحدود؛ ما دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى التعهد بالوقوف إلى جانب كييف في حالة إقدام روسيا على أي "اعتداء" عليها.
وبدأت الأزمة الأوكرانية في 21 نوفمبر/شباط 2013، عندما علق الرئيس يانوكوفيتش الموالي لموسكو الاستعدادات لتنفيذ اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وهو ما أدى إلى احتجاجات أطاحت به ما تسبب في اضطرابات في المناطق الشرقية والجنوبية الناطقة بالروسية المؤيدة له، فاستغل بوتين ذلك وتدخل لضم القرم وتشجيع انفصال إقليمين بشرق أوكرانيا.
ماذا يحدث على الأرض؟
تقاتل القوات الأوكرانية القوات الانفصالية المدعومة من روسيا في صراع منخفض الكثافة تقول كييف إنه قتل 14 ألف شخص منذ 2014.
وكثيراً ما تبادلت موسكو وكييف الاتهامات بالتقاعس عن تنفيذ اتفاق السلام بشأن دونباس.
في الشهر الماضي، أجرت روسيا تدريبات عسكرية في شبه جزيرة القرم بالبحر الأسود، التي أعلنت موسكو ضمها في مارس/آذار 2014.
كما شهدت الأشهر الأخيرة تفاقم حدة الاشتباكات بين القوات الأوكرانية والمتمردين الذين تدعمهم موسكو داخل منطقة دونباس.
وارتفع عدد القتلى خلال العام الجاري بمقتل جندي أوكراني آخر يوم الخميس، إلى 25 قتيلاً، وكان العام الماضي وحده قد شهد مقتل 50 جندياً أوكرانياً.
وحذر ديمتري كوزاك، المسؤول في الرئاسة الروسية، من أن أي تصعيد يمكن أن يمثل "بداية النهاية" لأوكرانيا، و"ليس رصاصة في الساق، لكن في الوجه"، حسب تعبيره.
وتنفي الحكومة في كييف الاتهامات الروسية بأنها تخطط لشن هجوم جديد ضد الانفصاليين شرق البلاد، حسبما ورد في تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية.
ويعتمد المتمردون الأوكرانيون في إقليم دونباس، شرقي أوكرانيا، على مساعدات من روسيا. وقالت حكومات غربية إن روسيا نشرت قوات نظامية هناك بالإضافة إلى أسلحة ثقيلة. لكن الكرملين نفى ذلك، زاعماً أن "متطوعين" من الروس يساعدون المتمردين، الذين يسيطرون على مساحات كبيرة من دونيتسك ولوهانسك منذ أبريل/نيسان 2014.
وقال الجنرال رسلان خومتشاك، قائد الجيش الأوكراني، إن روسيا نشرت 28 كتيبة تكتيكية بالقرب من الحدود الشرقية لأوكرانيا وفي إقليم القرم، لكن لم يصدر تأكيد رسمي من قبل مسؤولين روس لهذا التحرك أو لأعداد القوات.
وأشار خومتشاك إلى أن روسيا لديها حوالي 3000 ضابط وخبير عسكري يعملون في إطار وحدات المتمردين في شرقي أوكرانيا.
أسباب التوتر بين روسيا وأوكرانيا ولماذا تصاعد مؤخراً؟
قلق من التغييرات في كييف.. محاولة تقوية الجيش
يمكن القول إن القلق الروسي من الوضع في أوكرانيا، بدأ قبل فترة، حتى لو لم يظهر بشكل سافر إلا مؤخراً.
فأحد أسباب التوتر بين روسيا وأوكرانيا، وهو أنه منذ تولي الرئيس الأوكراني الحالي فلاديمير زيلينسكي السلطة وهو يتبنى خطاباً قومياً قوياً ضد روسيا ويحاول بناء القوات المسلحة الأوكرانية، ويتعهد بإعادة الأراضي المحتلة من بلاده.
وفي هذا الإطار، تعد تركيا واحدة من أبرز الدول التي تتعاون مع أوكرانيا في مجال الصناعات العسكرية حيث باعت لكييف طائرات بدون طيار وسفناً حربية وهناك مشروعات لإنتاج صواريخ كروز بينهما، مقابل تزويد كييف لأنقرة بمحركات لأسلحتها.
فرض قيود على اللغة الروسية وحملة ضد صديق بوتين
فرضت أوكرانيا مؤخراً قيود كبيرة على اللغة الروسية التي يتكلم بها نسبة كبيرة من خاصة في الشرق والجنوب (وإلى حد ما الشمال)، حيث يعتقد أنه في عام 2001 كان نحو 30% من السكان يتكلمون الروسية، كلغة أولى.
وهناك ما يقرب من ثمانية ملايين من أصل روسي يعيشون في أوكرانيا، وفقاً لتعداد عام 2001، معظمهم في الجنوب والشرق
ومنعت أوكرانيا استخدام اللغة الروسية في مجال الخدمات، وفرضت غرامة على المخالفين، حسبما ورد في موقع RT الروسي.
واتخذ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ما يعتبره الكثيرون في روسيا موقفاً أكثر تشدداً مؤخراً من خلال إغلاق المحطات التلفزيونية الصديقة للكرملين، حسب وكالة بلومبرغ الأمريكية.
كما أن هناك حملة بسبب حملة في أوكرانيا تستهدف رجل أعمال بارزاً مقرباً من روسيا.
وكان بوتين قد برر ضمّه لشبه جزيرة القرم ودعمه للمقاتلين في شرق أوكرانيا عام 2014 بالقول إنه يجب أن يدافع عن المتحدثين بالروسية أينما كانوا.
وصعد بوتين من الحديث عن التهديدات التي يتعرض لها المتحدثين بالروسية، لدرجة أنه أشار في عام 2019 إلى احتمال تعرض السكان الناطقين بالروسية لمذبحة مماثلة لسربرنيتسا في البوسنة، إذا استعادت أوكرانيا السيطرة الكاملة على منطقة دونباس دون ضمانات، مهدداً بالتدخل في هذه الحالة.
التحرك الأمريكي الأوكراني ضد خط غاز السيل الشمالي
من بين أسباب التوتر بين روسيا وأوكرانيا مصير خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2 (السيل الشمالي 2) إلى ألمانيا، والذي تريد كييف وواشنطن إيقافه.
في أوائل عام 2020، كانت روسيا على وشك الانتهاء من خط أنابيب نورد ستريم 2، وهو خط أنابيب غاز يمر عبر بحر البلطيق حذر البعض من أنه قد يحرم أوكرانيا من الإيرادات الأساسية للغاز الروسي.
ومع ذلك، تعاقدت روسيا لمواصلة نقل الغاز عبر أوكرانيا لعدة سنوات أخرى.
واكتسبت الحملة ضد هذا الخط الذي كانت ألمانيا أكثر بلدان أوروبا حماساً له زخماً بعد وصول بايدن للسلطة.
رسالة لبايدن
مع وصول العلاقات الروسية الأمريكية لأسوأ مستوى لها منذ سنوات عقب وصول بايدن للسلطة ووصفه لبوتين بأنه قاتل، وتوجهه لتعزيز المواقف الأمريكية ضد روسيا.
وهناك اتفاق بين المحللين على أن أوكرانيا هي أحد نقاط الضعف التي يمكن أن تستغلها روسيا ضد الغرب.
ومن هنا يمكن القول إنه هناك أسباب قديمة تدفع روسيا للتصعيد في أوكرانيا سبق الإشارة إليها بعضها مرتبط بتطورات الوضع الأوكراني، ولكن مع مجيء بايدن أصبح لدى بوتين مزيد من الحوافز للعب بالورقة الأوكرانية خاصة بعد توعد أمريكا بالثأر من التدخل الروسي الأخير في انتخاباتها الرئاسية وهو ما عزز مخاوف بوتين من محاولة الغرب فرض مزيد العقوبات على موسكو والتلاعب بورقة المعارضة الروسية الداخلية.
الناتو.. خط أحمر
يزيد الأمر حساسية بالنسبة بوتين أن مواقف بايدن المعادية لروسيا والتي تحاول استعادة الغرب ضدها، قد تشجعه على قبول طلب الرئيس الأوكراني القوية بانضمام بلاده للناتو.
وهي مسألة تمثل خطاً أحمر بالنسبة لروسيا التي تعتبر أوكرانيا جزءاً من دائرة نفوذها الطبيعي ومجالاً لأمنها القومي، بل إنها تعتبر أوكرانيا موطن نشأة الأمة الروسية، إضافة إلى وجود أقلية كبيرة من الأوكرانيين الروس أو الأوكرانيين المروسين في البلاد.
وأوضح بوتين مراراً وتكراراً أنه يرى طموح أوكرانيا للانضمام إلى منظمة حلف شمال الأطلسي باعتباره تهديداً وجودياً.
ولا يرى الرئيس الروسي أي سبب لتقديم تنازلات الآن بعد سنوات من الضغط من الولايات المتحدة وأوروبا بشأن هذه القضية.
الرغبة في ضم مزيد من الأراضي الأوكرانية
هناك نظرية أخرى يعتقد البعض أنها تفسر تصرفات بوتين الأخيرة وهي إن سكان القرم يعانون من نقص مزمن في المياه.
يتكهن البعض بأن روسيا قد تعالج هذه المشكلة من خلال الاستيلاء في المناطق الأوكرانية القريبة من القرم التي لم تخضع لسيطرتها بعد والتي يتوفر بها إمدادات للمياه، حسب Bloomberg.
وفي السابق، كانت أوكرانيا تخشى أن تسعى جارتها إلى إنشاء جسر بري بين شبه جزيرة القرم وروسيا من خلال هجوم عسكري أوسع يستولي خلاله على مزيد من المناطق الأوكرانية. لكن بوتين أنفق المليارات على البنية التحتية لربط القرم بروسيا منذ قتال 2014، وهو ما يقلل من احتمالات هذه النظرية.
الحل على الطريقة البوتينية
أنهى اتفاق سلام أبرم عام 2015 أكثر المعارك دموية في الصراع، لكن الشروط لم يتم الوفاء بها بالكامل، ولا يزال الحل الدائم بعيد المنال.
وعلى الرغم من تعهّد الرئيس الأوكراني بإحلال سلام دائم، فإنه في الواقع لا يملك سوى مساحة صغيرة للمناورة.
إذ يريد الكرملين أن تحصل المناطق المضطربة الشرقية ذات الأغلبية الروسية على حكم ذاتي يمنحها حق النقض (الفيتو) على التحولات الرئيسية في توجه أوكرانيا، أي أن يكون بمقدورها منع التوجه نحو الغرب سواء انضمام كييف الاتحاد الأوروبي أو الناتو وهو توجه مدعوم بأغلبية كبيرة من سكان أوكرانيا البالغ عددهم 42 مليون نسمة.
لكن منح المناطق مثل هذه الصلاحيات سيكون بمثابة انتحار سياسي لزيلينسكي، الذي يكافح بالفعل لترويض وباء كورونا والوفاء بوعود أخرى، مثل الحد من الفساد.
محاولة ابتزاز الغرب.. هل تتحول إلى حرب؟
يعتقد المحلل العسكري الروسي ألكسندر غولتس أن أنشطة روسيا استعراضية بطبيعتها.
وينقل موقع دويتشه فيله (DW) عن غولتس قوله: "كانت روسيا بحاجة إلى وسيلة جديدة لممارسة الضغط على الغرب" والتهديد بشن حرب ضد أوكرانيا هو أحد السبل للقيام بذلك.
ويقول: "إنه لا يعتقد أنه سيكون هناك أي نشاط عسكري في منطقة دونباس قبل منتصف مايو/أيار بسبب طبيعة التضاريس، إذ من غير الممكن شن هجوم هناك قبل أن تجف السهوب (يؤدي ذوبان الجليد إلى تشبعها بالمياه).
ويقول فولوديمير فيسينكو، رئيس مركز بنتا للدراسات السياسية التطبيقية في كييف، إن موسكو تحاول إجبار الحكومة الأوكرانية على تقديم تنازلات في المفاوضات بشأن دونباس، ويفترض الخبير السياسي أن روسيا تأمل في أن يؤدي هذا النهج أيضاً إلى جولة جديدة من المفاوضات مع الغرب، كذلك.
ويضيف: "إن الكرملين قلق بشأن العقوبات الغربية ، بما في ذلك تلك التي تستهدف خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2".
أما ميخايلو ساموس، من مركز كييف لدراسات الجيش والتحول ونزع السلاح، مقتنع بأن موسكو كانت تستعد منذ فترة طويلة للغزو وبدأت بالفعل في تركيز.
ويضيف: "لقد أنشأت روسيا فعلياً ثلاثة جيوش جديدة تطوق أوكرانيا". وقال إنه تم إرسال ست غواصات مسلحة بصواريخ كاليبر كروز – القادرة على حمل رؤوس حربية نووية – إلى شبه جزيرة القرم.
لكن ساموس لا يعتقد أن بوتين سوف يجرؤ على الانخراط في تصعيد مفتوح. ويقول إن الرئيس الروسي يفضل الاستفزاز من خلال "القوات الهجينة بالوكالة"، أي من خلال الحلفاء أو عبر الهجمات الإلكترونية أو الدعائية.
ما التطورات المتوقعة؟
يرى معظم المراقبين أن احتمال اندلاع حرب واسعة هو احتمال ضئيل.
لكن يحذر تقرير Bloomberg من أن مصدر القلق الرئيسي هو أنه إذ أخطأ أحد الأطراف في الحسابات، ما يؤدي إلى نوع من القتال المفتوح.
ورغم تعهدات الغرب لأوكرانيا بدعمها، فإنه لا يمكن تخيل أن أي دولة غربية سوف تدخل في مواجهة مع روسيا قد تطور لحرب نووية، من أجل أوكرانيا.
ما الذي يمكن أن يفعله الغرب حيال الأزمة الأوكرانية؟
لقد فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة بالفعل عدة جولات من العقوبات التي تستهدف الأفراد الروس، فضلاً عن قطاعي الطاقة والبنوك في البلاد.
وبينما يقول الكرملين إن مثل هذه الإجراءات ليس لها أي تأثير، فقد أصيب الاقتصاد الروسي بالركود، يجادل بعض المسؤولين الغربيين بأنه يمكن تحقيق المزيد من خلال فرض تدابير إضافية.
ربما تكون الأداة الأكثر فاعلية هي فرض حظر أمريكي على امتلاك الديون السيادية الروسية، وهو ما تمت مناقشته في واشنطن. وتشمل الأدوات الأخرى جعل الحياة أكثر صعوبة بالنسبة للمليارديرات الروس الذين أصبحوا أغنياء في ظل حكم بوتين.
أما عسكرياً، لم تتلقّ محاولات أوكرانيا لكسب التأييد الغربي لعضوية الناتو سوى رد فاتر حتى الآن.