بعد نحو 70 عاماً من الحلم، أصبح استغلال أحد أكبر 3 مناجم حديد في العالم من حيث الاحتياطي جاهزاً للاستغلال، عقب توقيع الجزائر مع ائتلاف مكون من ثلاث شركات صينية اتفاقاً لاستغلال الحديد من منجم غار جبيلات (جنوب غرب).
ففي 30 مارس/آذار المنصرم، وقّعت المؤسسة الجزائرية للحديد والصلب "فيرال" مذكرة تفاهم مع ائتلاف صيني، المشكل من مؤسسات "سي دابليو آي"، "إم سي سي"، و"هايداي سولار"، لاستغلال منجم غار جبيلات، وصفها وزير الطاقة والمناجم الجزائري محمد عرقاب بـ"التاريخي".
وتبلغ احتياطات منجم غار جبيلات (المؤكدة) 3.5 مليار طن، منها 1.7 مليار طن يمكن استخراجها، وبتركيز عال يصل إلى 57% من الحديد.
وتستحوذ الجزائر على 2% من الاحتياطي العالمي للحديد، بفضل منجم غار جبيلات، لكن هناك عدة مناجم حديد أخرى مستغلة على غرار منجمي الونزة وبوخضرة (شرق)، اللذين يبلغ احتياطهما معاً 70 مليون طن.
كما أنها سهلة الاستغلال لوقوعها على سطح الأرض، ولا تحتاج للحفر في أعماق الأرض للوصول إليها، ما يقلص التكلفة.
هل يحرر الحديد الجزائر من عبودية النفط؟
بعد أن تراجعت مداخيل الجزائر من النفط والغاز في 2020 إلى 22 مليار دولار فقط نزولاً من 65 مليار دولار في 2013، التفتت إلى ثرواتها المنجمية الهائلة وغير المستغلة في معظمها.
وأحد أهم هذه الثروات منجم غار جبيلات للحديد، الملقب بـ"العملاق النائم"، والذي من المتوقع أن يوفر مداخيل سنوية بمليارات الدولارات، خاصة بعد الانتهاء من مراحله الثلاث في آفاق 2025، بما فيها إنشاء مركب ضخم لصناعة الحديد والصلب، لزيادة القيمة المضافة لخام الحديد، وتحقيق أرباح أكبر.
وتسعى الجزائر لاستخراج 12 مليون طن سنوياً من الحديد الخام، لتموين مصانع الحديد والصلب المحلية، وأيضاً تصدير جزء منه إلى الخارج مع ارتفاع أسعاره إلى ما بين 100 و200 دولار للطن مطلع عام 2021.
وترتفع أسعار الحديد بعد تحويله إلى صلب ما بين 400 و500 دولار للطن، مع الأخذ في الاعتبار التقلبات الحادة للأسعار في السوق الدولية.
وتستورد أغلب مصانع الحديد والصلب في الجزائر معظم المادة الخام من الخارج، خاصة مع ازدهار الاستثمارات الأجنبية والخاصة في هذا القطاع، على غرار شركة توسيالي في مدينة وهران (غرب)، والاستثمارات القطرية في بلارة بولاية جيجل (شرق).
فالجزائر من المتوقع أن تستورد في آفاق 2025 نحو 25 مليون طن من الحديد الخام لتموين مصانعها، بحسب محمد صخر حرامي، المدير العام لمجمع "منال" (حكومي)، ما يجعل استغلال الاحتياطات الضخمة لمنجم غار جبيلات أكثر من ضرورة.
حيث من المرتقب أن توفر الجزائر 2 مليار دولار سنوياً، لدى التوقف التام عن استيراد خام الحديد، ناهيك عن إمكانية التصدير، بحسب عرقاب.
لكن بعض التقديرات المفرطة في التفاؤل ترى أن مداخيل منجم غار جبيلات الإجمالية بعد الانتهاء من كامل مراحل الإنتاج قد تصل ما بين 10 و20 مليار دولار سنوياً، إذا تم تصديره في شكل حديد صلب، وبكميات مضاعفة، ما سيقلص بشكل هام اعتمادها على مداخيل النفط.
لذلك يشكل قطاع المناجم خياراً استراتيجياً للتحرر من عبودية النفط، خاصة مع سعي الجزائر لضخ مزيد من الاستثمارات في هذا القطاع، على غرار استخراج الفوسفات في شرق البلاد، والذهب والأتربة النادرة بجبال الهوقار، في أقصى الجنوب، وأيضاً الزنك في بجاية (شمال).
تقليص التكلفة من 20 مليار إلى مليارَيْ دولار
إحدى العقبات الرئيسية التي حالت دون استغلال منجم غار جبيلات منذ 1953 تكلفته العالية، التي قُدرت ما بين 10 و20 مليار دولار، وكان من الصعب توفير كل هذا المبلغ في ظل الأزمة المالية التي تعانيها البلاد مع تراجع مداخيل النفط.
لذلك لجأت الجزائر إلى خيار الشراكة مع الصين، التي تعد أكبر منتج للحديد الخام والصلب، وتملك شركاتها الخبرة والتكنولوجيا في هذا الميدان.
وسمحت الدراسات الأخيرة التي أُجريت بتقليص حجم استثمارات استغلال منجم غار جبيلات، التي قد لا تتجاوز 2 مليار دولار فقط، بحسب الوزير عرقاب.
ويتقاسم الطرفان الجزائري والصيني تكلفة الاستثمار وفق قاعدة 51/49%.
إذ إن المنجم الذي يبعد بنحو 1600 كلم عن أقرب ميناء تصدير (وهران)، يحتاج إلى ربطه فقط بمحطة السكة الحديدية في بلدة العبادلة بولاية بشار المجاورة (نحو 950 كلم)، حيث سيتم إنشاء محطة للطاقة الشمسية لتموين خط سكة حديدية كهربائية، ما يسمح بتخفيض تكلفة المشروع.
ومن المرتقب أن يتم نقل الحديد المستخرج إلى ميناء مستغانم (غرب) بدلاً من ميناء وهران، كما كان مرجحاً في السابق، وتصديرها إلى الخارج أو نقلها إلى ميناء جنجن بجيجل (نحو 700 كلم)، لتموين مصنع بلارة للحديد والصلب المقام بشراكة مع قطر، أو إلى ميناء وهران لتموين مصنع توسيالي التركي، بينما يتم إمداد مركب الحجار الضخم بخام الحديد المستخرج من منجمي الونزة وبوخضرة.
كما أن المشروع سيمول نفسه بمجرد الانتهاء من المرحلة الأولى المقررة ما بين 2022 و2023، ما يعني أن التكلفة النهائية ستتجاوز ملياري دولار، خاصة عند إنشاء المركب الضخم للحديد والصلب في 2025.
تقليص نسبة الفسفور وتوفير الغاز والمياه
إحدى المشاكل التقنية التي عقّدت استغلال منجم غار جبيلات طيلة عقود، وجود نسبة عالية من الفوسفور في خام الحديد تصل إلى 3%، بينما لا يجب أن تتجاوز هذه النسبة 0.5% لتحويله إلى صلب.
لكن شركة صينية مع مراكز بحثية وجامعات صينية تمكنوا، بعد تجارب صناعية، من تخفيض درجة الفوسفور في حديد غار جبيلات، بشكل "يمكن استخدامه في خط تكوير الحبيبات ومسحوق الحديد المختزل مسبقاً، المعبأ في شكل قوالب، والذي يمكن استخدامه كبديل أو مكمل لخردة الحديد"، بحسب الإذاعة الجزائرية.
ويواجه المشروع مشكل المياه، بالنظر إلى أن استخراج خام الحديد وتحويله إلى صلب يتطلب كميات مياه كبيرة، بينما تعتبر ولاية تيندوف منطقة صحراوية جافة وليس فيها موارد مائية كافية سواء سطحية أو جوفية.
وفي هذا الصدد، كشف وزير الموارد المائية أرزقي براقي، أنه سيتم نقل المياه من من ولايتين مجاورتين إلى تيندوف، وهما أدرار وبشار، حيث أظهرت الدراسات أنهما يحتويان على مياه جوفية تلبي حاجيات المشروع.
وبخصوص التموين بالغاز الطبيعي لتشغيل مختلف مرافق المشروع وبالأخص المركب الذي سيتم إنشاؤه، فلا يشكل عائقاً كبيراً باعتبار أن الجزائر بلد مصدر للغاز.
غير أن الإشكال الذي طُرح قبل أعوام، كيفية نقل كميات كبيرة من الغاز من حقل حاسي الرمل بولاية الأغواط (وسط) إلى أقصى الجنوب الغربي على مسافة تزيد عن 1600 كلم.
المفاجأة وقعت في 2019، إذ لأول مرة يتم اكتشاف الغاز الطبيعي في ولاية تيندوف، بعد 10 سنوات من التنقيب دون نتائج.
كما أن ولاية أدرار المجاورة (الجنوب الغربي)، توجد بها حقول غاز مكتشفة حديثاً، ودخل بعضها الخدمة في 2017، وفي 2019 تمت أول عملية تصدير للغاز من الجنوب الغربي (حقول توات بأدرار) نحو أوروبا.
إذ تتركز معظم حقول الغاز الجزائري في الجنوب الشرقي (ورقلة وعين أميناس) وفي الوسط (حقل حاسي الرمل بالأغواط).
وسيساهم اكتشاف الغاز بتيندوف في تقليص تكلفة استخراج الحديد وتحويله، ويجعله أكثر جدوى من الناحية الاقتصادية.
تدريب اليد العاملة في قطاع المناجم
لا تملك الجزائر خبرة كبيرة في القطاع المنجمي رغم استغلالها عدة مناجم، أشهرها منجما الونزة وبوخضرة، ووجود ثلاث جامعات في كل من عنابة وتبسة وبجاية تدرس المناجم والمعادن.
إذ كان التركيز طيلة عقود على قطاع النفط والغاز، الذي تملك فيه الجزائر خبرة، مشهود لها فيها.
ومن العقبات التي قد تواجه المشروع في بداياته نقص العمالة المؤهلة، خاصة في الجنوب الغربي، الذي لا تنتشر به مناجم مستغلة بكثرة، باستثناء عدد قليل أشهرها منجم الفحم بمنطقة القنادسة (بشار).
والشراكة مع الصينيين في استغلال منجم غار جبيلات، من شأنه نقل الخبرة إلى الجزائريين في قطاع المناجم، وتأهيل اليد العاملة، ما يساعد في تطوير هذا القطاع في كامل البلاد، خاصة في جبال الهوقار التي تحتوي على معادن نفيسة غير مستغلة ومعرضة للنهب.
ومن المرتقب أن يوفر مشروع غار جبيلات 3 آلاف منصب شغل مباشر خلال مرحلة الإنجاز، وآلاف مناصب الشغل غير المباشرة، بفضل تنشيط الحياة الاقتصادية بتيندوف، عبر فتح مرافق ومشاريع أخرى مرتبطة بالمنجم، مثل الفنادق والمطاعم ووسائل النقل المختلفة.
فمنجم غار جبيلات لا يبعد عن مدينة تيندوف سوى نحو 160 كلم، وبضعة كيلومترات فقط عن مخيم الداخلة للاجئين الصحراويين، ما يعني وفرة في اليد العاملة.
مع إمكانية إيفاد عمالة صينية متخصصة إلى البلاد، حيث يتواجد بالجزائر نحو 70 ألف عامل صيني يعملون في عدة قطاعات، خاصةً البناء والأشغال العمومية.
طريق الحرير الإفريقي
ويمثل مشروع غار جبيلات جزءاً من الاستثمارات الصينية العملاقة في الجزائر، التي تتجاوز مليار دولار، على غرار مشاريع استغلال الفوسفات شرق البلاد بـ6 مليارات دولار، وميناء الحمدانية بشرشال (شمال).
وكل هذه المشاريع يمكن إدراجها ضمن مشروع "طريق الحرير" الذي تتبناه الصين، إذ تعتبر الجزائر البوابة الرئيسية للصين نحو إفريقيا.
ومن المتوقع أن يتجاوز مشروع غار جبيلات الإطار الجزائري ليمتد نحو موريتانيا، المصنفة ثاني أكبر منتج للحديد الخام في القارة السمراء بعد جنوب إفريقيا.
ولا يبعد منجم غار جبيلات عن الحدود الموريتانية سوى 20 كلم، ونحو 800 كلم عن مناجم الحديد في منطقة الزويرات شمالي موريتانيا.
فموريتانيا استخرجت 12.5 مليون طن من الحديد الخام في 2020، لكن مداخيلها منه لم تتجاوز 564 مليون دولار، ويمكنها مضاعفة مداخيلها إذا ما تم تحويله إلى فولاذ بالشراكة مع الجزائر.
وهذا المشروع يتطلب ربط البلدين بسكك حديدية، لنقل الحديد الخام من الزويرات إلى تيندوف، مع إمكانية تصدير الحديد الصلب المنتج في تيندوف عبر ميناء نواذيبو الموريتاني (أكثر من 1200 كلم).
ورغم أن أقرب ميناء من منجم غار جبيلات يوجد في "الصحراء الغربية" المتنازع عليها بين المغرب والبوليساريو، ولا يبعد عنه سوى نحو 450 كلم، إلا أن الأوضاع السياسية والأمنية في المنطقة جعلت من الصعب ربط المنجم بميناء العيون، قبل تسوية هذا النزاع.
ويمكن للصين أن تلعب دوراً أساسياً في إنجاز هذا المشروع في إطار مشروع طريق الحرير، الذي سيمكنها من الوصول بسهولة إلى أسواق غرب إفريقيا، انطلاقاً من ميناء الحمدانية شمالي الجزائر وصولاً إلى ميناء نواذيبو شمالي موريتانيا، مروراً بشبكة من الطرقات والسكك الحديدية المنجزة أو التي سيتم إنجازها.