في ظل ما يصفه محللون بعالم جديد قيد التشكل عنوانه معسكر صيني وآخر أمريكي تسنح فرصة لإندونيسيا لتنمية شراكتها مع دول الخليج حتى لا تجد نفسها في موقف يحتم عليها الاختيار بين المعسكرين أو دفع جزء من فاتورة الحرب الباردة الجديدة.
والحديث هنا بالأساس يدور حول الوضع الاقتصادي للدولة الإسلامية الأكبر من حيث عدد السكان، إذ يبلغ تعداد إندونيسيا أكثر من 228 مليون نسمة، غالبيتهم من المسلمين، والتي تتمتع بالفعل بعلاقات جيدة مع دول مجلس التعاون الخليجي، لكن التصعيد بين الصين والولايات المتحدة يجعل تنمية تلك العلاقات ضرورة وليست ترفاً.
ففي ظل تصاعُد التنافس الأمريكي الصيني على إندونيسيا، وتسابقهما في تقديم الإغراءات لجاكرتا، في محاولة من كل طرف جذبها لناحيته، أصبح من الضرورة أن تسعى الدولة التي كانت مهداً لحركة عدم الانحياز خلال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، للنظر في خطط بديلة بشكل أكثر إلحاحاً.
وهذا ما رصده محمد ذو الفقار رحمت، المحاضر في العلاقات الدولية بـ"الجامعة الإسلامية الإندونيسية" (UII) في تقرير نشره موقع The Conversation الأسترالي، منطلقاً من حالة التوتر المستمرة بين الولايات المتحدة والصين والتنافس المحتدم اقتصادياً بينهما.
معسكر صيني وآخر أمريكي
الكاتب يرى أن ذلك التوتر المتصاعد بين القوتين الأبرز عالمياً يجب أن يشجّع إندونيسيا على إيجاد طرق لتقليص الاعتماد على بكين وواشنطن، ويمكن أن يبدأ هذا المسلك بالبحث عن تعزيز العلاقات السياسية والأمنية مع شركاء غير تقليديين.
فقد دفعت التوترات الأمريكية الصينية الأخيرة أكثر فأكثر نحو نهجٍ أشد حسماً لمصالحها وترسيخاً لوضعها في جنوب شرق آسيا، كما أن حالة انعدام الثقة بالولايات المتحدة بوصفها شريكاً أمنياً آخذةٌ في التنامي. وزاد على ذلك التدهور المستمر في العلاقات الاقتصادية بين الاقتصاديين الصيني والأمريكي، وما قد يعنيه ذلك من زيادة متواصلة في الرسوم الجمركية الأمريكية على الصين، ومن الجانب الصيني على الولايات المتحدة.
ويذهب بعض الخبراء إلى أن نهج الحمائية المتزايد من البلدين سيُفضي مع الوقت إلى تعطيل أي وصول واسع النطاق لبضائع جنوب شرق آسيا إلى السوق الأمريكية، بالإضافة إلى ذلك، فإن فك أواصر العلاقات بين الصين والولايات المتحدة من المحتمل أن ينتج عنه تكتُّلان تجاريان مختلفان: أحدهما بقيادة الصين والآخر بقيادة الولايات المتحدة.
احتمالٌ كهذا قد يُفاقم تعقيدَ الأمور على الشركات الإندونيسية فيما يتعلق بإجراء الأعمال التجارية أو الاستثمار في الصين والولايات المتحدة، كما يُجبرهم على أخذ العوامل السياسية بعين الاعتبار، لذلك فإن الخليج يمكن أن يكون بوابةً لإندونيسيا للابتعاد عن مداري الصين والولايات المتحدة. كما أنه يوفر سوقاً مربحاً وشريكاً استثمارياً.
وفي هذه العلاقة يمثل الطرفَ الخليجي مجلسُ التعاون الخليجي، وهو تكتل سياسي واقتصادي دولي بين حكومات دول الخليج التي تشمل البحرين والكويت وعمان وقطر والسعودية والإمارات، وبناء على ذلك رصد التقرير 4 مجالات، يمكن أن يعزز الالتفاتُ إليها التعاونَ بين إندونيسيا ودول مجلس التعاون الخليجي.
1. التجارة والاستثمار
تتمتع دول مجلس التعاون الخليجي وإندونيسيا بالفعل بعلاقات استثمارية جيدة، وقد تحسنت بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة، ويمكن التدليل على ذلك بزيادة التجارة بين إندونيسيا ودول الخليج بنسبة 40%، من 8.68 مليار دولار أمريكي في عام 2016 إلى 12.15 مليار دولار أمريكي في عام 2018، كما بلغت قيمة الواردات الإندونيسية من دول الخليج أكثر من 7.6 مليون دولار سنوياً، مع احتلال السعودية المرتبة 12 بين شركاء إندونيسيا التجاريين العالميين.
وفي السياق نفسه شهدت الاستثمارات البينية نمواً بنسبة 26%، من 60.3 مليون دولار في عام 2016 إلى 76.1 مليون دولار، في عام 2018. ورغم أن تلك الأرقام لا تزال صغيرة، فقد زاد البلدان استثماراتهما في الاتجاهين.
ومع ذلك، فإن الاقتصار على زيادة التعاون الاقتصادي ليس كافياً، فالخليج غني بالنفط والغاز، وإندونيسيا أيضاً لديها ثروات من الموارد الطبيعية، ومن ثم فإن هناك فرصةً لكلا الطرفين للتعاون على نحو أكبر في تنمية الموارد الطبيعية، خاصة في قطاع النفط والغاز.
وفي عام 2019، بلغت واردات إندونيسيا من الوقود الأحفوري من دول مجلس التعاون الخليجي نحو 2.4 مليون دولار. وجاءت السعودية والإمارات وقطر من بين أكبر 10 مصادر لواردات النفط لإندونيسيا.
وفي العام نفسه، بلغت قيمة واردات الفحم من إندونيسيا إلى دول مجلس التعاون الخليجي قرابة 18.922 دولاراً أمريكياً، ما يجعل إندونيسيا خامس أكبر مصدر للفحم إلى دول الخليج.
2. البعد عن المعادلة الثنائية عالمياً
يمكن أن يساعد النهج القائم على "تعددية الأطراف" Multilateralism، وهي تفاعل أكثر تنسيقاً بين الدول من أجل أهداف مشتركة، على زيادة الكفاءة وإنتاج شبكات عالمية أكثر تنسيقاً وترابطاً.
ومن ثم يمكن عن طريق العمل معاً دعم إسهام كلا الطرفين في تعزيز نظام التجارة العالمي والتعددية الدولية بوجه عام، وفي هذه الحالة فإن إندونيسيا والخليج سلكوا بالفعل سبل التطلع إلى مزيد من التعاون.
وانخرطت إندونيسيا بالفعل في الدفع من أجل تشكيل شراكة اقتصادية شاملة لدول مجلس التعاون الخليجي مع إندونيسيا (CEPA)، وهي خطوة ستساعد في الوصول إلى نتائج أفضل من أجل اقتصاد الطرفين، خاصة مع السعودية، التي تعد شريكاً رئيسياً لإندونيسيا.
كما دعمت إندونيسيا ورحّبت برئاسة السعودية لمجموعة العشرين الدولية G20 في عام 2020، وفي الوقت نفسه ساندت جهود المملكة لحثِّ الدول الأعضاء في مجموعة العشرين على مناقشة التحديات والفرص الاقتصادية العالمية.
3. التضامن خلال وباء كورونا وبعده
فيما يتعلق بالتخفيف من آثار جائحة كورونا عرضت الصين إعطاء إندونيسيا 10 ملايين جرعة من اللقاح المضاد لفيروس كورونا (تقول مصادر أخرى إنها 30 مليون جرعة)، وحصلت إندونيسيا على تلك الجرعات من خلال الإمارات، ويشكّل هذا النوع من جهود الدعم للتخفيف من حدة آثار الوباء جبهةً جديدة في العلاقة التعاونية بين إندونيسيا والإمارات والصين.
كما يمكن أن تدفع الرغبة الإندونيسية في العمل مع السعودية إلى تعميق التعاون في القضايا الصحية المتعلقة بمكافحة فيروس كورونا، وتريد إندونيسيا أيضاً إرسال عاملين صحيين ومعدات وأدوية إلى السعودية، وتتعاون إندونيسيا مع الإمارات كذلك في تصنيع أجهزة للكشف عن الإصابات بفيروس كورونا قائمة على الليزر والذكاء الاصطناعي.
وفي هذا المجال وغيره، يمكن لاتفاقية شراكة اقتصادية شاملة بين إندونيسيا ودول مجلس التعاون الخليجي أن تدعم التجارة والاستثمار في الاتجاهين، وتحسّن سبل الوصول إلى الأسواق، وتعزز النمو الاقتصادي الشامل في إندونيسيا ودول الخليج من أجل المنفعة المتبادلة لكلا الطرفين.
ورغم أن هذه الجهود قد تكون تراجعت بفعل الجائحة، فإنها بلا شك ستستمر في المستقبل وتُسهم في عودة النشاط الاقتصادي إلى طبيعته.
4. المجال الثقافي والشعبي
يمكن للتعاون الاجتماعي والثقافي، على أساس من تبادل المنفعة، أن يحفّز على المزيد من تحسين العلاقات الاقتصادية والسياسية، إذ إن إندونيسيا دولة ذات أغلبية سكانية مسلمة، ومن هذا المنطلق تشترك ودول الخليج في خلفية دينية مماثلة يمكن أن تساعد في تيسير سبل التواصل والتعاون.
وفي هذا السياق قد يكون التعاون على مستوى التعليم مكاناً مناسباً للبدء، حيث يتبادل جيل الشباب المعرفةَ وتعميق الروابط. والتعاون من هذا النوع يساعد في التغلب على الحواجز اللغوية والثقافية وزيادة عدد المهنيين الذين هم على دراية أكبر بالمعايير الاجتماعية والعادات وأساليب تسيير الأعمال التجارية، علاوة على المصالح الوطنية والمؤسسية.
وأخيراً وليس آخِراً، تبرز السياحة بوصفها مجالاً آخر قابلاً للتطوير، فالتعاون في هذا القطاع قد يقدم نموذجاً على كيفية تحول الارتباط على المستوى الثقافي والشعبي إلى محرك لتنمية اقتصادية مستدامة بين الطرفين.