من المنتظر أن تنطلق أولى جلسات الحوار الوطني في تونس، منتصف أبريل/نيسان الجاري، حيث يجمع هذا الحوار مختلف المكونات السياسية في البلاد دون استثناء. هذا ما كشف عنه أمين عام حزب حركة الشعب (15 نائباً في البرلمان)، في حوار أجرته معه جريدة الشروق قبل يومين.
وبعد أن كان يطرح العديد من الشروط للقبول بفكرة الدخول في مفاوضات مع الأحزاب السياسية والمنظمات المهنية والاجتماعية، من بينها رفض مشاركة الأطراف "المتورطة في الفساد" واشتراط استقالة حكومة هشام المشيشي، نجد أن رئيس الجمهورية، وبحسب الأصداء المتأتية من قصر قرطاج إثر لقائه بالأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل لا يضع اشتراطات مسبقة لإجراء الحوار الوطني، على عكس التصريحات التي كانت تسبق كل مبادرة للحوار تُقدم له ليشرف عليها.
من الواضح أن التحركات الأخيرة للاتحاد العام التونسي للشغل، ولقاءه برئيس البرلمان راشد الغنوشي من جهة، ومشاركته في الحوار الاقتصادي مع رئيس الحكومة ومنظمة الأعراف من جهة أخرى، قد حرّكت المبادرة الأصلية للاتحاد في أروقة قصر قرطاج، في اتجاه التفعيل والمشاركة مع باقي المكونات السياسية بلا استثناءات.
الجديد في النسخة الأخيرة للحوار الوطني المقدمة لرئيس الجمهورية من قبل اتحاد الشغل هي مشاركة الشباب في هذا الحوار عبر التكنولوجيا التواصلية الافتراضية، وهو ما سيضع بصمة الرئيس قيس سعيد الخاصة في مسار المبادرة، خصوصاً أنها تنسجم مع فلسفته السياسية التي تقوم على الديمقراطية المباشرة، ومشاركة المجاميع الشعبية والمجالس المحلية في صنع القرار.
مبادرات شتى للخروج من الأزمة
العديد من مبادرات الحوار الوطني طُرِحت منذ ما يزيد على الأربعة أشهر، تهدف لإيجاد حل للأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالبلاد وتهدد السلم الاجتماعي بالانفراط. وإن كان الخلاف السياسي بين رئيس الجمهورية من جهة ورئيس الحكومة من جهة أخرى يكشف فقط عن قمة جبل الجليد، إلا أن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المتجذرة في واقع البلاد منذ عقود هي الأخرى تمثّل تحدياً كبيراً لكل الفاعلين السياسيين في البلاد، لأنها تمسّ حاجيات الشعب ومقومات الدولة برمتها. وعلى هذا الأساس تواترت المبادرات لحل هذه المعضلات.
مبادرة التيار الديمقراطي
تقدم حزب التيار الديمقراطي (22 نائباً في البرلمان) بمبادرة للحوار الوطني لرئيس الجمهورية قيس سعيد، بتاريخ 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، تقوم على إرساء إصلاحات اقتصادية واجتماعية بهدف النهوض بالبلاد وتقديم حلول عملية لأزماتها الهيكلية المترابطة.
المبادرة وُجّهت لرئيس الجمهورية للنظر فيها واعتمادها كخارطة طريق لما سيأتي بعدها من مفاوضات وحلول، أو بالحد الأدنى اعتمادها كورقة عمل لجلسات الحوار، إلا أن رئيس الجمهورية الذي وعد بالنظر بجدية في هذه المبادرة لم يُفعِّل بنداً واحداً من بنودها، وبقيت حبيسة أرشيف قرطاج.
مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل
جاءت مبادرة اتحاد الشغل للحوار الوطني مباشرة، إثر مبادرة حزب التيار (مدعومة من حزب حركة الشعب)، وعلى عكس مبادرة التيار لم تقتصر مبادرة الاتحاد على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية فقط، بل تطرقت للأزمة السياسية وضرورة وضعها على طاولة الحوار لإيجاد حلول لها، خصوصاً مع بروز أزمة الرئاستين في قرطاج والقصبة، وتعمّق الخلاف بين سعيّد والمشيشي.
المبادرة لقيت آذاناً مصغية في قصر قرطاج، "وقد أعلن رئيس الجمهورية خلال هذا اللقاء قبوله إجراء حوار لتصحيح مسار الثورة التي تم الانحراف بها عن مسارها الحقيقي الذي حدده الشعب منذ عشر سنوات، ألا وهو الشغل والحرية والكرامة الوطنية".
إلا أن مبادرة اتحاد الشغل تُركت بعد ذلك على رفوف مكتب رئيس الجمهورية، قبل أن تتم إثارتها مؤخراً من قِبل الأمين العام لحزب حركة الشعب، الذي كشف عن وجود تفاهمات بين المنظمة الشغيلية ورئاسة الجمهورية، حول انطلاق أولى جلسات الحوار قريباً جداً.
مبادرة وزير المالية السابق نزار يعيش
في لقاء جمع كلاً من رئيس الجمهورية قيس سعيّد ووزير المالية السابق نزار يعيش، بتاريخ 24 مارس/آذار 2021، قام هذا الأخير بتقديم عرض مفصّل حول وضعية الاقتصاد والمالية العمومية والميزانية وتهديداتها المباشرة على الأمن القومي، وتقدّم بمقترحات عملية وتصوّر متكامل لحلول وإصلاحات من شأنها المساعدة على الخروج بالبلاد من الأزمة الراهنة.
وتقوم مبادرة وزير المالية السابق على اعتماد منظومة معلوماتية افتراضية متطورة لتوسيع النقاش حول الملفات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية مع الفئات الشبابية، في إطار الحوار الوطني.
وقد أعرب رئيس الدولة عن استعداد رئاسة الجمهورية للإشراف على تنظيم حوار وطني بمشاركة واسعة من الشباب عبر وسائل الاتصال الحديثة، بما يُمكّن من بلورة مقترحات ومطالب تنطلق من المستوى المحلّي، ثمّ تتمّ صياغتها لاحقاً من قِبل مختصين في كافة المجالات على المستويين الجهوي والوطني للتوصّل إلى مخرجات متناغمة ومتناسقة.
وهو ما أثار حفيظة الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي وجد في انفتاح الرئيس سعيد على هذه المبادرة، بكل هذه الحماسة والتفاعل اللذين لم يُبدِهما مع المبادرات السابقة، هروباً للأمام من الرئاسة وتجاهلاً لمبادرة الاتحاد ووضعها في مرتبة ثانية على أقصى تقدير، وهو ما دفع الأمين العام المساعد للاتحاد، سامي الطاهري لاعتبار أن مبادرة رئيس الجمهورية انقلاب على الأعراف، ولم تحترم المنظمة.
مصير مشاريع الحوار الوطني المؤجلة بين قيس سعيد والحكومة
لا تزال معظم المبادرات المطروحة، وخصوصاً مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل، مؤجلة التنفيذ عملياً بما أن رئيس الجمهورية لم يعلن رسمياً عن انطلاقها، إلا أن الارتياح الشديد الذي أبداه سعيد لمبادرة نزار يعيش، وزير المالية السابق في حكومة إلياس الفخفاخ المستقيلة، والأصداء الإيجابية التي تحدث عنها أمين عام حزب حركة الشعب (قريب من رئيس الجمهورية) والقادمة من قصر قرطاج، بقرب إعلان رئيس الجمهورية عن الشروع في الحوار الوطني اعتماداً على مبادرة اتحاد الشغل، كل ذلك يؤشر على أن استراتيجية قيس سعيد في الحوار الوطني تتجه نحو إرضاء اتحاد الشغل، حليفه الأبرز والأقوى في الساحة السياسية التونسية، وفي ذات الوقت، وبشكل موازٍ للحوار الوطني، اعتماد مقترح الحوار القاعدي مع الشباب من مختلف جهات الجمهورية حول مسائل تنموية وتشغيلية لإيجاد حلول لمشكلة البطالة وإنماء الجهات الداخلية المهمشة منذ عقود، وذلك عبر التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي ليتم بعد ذلك بلورتها في مشاريع عملية تنهض بوضعية هؤلاء الشباب، وتحقق الإصلاحات الجهوية المطلوبة، بحسب جوهر هذا التمشي في الحوار.
وإن كانت مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل لا تختلف كثيراً عن مبادرة حزب التيار الديمقراطي فيما يتعلق بالمحاور الاقتصادية والاجتماعية المطروحة في المبادرتين، ما عدى الأزمة السياسية التي ركزت عليها مبادرة اتحاد الشغل بشكل خاص، إلا أن مقترح الحوار المباشر مع الشباب بواسطة التكنولوجيا المعلوماتية الحديثة وخارج أطر وأعراف الحوار الوطني التقليدية التي تقوم على جمع مختلف الأطراف المتخاصمة أو المختلفة والحوار بينها لإيجاد حلول لخلافاتها ولأزمات البلاد، يتناقض كلياً مع تقاليد الحوار الوطني في تونس ما بعد الثورة ( 2013)، ويفتح الباب على تأويلات كثيرة بشأن نجاح هذا التمشي الرئاسي من عدمه.
أفق التمشي الرئاسي
بناء على ما سبق حول مقتضيات الحوار الوطني ضمن مبادرة الاتحاد ومقترح إشراك الشباب في مسار موازٍ، وبحسب المعطيات الجديدة التي طرأت على مشروع الحوار الوطني، فإن مبادرة الاتحاد ورؤية رئيس الجمهورية لقيادتها والإشراف على تسييرها ستصطدم تباعاً بتباعد مسارات الحوار وانفصالها عن بعضها البعض، بما أن حكومة هشام المشيشي دخلت منذ فترة في مفاوضات اقتصادية واجتماعية مع الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والاتحاد العام التونسي للشغل، كان من ثمارها توقيع اتفاق بين الحكومة واتحاد الشغل حول إصلاح عدد من المؤسسات العمومية، وهي شركة الخطوط الجوية التونسية، وشركة الفولاذ، والشركة التونسية للشحن والترصيف، وديوان الأراضي الدولية، والصيدلية المركزية، والشركة التونسية للصناعات الصيدلية، والشركة التونسية للكهرباء والغاز .
وبالنسبة لمسار التفاوض حول المسائل الإنمائية والتشغيليّة، فقد اختار سعيّد أفراد القواعد الشبابية بها، وهو ما ينزع جزءاً آخر من الأجزاء المكونة لمبادرة اتحاد الشغل، ليبقى التفاوض مقتصراً فقط على الجزء المتعلّق بالأزمة السياسية بين رئيس الحكومة ورئيس الدولة، والإشكاليات الدستورية المتعلقة بالقانون الانتخابي وطبيعة النظام السياسي، واستكمال إرساء المحكمة الدستورية.
وهي مسائل تفترض مساراً موازياً لباقي مسارات التفاوض الاجتماعية والاقتصادية والتنموية وغيرها؛ لأنها تتعلق بخلافات سياسية عميقة بين مؤسستي الحكم التنفيذيتين وقضايا قانونية ودستورية شائكة تطلب مساراً شاقاً ومعمقاً من المفاوضات والنقاشات النظرية والعملية للتوصل لحلول ونتائج ناجعة لها.
ومن ثم تبقى الخطوة الأولى العملية التي سيتخذها رئيس الجمهورية في القريب العاجل فيما يخص الحوار الوطني محدداً لما سيأتي بعدها من مسارات التفاوض والحل.