بدأت جولة المفاوضات المنتظرة بشأن إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني بوجود ممثلين لأطراف الاتفاق جميعاً، بما فيهم الولايات المتحدة، فما فرص نجاح إدارة جو بايدن في تفادي إعلان وفاة الاتفاق بصورة نهائية والدخول في مرحلة جديدة من الصراع؟
وشهدت العاصمة النمساوية فيينا، اليوم الثلاثاء 6 أبريل/نيسان، اجتماع الأطراف التي كانت قد وقَّعت على اتفاقية العمل الشاملة المشتركة (الاسم التقني للاتفاق النووي الإيراني) عام 2015 في مفاوضات يفترض أنها تمهيد لعودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق بعد أن كانت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب انسحبت منه عام 2018.
انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق لم يؤدِّ إلى انتهائه، إذ ظلت باقي أطرافه متمسكة به وتسعى للحفاظ على استمراره، وتلك الأطراف هي ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين، بينما بدأت إيران في التخلي عن التزاماتها ببنود الاتفاق تدريجياً منذ مايو/أيار 2019، في مواجهة العقوبات الأمريكية التي فرضتها إدارة ترامب.
حضور أمريكي دون لقاء مباشر مع إيران
اجتماعات فيينا هي اللقاء الأول الذي يجمع أطراف الاتفاق النووي منذ انسحاب أمريكا منه قبل ثلاثة أعوام، وعلى الرغم من أن الدبلوماسي روبرت مالي ممثل الإدارة الأمريكية في الاجتماعات لن يكون حاضراً في نفس الغرفة مع ممثلي الأطراف الأخرى (إيران وروسيا والصين وبريطانيا وألمانيا وفرنسا)، إلا أن وجوده وانعقاد هذه الجولة من المفاوضات في حد ذاته يمثل انفراجة في المشهد.
فبعد أن وصل جو بايدن إلى البيت الأبيض خلفاً لترامب بدا أن إعادة إحياء الاتفاق النووي أكثر صعوبة في ظل تمسك طهران بأن ترفع واشنطن جميع العقوبات المفروضة على إيران أولاً وإصرار واشنطن على أن تعود طهران للالتزام بجميع بنود الاتفاق أولاً، رغم الرغبة المعلنة من الطرفين في العودة للاتفاق.
وشهدت الأشهر الثلاثة الماضية ما يمكن وصفه بحرب التصريحات بين الجانبين، ووصلت الأمور إلى حافة الهاوية في مناسبة واحدة على الأقل وذلك عندما وجهت إدارة بايدن ضربة عسكرية لميليشيات عراقية على أراضي سوريا رداً على إطلاق تلك الميليشيات هجمات صاروخية أدت لمقتل وإصابة أمريكيين في قاعدة عسكرية بأربيل، وذلك في تذكير واضح بعدد المرات التي وصلت فيها الأمور إلى حافة الهاوية بين الجانبين في العام الأخير من رئاسة ترامب.
وكانت التصريحات الإيرانية ترفض تماماً الدخول في أي مفاوضات بشأن الاتفاق النووي قبل أن ترفع إدارة بايدن العقوبات بشكل كامل، وبالتالي فإن اجتماعات فيينا بحضور الولايات المتحدة، حتى وإن كان حضوراً غير مباشر، يعني أن ما يجري في الكواليس ربما يكون أكثر إيجابية مما يرشح من تصريحات علنية، بحسب تحليل لشبكة CNN الأمريكية.
ماذا تعني جولة المفاوضات لإيران ولأمريكا؟
تحليل الموقف الإيراني تدخل فيه عدة حقائق، أبرزها موقف المحافظين الذين يسيطرون على البرلمان ويسعون للفوز بالرئاسة في يونيو/حزيران المقبل، في مواجهة موقف من يوصفون بالمعتدلين والمقصود بهم تيار الرئيس حسن روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف، إذ كان فريق روحاني-ظريف هم من توصَّل للاتفاق النووي عام 2015 مع إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما وكان بايدن نائباً له، وتسبَّب انسحاب ترامب من الاتفاق وإعادة فرض العقوبات بإضعاف تيار المعتدلين وخسارتهم الانتخابات البرلمانية العام الماضي.
ويجادل المدافعون عن الاتفاق النووي والانفتاح على الغرب بأن ذلك يمثل فرصة لاندماج إيران في المجتمع الدولي وما يعنيه ذلك من تنمية اقتصادية تجعل البلاد أغنى وأكثر استقراراً وتوفر مستوى معيشة أفضل للإيرانيين، وكلها مكاسب تجعل التخلي عن طموح الحصول على قنبلة نووية ثمناً زهيداً، رغم أن إيران تعلن دائماً أنها لا تسعى لامتلاك نووي، وأن برنامجها لأغراض سلمية فقط.
أما تيار المحافظين الذي يتزعمه بالأساس قادة الحرس الثوري، فيتبنون وجهة النظر المعاكسة التي تتمثل في أن حصول إيران على سلاح نووي هو الطريقة الأفضل للتعامل مع الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة (الشيطان الأكبر)، وجاء انسحاب ترامب من الاتفاق ليزيد موقفهم قوة، ورغم أن العقوبات تسبَّبت في خنق الاقتصاد الإيراني وانهيار العملة، فإن الصمود النسبي حتى الآن وتحسن الأمور تدريجياً، بسبب الدعم الصيني وشراء بكين للنفط الإيراني (أظهرت تقارير أن الصين اشترت مليون برميل من النفط الإيراني يومياً خلال مارس/آذار الماضي) على الأرجح أدى لمزيد من تشبُّث هذا الفريق بموقفه الرافض للعودة للاتفاق أو على الأقل رفع سقف المطالب أمام إدارة بايدن.
والموقف الداخلي في واشنطن ربما لا يختلف كثيراً عن نظيره في إيران، فالإدارة الجديدة ترغب في العودة للاتفاق النووي، وهذا أمر طبيعي في ظل كون كبار المسؤولين، وعلى رأسهم بايدن ووزير الخارجية أنتوني بلينكن ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان وحتى مدير المخابرات المركزية بيل بيرنز وغيرهم كانوا اللاعبين الأساسيين وراء التوصل للاتفاق في المقام الأول، لكن الجمهوريين يرفضون تقديم أي تنازلات لإيران للعودة إلى الاتفاق.
وهذا هو السبب الذي دفع الأمور للمرحلة الحالية من الجمود، قبل الاجتماعات التي انطلقت اليوم، بمعنى أن بايدن لا يمتلك القدرة على تنفيذ مطالب إيران برفع العقوبات أولاً – حتى وإن امتلك الرغبة – لأن ذلك بمثابة انتحار سياسي داخلي، ناهيك عن رد فعل الحلفاء الإقليميين لواشنطن وخصوصاً إسرائيل والسعودية الرافضتين للاتفاق الأصلي من الأساس وبالتالي للعودة إليه بشروطه الحالية.
البديل للاتفاق النووي لا يريده أحد
إذا كانت هذه هي الصورة العامة لموقف إيران وأمريكا الداخلي من إعادة إحياء الاتفاق النووي أو إعلان وفاته نهائياً، فإن البديل هو استمرار حالة التوتر التي سيطرت على الموقف الإقليمي طوال العامين الأخيرين، وهو ما يعني حالة المد والجزر في مستوى التوتر والتصعيد، وهي الحالة التي شابت العلاقة بين طهران وواشنطن منذ ثورة الخميني عام 1979 وتأسيس الجمهورية الإسلامية، وهو ما يرى البعض أنها لا تعني نشوب الحرب، وإلا كانت تلك الحرب قد اندلعت في كثير من المناسبات والحوادث على مدار أكثر من أربعة عقود.
وأصحاب هذا الرأي يستدلون بما حدث في صيف 2019 عندما أسقطت إيران طائرة استطلاع أمريكية وصدرت الأوامر بتوجيه ضربة جوية أمريكية لإيران بالفعل قبل أن يتراجع ترامب في اللحظة الأخيرة ويأمر بإعادة الطائرات دون أن تلقي بحمولتها التفجيرية على المواقع الإيرانية.
والموقف نفسه تكرَّر مطلع العام الماضي 2020 عندما اغتالت الولايات المتحدة الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني لدى وصوله إلى مطار بغداد الدولي، ووقتها بدا أن اندلاع حرب شاملة بين الجانبين قد أصبح أمراً واقعاً، نظراً لأن سليماني يعتبر من أبرز المسؤولين الإيرانيين، واغتياله يعد بمثابة إعلان حرب، لكن الرد الإيراني جاء محسوباً وفي صورة إطلاق صواريخ باليستية استهدفت قواعد أمريكية في العراق، ولم تسقط قتلى ونشرت تقارير تفيد بإرسال تحذير للأمريكيين قبل إطلاق الصواريخ.
خلاصة المشهد هنا هي أنه لا إيران ولا الولايات المتحدة ترغبان في الدخول في حرب مفتوحة، لكن هذا لا يعني أن تلك الحرب التي تم تفاديها على مدار أكثر من أربعة عقود قد لا تندلع ولو بطريق الخطأ، خصوصاً أن الأوضاع الإقليمية والدولية والجيوسياسية أصبحت مختلفة تماماً، ولا يمكن حساب خطوات كل طرف وتنسيقها بالصورة التي يبدو أنها كانت سمة غالبة في العلاقات بين أمريكا وإيران حتى الآن.
وفي ظل هذه الصورة المعقدة عملت الأطراف داخل إيران والولايات المتحدة على تمهيد الطريق إلى مفاوضات فيينا التي انطلقت اليوم – أو إلقاء العقبات في ذلك الطريق. واتبعت إدارة بايدن سياسة الهدوء والنفس الطويل وعدم الوقوع في فخ الرد على التصريحات والمواقف الحادة الصادرة عن طهران، والمتمثلة في قرار البرلمان المتخذ في ديسمبر/كانون الأول الماضي برفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 60% وطرد مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية وغيرها من الخطوات التصعيدية.
وحتى عندما قامت إدارة بايدن بضربتها العسكرية الوحيدة، كان واضحاً الحرص على عدم ربط الميليشيات المستهدفة مباشرة بإيران، واستبدال ذلك بأنها ميليشيات شيعية، لإفساح المجال أمام الطرفين للتراجع عن حافة الهاوية ومواصلة حديث الدبلوماسية، وفي المقابل تبنت إيران نهجاً تصعيدياً في العلن مع ترك الباب مفتوحاً للتراجع، وهو ما أدى في النهاية لقبول التواجد على طاولة المفاوضات في فيينا مع أطراف الاتفاق، مع وجود الطرف الأمريكي، ولكن ليس في نفس الغرفة، بحسب توصيف محللين أمريكيين لـ"سي إن إن".
والخلاصة هنا أن الأجواء الحالية تشبه إلى حد كبير الأجواء التي أدت إلى توقيع الاتفاق عام 2015، فإيران تفضل رفع العقوبات على امتلاك قنبلة نووية، وأمريكا تفضل أن تصبح إيران أغنى وأقوى دون أن تمتلك سلاحاً نووياً، وهو ما يشير إلى أن اجتماعات فيينا على الأرجح قد تؤدي إلى بداية طريق إعادة الحياة إلى الاتفاق النووي، وهو ما نقله تقرير لـ"سي إن إن" عن دبلوماسي غربي قريب من كواليس فيينا بقوله إن هناك فرصة تزيد عن 80% أن تؤدي هذه الجولة لمزيد من جولات التفاوض بشأن الاتفاق النووي.