تناول تقرير لمجلة Foreign Affairs الأمريكية ما سمتها "الحرب المفتوحة" التي تشنها مؤخراً الصين على الهند؛ وذلك في محاولة منها لكسب الهيمنة الآسيوية وإزاحة جارتها الهند من طريقها، في وقتٍ تصاعَدَت فيه التوتُّرات العسكرية بين الطرفين، مع اندلاع المواجهات بينهما في نقاطٍ عديدة على طول الحدود الوعِرة المُتنازَع عليها.
حرب غير تقليدية جديدة تشنها الصين على الهند
وتحدثت المجلة عن حادثة انقطاع الكهرباء بكبرى مدن الهند، في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2020، حيث واجهت مومباي أسوأ انقطاع للتيار الكهربائي منذ عقود، مما أدى إلى تعطُّل الشركات، وإغلاق البورصة، فيما تقطَّعَت السُبُل بآلاف المسافرين، وتسابقت المستشفيات لضمان إمداداتٍ احتياطية لمرضى كوفيد-19.
والانقطاعات الكبرى بالتيار الكهربائي ليست شائعة في الهند، لكن مومباي افتخرت بسجلها الأخير في توفير الكهرباء لسكَّانها بصورةٍ مضمونة تماماً. دفع هذا الاضطراب السلطات في ولاية ماهاراشترا الغربية، وعاصمتها مومباي، إلى البحث عن إجابات.
وكشف المسؤولون الهنود في مارس/آذار الماضي، أنهم ربما وجدوا سبب انقطاع التيار الكهربائي، وقد كان هجوماً إلكترونياً أجنبياً استهدف خوادم شركات الطاقة الحكومية. لم يحدِّدوا شخصاً معيناً مسؤولاً عن الهجوم، لكن المعنى كان واضحاً تماماً. طرح المسؤولون أن المتسلِّلين الصينيين قد درَّبوا أنفسهم على إسقاط شبكة الكهرباء في مومباي، وقد نجحوا في ذلك.
وجاء هذا الهجوم السيبراني المُحتمَل بالتزامن مع تصاعد التوترات العسكرية بين بكين ونيودلهي، وتمتد قدرة بكين على الضغط على جارتها إلى ما وراء ساحة المعركة التقليدية، وتشمل بشكلٍ متزايدٍ الأشكال غير التقليدية للحرب (أو "الحرب المفتوحة"، كما وصفها عنوان كتاب من تأليف ضابطين عسكريَّين صينيَّين) لتحقيق أهداف توسُّعية.
ومن خلال الحرب المفتوحة -التي تتضمَّن إستراتيجيةً لكيفية الاستيلاء بالقوة على قِطع الأراضي المُتنازَع عليها دون تقديم سببٍ للحرب، والحرب الإلكترونية، ودبلوماسية مصيدة الديون، والتدهور البيئي، وانتشار المعلومات المُضلِّلة- أعادت الصين رسم الخريطة الجيوسياسية لبحر الصين الجنوبي دون أن تتكبَّد أيَّ تكاليف دولية. وتأمل بكين استخدام الأساليب نفسها لمجابهة الهند.
ما هي أدوات ووسائل الصين في هذه الحرب؟
وتقول مجلة "فورين آفيرز" الأمريكية، إن الحزب الشيوعي الصيني، الذي يحتفل بالذكرى المئوية لتأسيسه هذا العام، يظلُّ يحكم الصين لأكثر من سبعة عقود، مِمَّا يجعله أطول حزب سياسي بقاء في السلطة بالتاريخ الحديث. ويشهد نجاحه في الاستمرار بالسلطة على القسوة التي سعى بها لتحقيق أهدافه في الخارج والداخل. قاد ماو تسي تونغ الحزب إلى السلطة، وجعل دنغ شياو البلاد أكثر ثراءً، والآن يتمثَّل طموح الرئيس الصيني شي جين بينغ في تحويل الصين إلى قائدٍ عالمي مُهيمِن. وهذا هو جوهر ما يسميه شي "الحلم الصيني".
يتشدَّق الحزب الشيوعي الصيني بالمساواة والمعاملة بالمثل في العلاقات الدولية، لكن في الواقع تسعى الصين تحت حكم "شي" إلى إخضاع الدول الصغيرة. ولا توجد منطقة تثبت ذلك بقدر ما تثبته منطقة جنوب شرقي آسيا، حيث استخدمت الصين إستراتيجيةً ذات شقين وغير تقليدية لمساعدتها في السيطرة على بحر الصين الجنوبي والتحكُّم في التدفُّق العابر للحدود لنهر ميكونغ، شريان الحياة في المنطقة.
وأقامت القوات الصينية جزراً اصطناعية في بحر الصين الجنوبي، وطالبت من جانبٍ واحد بالمياه المُتنازَع عليها. وتزوِّد السدود الصينية الأحد عشر على نهر ميكونغ البلاد بالقدرة على إيقاف صنبور المياه في معظم جنوب شرقي آسيا القارية، مِمَّا يجعل دول المصب تعتمد على حسن النية الصينية للحصول على المياه.
وبإستراتيجيةٍ مماثلة متعدِّدة الأبعاد، تأمل الصين أيضاً احتواء منافسيها المُحتمَلين في آسيا والهند واليابان. تبنَّى الحزب الشيوعي الصيني إستراتيجية حرب غير مباشرة ضد الهند واليابان، بهدف محاصرة القوتين. تضمَّنَت المرحلة الأولى من الإستراتيجية بناء باكستان كثقلٍ موازنٍ نووي وتقليدي عسكري للهند، ومساعدة كوريا الشمالية في تطوير أسلحة الدمار الشامل.
وفي السنوات الأخيرة، ركَّزَت الصين على حملةٍ متصاعدةٍ من الخداع والتخفي. وفي قلب هذه الحملة، هناك مراجعةٌ إقليمية، حيث تستعرض الصين عضلاتها من خلال تأكيد مطالبتها بالأراضي والجزر التي يديرها جيرانها.
تبرز عناصر الحرب غير المباشرة في تصرُّفات الصين ضد الهند، إذ مارست الصين ضغوطاً مُطردة على الأمن الهندي من خلال أدواتٍ غير تقليدية، من ضمنها الهجمات الإلكترونية، وإعادة هندسة تدفُّقات الأنهار عبر الحدود، وقضم مناطق الهيمالايا المُتنازَع عليها. إنها تسعى إلى استخدام جميع الوسائل المتاحة باستثناء الحرب الصريحة للحدِّ من الطموحات الهندية وضرب المصالح الهندية الأساسية.
حرب الظل الصينية
تنكر الصين مشاركتها في الحرب الإلكترونية ضد منافسيها، وتدَّعي الهند أن قراصنةً صينيين ترعاهم الدولة استهدفوا بشكلٍ متكرِّرٍ بنيتها التحتية الحيوية، وضمن ذلك شبكات الكهرباء. ووجدت شركةٌ للأمن السيبراني في الولايات المتحدة أن مجموعةً مرتبطةً بالصين تُدعى RedEcho (الصدى الأحمر)، كانت وراء تصاعد الهجمات على البنية التحتية للطاقة بالهند في عام 2020، لكن المسؤولين الصينيين أصروا على أن المزاعم كاذبة، وأنه على أي حال "من الصعب جداً تتبُّع أصل هجومٍ إلكتروني".
وتجري التكتيكات الإلكترونية بالتوازي مع الصراعات التقليدية. في مايو/أيار 2020، اكتشفت الهند أن القوات الصينية احتلَّت خلسةً قمم الجبال وغيرها من النقاط الإستراتيجية في منطقة الحدود الشمالية لاداخ. وسرعان ما تصاعدت التوتُّرات، حيث خاض أكثر من 100 ألف جندي صيني وهندي مواجهاتٍ عسكرية متعدِّدة في جبال الهيمالايا. ومع اشتداد المناوشات الحدودية، كثَّفَت الصين حربها الإلكترونية على شبكات الكهرباء الهندية.
وفي يونيو/حزيران، أسفرت الاشتباكات بين القوات الصينية والهندية عن مقتل عشرات الجنود. وشهد ذلك الشهر أيضاً ما لا يقل عن 40.300 محاولة لإدخال برامج ضارة في الشبكات الهندية. فهِم المسؤولون الهنود هذه الجهود على أنها تحذيرٌ صارم من نظام شي: إذا لم تتراجع الهند في المواجهة الحدودية، فإن الصين ستطفئ الأضواء عبر مساحاتٍ شاسعة من البلاد. ودفعت الهند قواتها إلى الحدود في الأشهر التالية، وفي أكتوبر/تشرين الأول أظلمت مومباي.
في الآونة الأخيرة، استقرَّ المهاجمون الإلكترونيون الصينيون على صناعة الأدوية بالهند. وفُضِحَت محاولاتٌ صينية لسرقة البيانات الأمريكية الخاصة بلقاحات وعلاجات كوفيد-19، لكن الهجمات الإلكترونية الأخيرة على اثنتين من شركات تصنيع اللقاحات الرائدة في الهند لم تحظَ باهتمامٍ كبير. حاول المُتسلِّلون سرقة مُخطَّطات لقاحين من لقاحات كوفيد-19 في قلب حملة التحصين الحالية للهند. وتوفِّر الهند أكثر من 60% من اللقاحات العالمية ضد الأمراض المختلفة، وتستخدم حالياً هذا الثقل التصنيعي لتصدير الملايين من لقاحات فيروس كوفيد-19 كلَّ أسبوع.