عارض الأب بناء السفينة "إيفرغيفن"، ولكن عندما توفي سارع أبناؤه في تدشينها، وكان هذا من سوء حظ قناة السويس، والآن يجب على صناعة الملاحة الدولية الاستماع لحكمة هذا الرجل العجوز والنظر في مخاطر السفن العملاقة.
لم يكن أبناء مؤسس شركة Chang Yung-fa، المالكة للسفينة "إيفرغيفن"، وحدهم الذين خالفو وصية الرجل الياباني، الذي حذَّر من تشغيل السفن القادرة على استيعاب أكثر من 8000 حاوية، وفقاً لصحيفة The Telegraph البريطانية.
فأسباب كثيرة جعلت صناعة الملاحة الدولية تسارع إلى بناء مثل هذه السفن العملاقة، واليوم بعد حادثة جنوح السفينة "إيفرغيفن" في قناة السويس، باتت هناك حاجة إلى تقييم جدي بشأن مخاطر السفن العملاقة، حسبما ورد في تقرير لموقع The Middle East Eye البريطاني
سفينة مشؤومة أم خطأ في النظرية؟
المفاجأة أن هذا الحادث ليس الأول لهذه السفينة الضخمة، التي تعتبر من بين أضخم ناقلات الحاويات في العالم.
ففي 9 فبراير/شباط 2019 وعندما كانت السفينة "إيفرغيفن" في ميناء هامبورغ الألماني، انحرفت عن مسارها بسبب سوء الطقس، وضغطت على عبّارة "فينكينفيردر" عند مرساة "بلانكينزه" في هامبورغ.
وبحسب التحقيقات التي أُجريت وقتها، فإن الرياح القادمة من الجنوب الغربي أدت إلى اصطدام السفينة العملاقة، وتسبب تيار ساحب في دفع مؤخرة السفينة باتجاه ضفاف نهر "إلبه".
ولكن حوادث السفينة الكبيرة لا تقتصر على "إيفرغيفن"، فلقد جنحت "CSCL Indian Ocean"، وهي سفينة حاويات ذات حجم مماثل لـ"إيفرغيفن" بنهر ألبة في عام 2016، بالقرب من ميناء هامبورغ بألمانيا أيضاً.
ابنة العولمة التي تفرق دمها بين القبائل
وتعتبر "إيفرغيفن" من كبرى السفن على وجه الأرض، حيث يعادل طولها البالغ نحو 400 متر، ضعف ارتفاع برج القاهرة ونصف ارتفاع برج خليفة تقريباً، وهي قادرة على حمل نحو 20 ألف حاوية.
والسفينة مملوكة لشركة Shoei Kisen Kaisha اليابانية (شركة تابعة لشركة Imabari لبناء السفن)، ويستأجرها ويديرها خط الحاويات التايواني Evergreen Marine، (وهي شركة مسجلة في بنما).
وتدار السفينة من الناحية الفنية من قِبل شركة إدارة السفن الألمانية Bernhard Schulte Shipmanagement.
يعني هذا فعلياً أن مسؤوليات حوادث وكوارث السفينة سوف يتفرق دمها بين القبائل أو بالأحرى الشركات (الشركة المُصنّعة والمالكة، والمستأجرة، والمشغّلة).
إنها كانت تمثل ما يوصف بـ"مميزات العولمة"، ولكن تبين أنها تمثل أيضاً نموذجاً لمخاطر العولمة، وجشعها.
سر الهوس بمثل هذه السفن الهائلة الحجم
حادث بهذا الحجم كان متوقعاً وتم تجاهل التحذيرات بشأنه، حسبما تنقل صحيفة The Guardian البريطانية عن محللين.
فعلى مدار العقد الماضي، وبعيداً عن أنظار معظم المستهلكين، كانت سفن الحاويات في العالم تتضخم بهدوء.
تضاعفت أحجام السفن خلال الفترة الماضية، وكانت السفينة التي تحمل 5000 حاوية شحن ضخمة قبل عقد ونيف من الزمان، اليوم أصبح هناك عشرات من المراكب الضخمة المحملة بما يزيد على 20000 حاوية.
كانت أسباب تضخم سفن الحاويات، خاصة خلال العقد الماضي، متعددة، منها التقدم التكنولوجي.
ولكن السبب الأبرز- كما يقول المحللون- هو ارتفاع أسعار النفط في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؛ مما دفع شركات الشحن إلى السعي لتحقيق وفورات غير زيادة حجم السفن إلى أقصى حد.
كما شجعت أسعار الفائدة المنخفضة التي أعقبت الانهيار المالي لعام 2009، الشركات على اقتراض المبالغ الهائلة المطلوبة لبناء السفن العملاقة التي أصبحت بمثابة ناطحات سحاب عائمة.
وحظي التوجه نحو السفن العملاقة كذلك باهتمام شعبي من خلال القصص الإخبارية المثيرة التي تشيد بحجمها وتبرز الأرباح التي يتوقعها عمالقة الشحن منها، وتمتدها كرموز للتقدم العلمي والإنجاز البشري.
وُصفت السفن العملاقة التي تسمى "Megaships" بأنها "رهان على العولمة"، حيث بُنيت في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما ساعدت الصين الصاعدة والولايات المتحدة في دفع طفرة بالتجارة العالمية. وتوقعت شركات الشحن أن تستمر هذه الحقبة واستثمرت في سفن جديدة أكبر حجماً لاستيعابها.
مخاطر السفن العملاقة
تم إيلاء اهتمام أقل نسبياً للتحذيرات من مخاطر السفن العملاقة، كما يقول روري هوبكرافت، الباحث بمجموعة أبحاث التهديدات الإلكترونية البحرية بجامعة بليموث.
ويضيف هوبكرافت: " مخاطر السفن العملاقة تأتي من أنها ليست أكبر فحسب، بل إنها تحمل مزيداً من البضائع"، "لذا فبدلاً من توزيع المخاطر على ثلاث أو أربع سفن أصغر، تضع كل البيض في سلة واحدة، عكس الحكمة الشهيرة.
والنتيجة أن النمو السريع في عدد وحجم السفن العملاقة فاق قدرة البنية التحتية البحرية في العالم على مواكبة ذلك، حسب الصحيفة البريطانية.
وقال هوبكرافت: "نصف موانئ العالم لا يمكنها حتى التعامل مع السفن العملاقة ، واصفاً هذا الاتجاه بأنه يترك التجارة الدولية وسلاسل التوريدات أكثر عرضة لمجموعة من التهديدات، التي تتركز على عدد قليل من السفن العملاقة من ضمنها القرصنة والهجوم الإلكتروني.
إذا توقفت المحطات المحدودة العدد التي يمكنها استيعاب السفن الضخمة عن خدمتها لأي سبب كان- مثل انقطاع التيار الكهربائي المحلي أو العمل العسكري- فلا يمكن صيانة هذه السفن على الإطلاق".
هل ضخامة السفينة سبب جنوحها في قناة السويس؟
بدأت قناة السويس في التوسع؛ للسماح بسفن أكبر وحركة مرور في اتجاهين ، ولكن هذا جرى فقد في طرفها الشمالي عبر ما يعرف بقناة السويس الجديدة، التي خلقت ممرين ملاحيين لعبور السفن في شمال القناة.
لكن الجزء الجنوبي من القناة كان لا يزال له اتجاه واحد وهو أضيق، مقارنة بالشمال.
وفي الجزء الجنوبي وقع حادث الجنوح، عندما حاولت السفينة "إيفرغيفن" المرور في صباح يوم عاصف.
ولكن هذا الطقس العاصف لم يؤثر على السفن الأخرى التي كانت تمر في اللحظة نفسها، حسب القرويين المصريين الذين شاهدوا الحادث.
ويبدو أن ضخامة السفينة "إيفرغيفن" وارتفاع كتلة الحاويات التي تحملها والتي قامت بدور شراع ضخم، قد يكون لهما دور في الأزمة.
إذ قال مشغّلو السفينة، إن حاوياتها المكدسة تصرفت بشكل مثل شراع عملاق وسط العاصفة الرملية.
وقال حارس الأمن أحمد السيد (19 عاماً): "رأينا رياحاً أسوأ، لكن لم تحدث مشكلة مثل هذه من قبل!".
الوزن الكبير منع قَطرها
حاولت السلطات المصرية في البداية تعويم السفينة باستخدام القاطرات، ولكن السفينة، كانت ثقيلة جداً بالنسبة إلى زوارق القَطر وحدها، ولذلك استخدمت معدات التجريف لحفر الأرض من حول السفينة، حسب بيتر بيردوفسكي، الرئيس التنفيذي لشركة Royal Boskalis Westminster، الذي شاركت شركته في توسيع قناة السويس.
كل هذا لأنه ببساطة: "لأن السفينة"إيفر غيفين" كبيرة جدًا، حسب ريتشارد ميد ، رئيس تحرير Lloyd's List ، وهي نشرة بحرية مقرها لندن، ويضيف قائلاً "وهذا يعني أنها مشكلة كبيرة جدًا".
واحتاج الأمر التجريف حول السفينة وجذب زوارق قَطر من خارج مصر، لتعويم السفينة بعد توافر ظروف المد المناسبة.
رهان خائب
رغم الانهيار المالي، وردّ الفعل الغربي الشعبوي ضد التجارة الحرة، ووباء فيروس كورونا المستمر الذي أدى إلى توقف الملايين عن العمل، واصلت شركات الملاحة تجاهل مخاطر السفن العملاقة، واستمرت في طلب المزيد من السفن العملاقة التي تسمح لهم بنقل مزيد من البضائع بوقود وطاقم أقل، حتى مع شكوك منظمات مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، في عقلانية هذا الاتجاه.
وقالت المنظمة في تقريرٍ عام 2015، إنه كان هناك "انفصال كامل في عمليات تطوير حجم السفن العملاقة عن التطورات في الاقتصاد الفعلي"، مشيرة إلى أن السفن كانت تنمو بشكل أكبر في "مناخ اقتصادي يعاني بشكل عام من الكساد والركود في أحسن الأحوال (نتيجة تراجع أسعار تكلفة بنائها على الأرجح)".
وقالت ورقة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إن "النمو التجاري لاستيعاب تطورات السفن غير موجود حالياً، بينما تعمل خطوط الشحن على بناء طاقة فائضة، من المرجح أن تكون قاتلة لبعضها على الأقل".
كما حذَّرت مما أصبح واضحاً للجميع في حادثة قناة السويس: من الصعب إنقاذ السفن العملاقة، لأنها تتطلب مزيداً من الوقت وزوارق السحب والكراكات، والأهم يجب أن تكون أقوى مما كان مطلوباً في الماضي مع السفن الصغيرة.
وهذا ما اعترف به الفريق مهاب مميش مستشار الرئيس المصري لشئون قناة السويس، إذ أكد على الحاجة إلى بعض التطويرات في القناة، خاصة فيما يتعلق بشراء زوارق قطر أكبر وأكثر قوة من الموجودة حالياً لدى هيئة قناة السويس، لأن أحجام السفن قد كبرت حالياً.
وكما هو الحال في كل شيء بالحياة، فإن المبالغة في القيام بشيء جيد يمكن أن تجلب الخطر.
وبات واضحاً أن هوس شركات الملاحة بالضخامة عبر بناء مزيد من السفن العملاقة لتحقيق مزيد من الأرباح، وجذب الانتباه، له أضرار كبيرة، لأن كل شيء كبير يعني مشكلة كبيرة محتملة.