نشرت منظمة الصحة العالمية أخيراً تقريرها الخاص بفيروس كورونا، دون أن يقدم إجابة عن السؤال الأهم بشأن أصل الوباء الذي لا يزال يحصد الأرواح، فهل تسرّب الفيروس من معمل في الصين، أم أن نشأته جاءت من أمريكا؟
رغم مرور أكثر من عام وأربعة أشهر على الأقل على بداية الوباء الذي أصاب أكثر من 129.2 مليون شخص حول العالم، وأودى بحياة أكثر من 2.82 مليون، لا تزال معلومات كثيرة بشأن كورونا غائبة أو على أقل تقدير لا تخضع لإجماع علمي حول العالم، أبرزها اختلاف تأثير الإصابة بالفيروس على من يصابون به حتى بين التوائم المتطابقة، وذلك رغم بدء التطعيم بلقاحات كورونا المتعددة.
تحقيق فريق الخبراء بشأن أصل الفيروس
ومنذ تحول كورونا إلى وباء عالمي، في منتصف مارس/آذار 2020، بعد إعلان الصين انتصارها على الفيروس في ووهان، حيث ظهرت أولى حالات الإصابة به في ديسمبر/كانون الأول عام 2019، تصاعدت المطالبات الغربية بإجراء تحقيق دولي لتحديد أصل الفيروس والإجابة عن التساؤلات بشأن منشأه، في ظل اتهامات للصين بعدم الشفافية وإخفاء المعلومات الأساسية حول نشأة الفيروس، وفي الوقت نفسه تعرّضت منظمة الصحة العالمية ورئيسها الإثيوبي تيدروس أدهانوم غيبراسيوس لاتهامات بالتواطؤ مع الصين، وجّهتها له الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة دونالد ترامب.
وتحت الضغوط الدولية تم اتخاذ قرار أممي بتشكيل فريق تحقيق من خبراء منظمة الصحة العالمية توجه بالفعل إلى الصين، وأخيراً تم نشر نتائج التحقيق الذي انتظره العالم طويلاً، لكن المفاجأة هي أن التحقيق لم يخرج بإجابات مجددة، بل يمكن القول إنه أثار مزيداً من التساؤلات والشكوك.
واللافت أن غيبرسيوس نفسه، أثناء تقديمه نتائج التحقيق لزعماء الدول الثلاثاء، 30 مارس/آذار، وجّه انتقادات نادرة للصين بشأن "تقييد حصول أعضاء فريق التحقيق على البيانات الأصلية حول فيروس كورونا"، معلناً استعداده لإرسال فريق جديد من خبراء "أكثر تخصصاً لإجراء تحقيق أوسع" بشأن فرضية تسرب الفيروس المتسبب في جائحة كورونا من أحد المختبرات الصينية، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
4 سيناريوهات للفيروس
التقرير الذي أعده فريق الخبراء التابعين للمنظمة الدولية خلص إلى أربعة سيناريوهات أو فرضيات تتعلق بكيفية نشأة الفيروس وتحوله إلى جائحة عالمية، لا تزال مستمرة وتحصد الأرواح، تصدرتها فرضية "انتقال الفيروس إلى الإنسان عبر حيوان وسيط"، وهي الفرضية الشائعة، ومعناها أن الفيروس انتقل بشكل طبيعي من حيوان يعد المصدر أو الخزان هو على الأرجح الخفافيش، عبر حيوان آخر لم يتم تحديده حتى الآن، ومنه إلى الإنسان، ومن بين الحيوانات الوسيطة المشتبه بها الهرّ والأرنب والمنك، أو حتى آكل النمل الحرشفي أو النمس.
أما الفرضية الثانية التي جاء بها التقرير فهي احتمال انتقال الفيروس من مصدره الحيواني (الخفاش على الأرجح) إلى الإنسان مباشرة، معتبراً أنها "فرضية ممكنة إلى مرجحة"، والسيناريو أو الفرضية الثالثة هي أن يكون الفيروس قد انتقل للبشر عبر اللحوم المجمدة.
أما الفرضية الرابعة التي خلص إليها التقرير، والخاصة بتسرُّب الفيروس من أحد معامل الفيروسات في ووهان بالصين، فقد اعتبرها الخبراء "غير مرجحة"، لكن بيتر بن مبارك قائد الفريق البحثي، قال في مؤتمر بجنيف، إنه تم إبلاغ الفريق من قبل مختبرات ووهان التي زاروها وتواصلوا معها أنها لم تكن تعمل على "سارس-كوف-2" (الفيروس المسبب لوباء كوفيد)، وأنه لم يكن ضمن مجموعاتها، وأضاف: "هناك بالطبع دائماً احتمال بأن الفيروس موجود وكان ضمن عيّنات لم تكن تمّت معالجتها بعد، أو بين فيروسات لم يتم بعد تحديد خصائصها".
تبادل الاتهامات بين الصين والغرب
وكان من المفترض أن يكون تقرير فريق التحقيق التابع لمنظمة الصحة العالمية المحطة الأخيرة في رحلة العالم للبحث عن إجابات شافية بشأن الوباء الذي أصاب الحياة على الكوكب بحالة أشبه بالشلل اقتصادياً واجتماعياً، لكن يمكن القول إن النتائج غير الحاسمة التي خرج بها التحقيق أضافت مزيداً من الغموض، وهذا ما قاله نصاً المدير العام لمنظمة الصحة العالمية: "هذا التقرير بداية مهمة جداً، لكنه ليس كلمة الفصل".
وكان رد الفعل في الغرب مناقضاً تماماً لرد الفعل في الصين، فقد أصدرت 14 دولة غربية منها الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وكوريا الجنوبية وبريطانيا بياناً عبرت فيه عن "قلقها من النتائج التي توصل إليها التقرير"، مطالبين الصين بمزيد من التعاون والشفافية بشأن المعلومات الأصلية عن نشأة الفيروس.
بينما ركزت الصين على تصريحات رئيس فريق التحقيق بن مبارك خلال مؤتمر صحفي عقده في ووهان، وقال خلاله للصحفيين إن فرضية "تسرب الفيروس في معمل بووهان" غير مرجحة، وأعادت وسائل الإعلام المحلية في بكين التأكيد على فرضية انتشار الفيروس من خلال "اللحوم المجمدة"، وأن مصدره الأصلي أحد المعامل الأمريكية، وبالتحديد معمل عسكري في ولاية ميريلاند.
وبالطبع أسهمت تصريحات غيبراسيوس بشأن عدم استبعاد فرضية "تسرب الفيروس من معمل في ووهان" من على طاولة البحث، مناقضاً تصريحات رئيس فريق الخبراء، في إضافة مزيد من أسباب الجدل الذي أصبح سياسياً بامتياز، وهو ما يقول علماء وخبراء إنه يزيد من صعوبة مهمة الوصول إلى الحقيقة الكاملة بشأن الفيروس، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
حقيقة فيروس كورونا قد لا تظهر أبداً
وربما يتبادر إلى الذهن سؤال حول جدوى اللغط بشأن كيف نشأ الفيروس، خصوصاً أنه تم بالفعل التوصل للقاحات متعددة له في زمن قياسي وبدأ العالم حملات التطعيم بالفعل، لكن العلماء وخبراء الفيروسات يعتبرون اكتمال المعلومات بشأن الفيروس نقطة أساسية لا غنى عنها للتعامل معه والقضاء عليه، وأيضاً لوضع السيناريوهات المستقبلية لكيفية تفادي الوباء القادم أو على الأقل الاستعداد المبكر له.
وعلى الرغم من التوصل بالفعل لكمّ هائل من المعلومات بشأن فيروس كورونا منذ ظهوره، فإن تلك المعلومات تظل غير مكتملة، وهذا ما عبرت عنه مورين فيران، المدرس المساعد للبيولوجي في معهد روتشستر للتكنولوجيا في تقرير سابق لشبكة CNN: "لقد توصلنا لكمّ هائل من المعلومات بشأن الفيروس، لكن فيما يتعلق بفهم أي شيء يتعلق به بتفاصيل حقيقية وكاملة ما زلنا بعيدين تماماً. وسوف تستغرق دراسة هذا الفيروس من علماء الفيروسات ومسؤولي الصحة العامة عقوداً طويلة حتى يكشفوا كل ألغازه".
والآن في ظل النتيجة غير الحاسمة التي خرج بها فريق خبراء منظمة الصحة العالمية وإعلان مدير المنظمة عن استعداده لإرسال فريق تحقيق آخر أكثر تخصصاً إلى الصين، تشير المعطيات الحالية إلى أن بكين على الأرجح لن تسمح باستقبال فريق تحقيق آخر، ما لم يتم إرسال فرق تحقيق إلى الولايات المتحدة وبالتحديد إلى معمل ميريلاند العسكري، وهذا بالفعل ما بدر عن بكين بعد تصريحات غيبراسيوس الأخيرة.
والخلاصة هنا هي أن العالم ربما لا يتوصل للحقيقة الكاملة بشأن كيفية تفشي وباء كورونا في ظل التوظيف السياسي للجائحة منذ ظهورها وحتى اليوم، مروراً بدبلوماسية اللقاحات وتحولها إلى حرب في بعض الأحيان، وهو ما يعني أن عودة الحياة إلى طبيعتها وانتهاء جائحة كورونا ربما يكون أبعد مما كنا نعتقد.