أبرمت الصين وإيران اتفاقية تعاون إستراتيجي واسعة النطاق، أُعدَّت في إطار خارطة طريق تمتد لمدن 25 عاماً، وهي خطوة مهمة لتحقيق شراكة إستراتيجية شاملة بين قوتين آسيويتين تجمعهما عديد من المصالح المشتركة. فما الذي تمثله حقيقة هذه الاتفاقية وما انعكاساتها على التطورات في المنطقة؟
اتفاقية شراكة شاملة بين إيران والصين
تنطوي الاتفاقية التي وقعت السبت 27 مارس/آذار 2021، على مكونات سياسة -إستراتيجية واقتصادية وثقافية، وهي "مصمَّمةُ لضمان تعزيزٍ شامل لكل جانب من جوانب العلاقات بين الصين وإيران على المدى الطويل". وفي البعد السياسي-الإستراتيجي (العسكري والدفاعي والأمني)، عمدت الاتفاقية إلى محاولة ترسيخ مواقف التعاون والقرب بين البلدين في هيئة آليات دائمة، مع تعزيز التبادلات والمشاورات والتعاون الوثيق في القضايا ذات الاهتمام المشترك والاتفاق على مستوى العمل المؤسسي الإقليمي.
ويمكن اعتبار تعزيز البنية التحتية الدفاعية ومكافحة الإرهاب وإجراء مناورات عسكرية منتظمة، ضمن عروض القوة والتوافق بين البلدين، من أهم المحاور في هذا الصدد.
ويعد التعاون الاقتصادي أيضاً أحد المحاور الرئيسة للتعاون طويل الأمد بين البلدين. وشدَّد الاتفاق على المصالح الداخلية للبلدين وحيال الدول الأخرى، وأخيراً على استغلال الإمكانيات الإيرانية، ومنها القوى العاملة الشابة والماهرة. كما أوثقت الاتفاقية التعاونَ في مجالات النفط والصناعة والتعدين، والمجالات المتعلقة بالطاقة (الوقود، والطاقة المتجددة، إلخ)، بناءً على ما تقتضيه أولويات التنمية الوطنية المستدامة والمناسبة لظروف البيئة المحيطة.
وتجدر الإشارة إلى أن الاتفاقية، مستدعيةً مقصدَ تعظيمِ الفوائد الجيوسياسية والجيواقتصادية، أكّدت المشاركة الفعَّالة لإيران في مبادرة "حزام واحد، طريق واحد" الصينية، ويشمل ذلك التعاونَ الشامل في إطار هذه المبادرة مع إعطاء الأولوية لتعاون فيما يتعلق بالبنية التحتية من المقرر وضعه في جدول الأعمال. وفي هذا الصدد، ينصب التركيز على السكك الحديدية والطرق والموانئ والمطارات، ومجال الاتصالات والعلوم والتكنولوجيا والتعليم والصحة.
وتشدد الاتفاقية خاصةً على تيسير السبل أمام الإجراءات الفعالة فيما يتعلق بالتعاون الاقتصادي والتجاري، وبناء على ذلك، تسهيل التعاون المالي والمصرفي وما يتصل بالجمارك وإلغاء الضوابط ومنح التسهيلات وفقاً لقواعد التجارة الحرة والمناطق الاقتصادية الخاصة، إضافة إلى تعزيز التعاون والتجارة غير النفطية. أما في البعد الثقافي، فقد ركز الاتفاق على دعم الترويج للسياحة والتعاون على مستوى الإعلام والأوساط الأكاديمية ومختلف المؤسسات الثقافية غير الحكومية.
عقوبات أمريكا "القصوى" على إيران دفعت الأخيرة نحو الصين
في تحليل منشور مؤخراً بموقع Modern Diplomacy الأمريكي للدراسات، يقول الموقع إنه بعد ثلاث سنوات من انسحاب ترامب من الاتفاقية النووية مع إيران، وانتهاج الإدارة الأمريكية سياسة "الضغط القصوى" على إيران، يبدو أن العقوبات الأمريكية زادت من رغبة طهران في الاستناد إلى بكين بوصفها حليفاً اقتصادياً وسياسياً يمكن الاعتماد عليه. لكن أيضاً بسبب سياسة الضغط القصوى الأمريكية، فإن هذه الاتفاقية تبدو أكثر ربحية لإيران منها للصين، غير أن ذلك لا يمنع أنها فتحت الباب أمام بكين لترسيخ مكانتها بوصفها أحد المشترين الرسميين القلائل للنفط الإيراني، علاوة على تعزيز وجودها في الاقتصاد الإيراني.
برزت منطقة الخليج بوصفها ساحةً جديدة لتنافس القوى العظمى بين الولايات المتحدة والصين. وتعتبر الصين الإقليم منطقةَ مصالح إستراتيجية حيوية ينبغي أن تضطلع فيها بدورٍ أكثر نشاطاً، ومن ثم فهي كما أشارت صحيفة Global Times الصينية، حريصةُ على استقرار البيئة التي ستساعد، إلى جانب أمور أخرى، استثماراتها في البنية التحتية في المنطقة.
وهذا، من منظور الصين، يعتمد على الاستقرار داخل المنطقة، ووفقاً للتقديرات الصينية، فإن فرص النمو التي ستتحقق من خلال مبادرة الحزام والطريق ستُقلل من التوترات في الشرق الأوسط. من ثم، وعلى خلاف المستثمرين الأوروبيين المترددين، شرعت الصين في ضخ الاستثمارات في إيران. وأحدث مثال على ذلك ما أوردته صحيفة South China Morning Post عن صفقةِ سكك حديدية تعتزم الصين دعمها في إيران بمبلغ يصل إلى 538 مليون دولار أمريكي.
إحجام الصين عن التصرف بوصفها "ضامناً للأمن"
عاد التركيز مؤخراً إلى التنافس السعودي الإيراني والتوترات المستمرة منذ عقود بين الخصمين الإقليميين. وبحسب تصريحات وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف، لوكالة Reuters، فإن "السعودية لا تريد خفض التصعيد، ويستنبط المرء أن الرياض كانت تعمل تحت تأثير حملة الضغط القصوى لإدارة ترامب على إيران".
أما وجهة النظر السعودية، فترى أن سلوك إيران متهور ويهدد الاقتصاد العالمي، ومن ثم فإن إيران يجب أن تغير نهجها قبل إجراء أي حوارات بين طهران والدول الأخرى.
من جهة أخرى، وعلى الرغم من أن الاتفاق الصيني الإيراني أثار نقاشات مكثفة في وسائل الإعلام الدولية، فإن إيران ليست الدولة الوحيدة في المنطقة التي تحافظ على شراكة إستراتيجية مع الصين. إذ إن دول مجلس التعاون الخليجي مثل السعودية (منذ عام 2016) والإمارات (منذ عام 2018) تفعل ذلك أيضاً. ووفقاً لقاعدة بيانات The China Global Investment Tracker، المعنية بتتبع الاستثمارات الصينية في جميع أنحاء العالم، فإن بكين استثمرت ما يقرب من 62.55 مليار دولار في السعودية والإمارات في الفترة من عام 2008 إلى عام 2019. كما وصل إجمالي المبلغ الذي استثمرته الصين في جميع دول مجلس التعاون الخليجي عن نفس الفترة، إلى 83 مليار دولار.
وتنوعت هذه الاستثمارات بين المشروعات التكنولوجية ومصايد الأسماك ومشروعات النفط وشق الطرق وما إلى ذلك، وكلها أجزاء من مشروع طريق الحرير البحري الصيني الذي تعتبر دول مجلس التعاون الخليجي ذات أهمية إستراتيجية فيه. وقد تجاوز التبادل التجاري بين الصين ودول المجلس الخليجي مبلغ 180 مليار دولار في عام 2019، وهو ما يشكّل 11 % من التجارة الخارجية لدول مجلس التعاون الخليجي. وفي عام 2020، حلَّت الصين محل الاتحاد الأوروبي شريكاً تجارياً أساسياً لدول المجلس.
في المقابل، وبالنظر إلى سياق الأحداث الأخيرة في مضيق هرمز، والتي أفضت إلى تكثيف التوترات، فقد تضطر الصين إلى الاضطلاع بدور أمني أوسع نطاقاً للحفاظ على حرية الملاحة وهو أمر لا غنى عنه لأمن الطاقة وتدفق إمدادات النفط عبر الخليج. مع ذلك، وبصرف النظر عن التوترات الإقليمية الحالية والمخاطر العالية باشتعال صراعات عسكرية بتهديد من سلوك ترامب مؤخراً، فإن الصين لطالما أبدت تردداً شديداً حيال الانغماس في التوترات الإقليمية، وبذلت الجهود دائماً لتجنب التورط في أي صراع عسكري.
لكن من ناحية أخرى، فإن إحجام الصين عن العمل بوصفها ضامناً أمنياً في الخليج يصب في صالح القول إن قوتها الشاملة في الشرق الأوسط لم تتبين ملامحها وحدودها بعد. ويبدو من غير المرجح أن تعلن بكين عن أي مبادرات سلام لصالح أمن الخليج العربي، وأن تستمر في دعواتها العامة لإقرار السلام في المنطقة، وهو ما يندرج تحت الحفاظ على سياستها الحالية بعدم التدخل.
الصين ترمي إلى توسيع نطاق أنشطتها الاقتصادية والعسكرية في المنطقة
بناء على ما سبق، يمكن القول إن إيران شريكٌ أساسي في خطط بكين الاقتصادية في الشرق الأوسط. وتعمل الصين وإيران بهدف الحفاظ على آليات منتظمة للحوار الحقيقي حول جميع القضايا المشتركة. ومع ذلك، فإن دول مجلس التعاون الخليجي تسعى إلى كبح جماح الدعم الصيني لإيران. غير أن الصين، من جانبها، لن تعمد إلى علاقة أحادية الجانب لا مع دول مجلس التعاون الخليجي ولا مع إيران.
ويعني ذلك أن الصين، عن طريق تجنبها الانحياز لصالح الحفاظ على علاقاتها الثنائية مع إيران ودول مجلس التعاون، تظل حريصة على موازنة علاقاتها مع جميع القوى الإقليمية. ومن خلال التحايل على أي مشاركة مباشرة في المعارك الإقليمية، ترمي الصين إلى مزيدٍ من توسيع نطاق أنشطتها الاقتصادية والعسكرية في تلك المنطقة الإستراتيجية، وتأمين تدفق صادرات النفط التي هي في أمس الحاجة إليها في ظل هذا المناخ التنافسي، وكل ذلك دون التورط في اضطرابات المواجهات السياسية والأمنية في الخليج العربي.
مع الحضور البارز للصين الآن في العلاقات مع إيران، سيتعين على واشنطن الإقرار بمصالح بكين. كما أن الصين بنهجها، تجعل البنية الأمنية الحالية لمنطقة المحيط الهندي عرضة للتشكيك. وسيؤدي ذلك في النهاية إلى تقويض دور الولايات المتحدة والهند المتعلق بكونهما شبكة ضمان الأمان في الخليج العربي والمحيط الهندي، وهو ما يقلص من دورهما ومزايا التمدد الجغرافي لهما في المنطقة.
علاوة على ذلك، توفر الاتفاقية الصين سبيلاً للحفاظ على وجود مستدام على طول مضيق هرمز، ومن ثم سيكون لها فعلياً وجود مُحكم عبر نقطتين رئيستين في المحيط الهندي، جنباً إلى جنب مع باب المندب. وبذلك، فإن الوجود الصيني على طول مضيق هرمز من شأنه أن يضفي الشرعية على قواعد بكين الخارجية لحماية مصالحها البحرية، ويمنح المصداقية لمزاعم بكين بأنها لاعب مسؤول على الساحة العالمية.
في الختام، وإذا أردنا تلخيص الأمر فيما يتعلق بالأمن الإقليمي، فإن احتمال نشوب صراع أوسع نطاقاً في المنطقة لن يقتصر خطره على تهديد صادرات النفط فحسب، بل يهدد أيضاً بإبعاد المستثمرين الأجانب، وذلك في حين أن إيران ومعظم دول مجلس التعاون هي دول في أمس الحاجة إلى رأس مال جديد وتكنولوجيا متطورة ومعرفة إدارية. ومن ثم، يبدو أن إجراء حوار مستدام وشامل حول أمن الخليج العربي بدعم ووساطة جهات خارجية مثل الصين من المتصور أنه يُفضي إلى اتخاذ تدابير عملية لبناء الثقة تدريجياً وتوسيع نطاق التعاون. ويمكن أن تتطور مثل هذه الآلية الشاملة إلى منصة منظمة لبناء الثقة تعمل على معالجة كلٍ من التحديات الخاصة بقضايا معينة والأسئلة الأشمل حول الأمن في منطقة الخليج.