صعوبات كبيرة كانت تواجه عملية تعويم السفينة الجانحة في قناة السويس، كادت أن تؤدي إلى إطالة أمد الأزمة إلى أسابيع طويلة، ولكن ظهور عدة لاعبين جدد أدى إلى تغيير درامي، الأمر الذي أنقذ الاقتصاد العالمي من تداعيات ضخمة.
فلقد واجهت عملية تعويم السفينة الجانحة "إيفرغيفن"، التي استمرَّت أسبوعاً في قناة السويس صعوبةً في إحراز تقدُّمٍ، وبدا أن العملية قد تمتد لأسابيع، ولكن حين توافقت الطبيعة والخدمات اللوجيستية، تمت عملية تعويم السفينة الجانحة بشكل فاجئ المتابعين، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
جاء الفارق في النهاية من خلال كراكة مصرية عملاقة وزورقي سحب عاليين وقوةٍ أكبر منهما جاءت من الطبيعة، تمثَّلَت هذه القوة في المدِّ الذي تصاعد إلى أعلى نقطةٍ له على مدار شهور مع اكتمال القمر، ثم انحسر بقوةٍ، مِمَّا ساعَدَ على تحرير السفينة إيفرغيفن.
الصحيفة البريطانية عرضت رواية رئيس وحدة الإنقاذ الهولندية التي ساعدت في إدارة العملية، والذي قالت إنه قدَّم أشمل سردٍ لعملية تعويم السفينة الجانحة حتى الآن للمنافذ الإعلامية في هولندا.
جرف كميات هائلة من الرمال
لمدة خمسة أيام وليالٍ طويلة، قام فريقٌ من العمال المصريين بالتنسيق مع الخبراء الهولنديين واليابانيين بجرف كمياتٍ هائلة من الرمال، وحاولوا سحب السفينة باستخدام ما يقرب من اثني عشر زورقاً عادياً.
وقال بيتر بيردوفسكي، الرئيس التنفيذي لشركة بوسكاليس، لقناة NPO الإذاعية الهولندية: "العمل الحقيقي لا يمكن أن يبدأ إلا عند وصول قاطرتين بحريَّتين قويَّتين. كنَّا دائماً نظنُّ أن التجريف الذي تم حتى ذلك الحين كان سيساعد قليلاً في الأمر، لكنه لم يكن كافياً".
كان هناك عددٌ قليلٌ من زوارق السحب المتمركزة قريباً في هذه المنطقة من البحر الأحمر، نظراً لأن بيئة المنطقة هادئة، وبالتالي لا تجتذب مثل هذه المعدات.
ومع انسداد القناة، وبالتالي صعوبة جلب المدد من البحر المتوسط، كانت زوارق القطر تأتي من الطرف الجنوبي، مِمَّا قلَّل الخيارات المتاحة.
وصل الزورق الأول، وهو الزورق الهولندي Alp Guard القادر على سحب 285 طناً مترياً -أي بقوةٍ أكبر بنسبة 75% من أسطول زوارق السحب في القناة- صباح الأحد.
وحتى ذلك الوقت، لعبت الجرافة المصرية مشهور (المملوكة لهيئة قناة السويس) دوراً مهماً.
إذ ساعد تجريف الرمال الذي قامت به أطقم السفن، بما في ذلك الطاقم على متن السفينة المصرية "مشهور"، في نقل 30 ألف متر مكعب من الرمال خلال الأسبوع الماضي.
تفاؤل بإمكانية تعويم السفينة الجانحة
وفي الساعات الأولى من صباح يوم الإثنين، ساد التفاؤل على ضفاف القناة بشأن عملية تعويم السفينة الجانحة، بما في ذلك بين فريق بوسكاليس المُكوَّن من 15 شخصاً في الموقع.
قال بيردوفسكي: "كنت متأكِّداً بنسبة 70% أن ذلك سيحدث يوم الإثنين، لأن الأمور كانت قد بدأت تتحرَّك قليلاً يوم الأحد".
وعند شروق الشمس، سُحِبَت مؤخِّرة السفينة، التي ظلَّت عالقة لمدة أسبوع على بُعد حوالي 4 أمتار من الشاطئ، بمقدار 120 متراً داخل القناة، فصاح العاملون بالتهليل والتكبير.
وقال بيردوفسكي لصحيفة Het Financieele Dagblad الهولندية، إنه حين أُعيدَ تعويم مؤخِّرة السفينة، وفَّرَ ذلك لفريق الإنقاذ فرصة لأن يجعلوا المؤخِّرة تعمل كرافعةٍ ضخمة يبلغ طولها 400 متر، للمساعدة في رفع الواجهة الأمامية للسفينة التي كانت لا تزال عالقة في رمال ضفة القناة.
في صباح يوم الإثنين، ظهر زورق سحب قوي آخر، وهو Carlo Magno وهو يحمل الاسم الإيطالي لشرلمان إمبراطور دولة الفرنجة (فرنسا حالياً).
استعدَّ هذا الزورق الذي يرفع علم إيطاليا وقت الظهيرة لتحرير مقدِّمة السفينة.
من خلال العمل مع زملائهم المصريين، كان المستشارون الهولنديون يديرون الحسابات، حسب الصحيفة البريطانية.
وقال بيردوفسكي: "كان دور بوسكاليس في الأساس هو إجراء الحسابات". وأضاف: "لذا حين حُرِّرَت المؤخِّرة صباح الإثنين، حسبنا أنه يجب أن نسمح بدخول ألفي طن من ثقل المياه في مؤخِّرة السفينة للضغط على المؤخِّرة من أجل رفع المقدِّمة".
وتابع: "هذا هو نوع العمل الحسابي الذي نقوم به؛ نحدِّد الموضع الدقيق الذي نحتاج فيه إلى عمل زوارق السحب، والاتجاه الدقيق الذي يجب أن تسحب فيه، وفي أيِّ وقت، حتى نتمكَّن من الاستفادة القصوى من المدِّ والجزر".
ارتفع المدُّ الربيعي عند الظهيرة، وانحسر بشكلٍ حاد خلال الساعات التالية، حيث كان بمثابة يدٍ غير مرئية ترفع مقدِّمة السفينة، بينما تسحب زوارق السحب السفينة من مؤخِّرتها.
قال بيردوفسكي: "ساعدتنا قوة المدِّ بشكلٍ كبير. إنك تتعامل مع قوةٍ أكبر من قوة زورقي السحب".
كان أحد أسباب نجاح عملية تعويم السفينة الجانحة إضافة إلى عمليات التجريف، هو الحسابات الناجحة لظاهرة المد والجذر والتيارات البحرية واستغلالها لشد السفينة، حسبما قال الفريق مهاب مميش، مستشار الرئيس المصري لمشروعات محور قناة السويس والموانئ البحرية لقناة "سكاي نيوز عربية".
وذكر مميش أن الحسابات أظهرت أن المد البحري سيكون عالياً يوم الأحد 28 مارس/آذار2021، ليصل إلى نحو 80 سم.
ومن المعروف أن الجزء الجنوبي لقناة السويس يشهد مستوى مرتفعاً من المد مقارنة بالجزء الشمالي، لأن الجزء الجنوبي أقرب للبحر الأحمر وخليج السويس الذي يشهد عملية مد وجذر أكبر من البحر المتوسط المرتبط بالجزء الشمالي للقناة.
يقول بيردوفسكي "كانت هناك تقارير تفيد باحتمال وجود صخرة تحت مقدِّمة السفينة، لكن تبيَّن أن هذا ليس هو الحال".
في حوالي الساعة الثالثة مساءً، من يوم الإثنين، أُعيدَ تعويم مقدِّمة السفينة، ما أنهى ما كان يمكن أن يصبح عمليةً استمرَّت لأسابيع تكلِّف التجارة العالمية ما بين 6 و10 مليارات دولار في اليوم.
قال بيردوفسكي: "لم يكن علينا إزالة المزيد من الرمال، كانت تلك الخطة ب، وكنَّا مستعدين لذلك، وكنَّا مستعدين كذلك للخطة ج التي كانت تتمثَّل في إزالة الحاويات من على متن السفينة، لكننا كنَّا نأمل أن تنجح الخطة الأولى، ونجحت بالفعل".
دور الكراكة "مشهور"
احتُفِلَ بهذه المهمة على نطاقٍ واسعٍ في مصر، بما في ذلك بالطبع طاقم سفينة الحفر والتجريف المعروفة باسم الكراكة مشهور.
وفقاً للمعلومات التي أعلنتها هيئة قناة السويس عن الكراكة مشهور فهي الأضخم لديها، ويعود بناؤها إلى العام 1996، يبلغ طولها 140.3 متر، وعرضها 22.4 متر، وارتفاعها 7.2 متر، بينما يصل أقصى عمق للتكريك 35 متراً.
وأطلق عليها اسم مشهور نسبة إلى المهندس مشهور أحمد مشهور، أحد أبرز رؤساء هيئة قناة السويس، والذي تولى رئاستها في 14 أكتوبر/تشرين الأول من العام 1965، واستمر في منصبه حتى 31 ديسمبر/كانون الأول من العام 1983، محتلاً الترتيب الثالث في قائمة من تولوا المنصب، عقب تأميم القناة على يد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في العام 1956.
قائد أكبر سفينة حفر في الشرق الأوسط يشعر بالرعب
"كنا أشبه بسيارة تحفر أساس عمارة وننتظر سقوطها في أي لحظة"، هكذا يصف أحمد منصور، قائد الكراكة مشهور، أكبر مخاوفه هو وطاقم الكراكة أثناء تعويم السفينة الجانحة في قناة السويس .
تم استدعاء منصور ورفاقه، لحل معضلة السفينة بعدما فشلت محاولة الاعتماد على الكراكة "العاشر"، ولذا لجأت هيئة قناة السويس لاستخدام الكراكة "مشهور"، والتي تعد أكبر كراكة في الشرق الأوسط، وتتمكن من تعميق المجرى الملاحي حتى 35 متراً تحت سطح الماء.
يقول منصور: "حين سمعنا عن الأمر في البداية لم نكن نتوقع أن السفينة بحاجة لتكريك، لكن عندما رأينا الرقم على الأجهزة، شعرنا بالرعب، ورغم ذلك كنت أثق أنه يمكن للكراكة مشهور حل الأمر؛ لأنها نفذت مشروعات ضخمة، بينها مشروع شرق التفريعة وغيرها، ولكن الرعب كان من حجم السفينة".
مهمة منصور وفريقه على الكراكة، تتمثل في إزالة الصخور والترسبات بجوار السفينة، والتي تحول دون وصول تيار الماء إلى جسم السفينة، إذ يقول "كانت مهمتنا تعميق المجرى الملاحي مرة أخرى؛ ليتمكن تيار المياه من دفع السفينة".
خلال أول نظرة للسفينة الجانحة، أصاب القلق منصور وطاقم الكراكة، وازدادت مخاوفهم بعدما كشفت أجهزة المراقبة أن مقدمة السفينة و70 متراً من جسمها ملامس للأرض، وهو ما يعني أننا بحاجة لتكريك كل هذه المسافة بعمق وصل إلى 12 متراً، حسبما ورد في تقرير لموقع "مصراوي".
يقول منصور، إن الكراكة مشهور بعدما وصلت إلى عمق 14 متراً على بعد 15 متراً من السفينة، توقفنا عن العمل لمراعاة "معدلات الأمان"، لكن خلال يوم كامل من محاولات قطر السفينة لم تتحرك أيضاً، فعدنا مرة أخرى للعمل لكن بمسافة أقرب، وهذه كانت مخاطرة أكبر.
مَن صاحب الفضل في تعويم السفينة الجانحة بقناة السويس؟
يبدو واضحاً أن الجانب المصري كان له الدور الرئيسي في عملية التجريف (التكريك)، حيث قال كبير المرشدين، وسام حافظ، لقناة "سكاي نيوز عربية"، إن فكرة التكريك أسفل غاطس المركب (الحفر) هي فكرة رئيس هيئة قناة السويس أسامة ربيع، وساهمت في تعويم السفينة الجانحة.
ولكن كان من الواضح أن النقص كان لدى الجانب المصري في زوارق القطر، كما أقر مسشار الرئيس المصري مهاب مميش، الذي أكد على الحاجة إلى بعض التطويرات في القناة، خاصة فيما يتعلق بشراء زوارق قطر أكبر وأكثر قوة من الموجودة حالياً لدى هيئة قناة السويس، لأن أحجام السفن قد كبرت حالياً.
ومن هنا كان مجيء القاطرتين الهولندية والإيطالية ليضيف قوة سحب إضافية تتوج عمليات التجريف التي جرت على مدار أسبوع من قبل الجهات المصرية.
يقول بيردوفسكي: "كان علينا أن ننتظر خمسة أيام حتى يكون لدينا هذا النوع من السفن القادرة على إنجاز المهمة. كنَّا نعلم أننا لن نكون قادرين على إنجاز الكثير قبل هذه النقطة… وبمجرد وصولهم إلى هنا، انتهينا في يومٍ واحد".
بعد أن ساهَمَ في استئناف أكثر من عُشر التجارة العالمية، لم يعد لدى فريق بوسكاليس أيُّ خططٍ للبقاء في مصر، ومن المُقرَّر سفر الفريق يوم الإثنين. وقال بيردوفسكي: "هناك خمس مهمات أخرى في انتظارنا".