جاء توقيع السودان لاتفاق مع الحركة الشعبية لتحرير السودان (جناح الشمال)، ليمثل خطوة مهمة لإنهاء الحروب الأهلية التي تعصف بالبلاد، ولكنه أثار تساؤلات حول حق السلطة الانتقالية في تحديد هوية البلاد دون موافقة شعبية وذلك عبر إقرارها العلمانية في الاتفاق.
ووقعت الحكومة السودانية، الأحد 28 مارس/آذار 2021، وثيقة إعلان مبادئ مع الحركة الشعبية لتحرير السودان التي تعد جماعة متمردة رئيسية في البلاد، لتمهيد الطريق أمام إبرام اتفاق نهائي للسلام من خلال ضمان حرية العبادة للجميع وفصل الدين عن الدولة.
وكان لافتاً أن الاتفاق وقعه رئيس مجلس السيادة الانتقالي بالسودان عبدالفتاح البرهان بنفسه مع قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان (جناح الشمال) عبدالعزيز الحلو، في جوبا عاصمة جنوب السودان برعاية رئيس جنوب السودان سلفا كير.
ولكن الاتفاق أثار انتقادات داخل السودان، لأنه تضمن إعلان علمانية الدولة، حيث رأى النقاد أن مثل هذا التوجه لا يجب أن يفرض من السلطة الانتقالية والتي هي غير المنتخبة.
مجال نفوذ الحركة الشعبية لتحرير السودان
وتقود "الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال" تمرداً في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق منذ يونيو/حزيران 2011، وفشلت أكثر من 10 جولات تفاوضية بينها وبين النظام السابق في التوصل لاتفاق سلام.
وجاء توقيع الاتفاق بعد أسابيع من اتهام السودان للحكومة الإثيوبية بتقديم دعم لوجستي لقوات "الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال"، ونائب قائدها جوزيف توكا في ولاية النيل الأزرق المجاورة لإثيوبيا.
ويعد هذا التوقيع خطوة مهمة في الجهود التي تبذلها حكومة تقاسم السلطة برئاسة عبدالفتاح البرهان، للتوصل لاتفاقات مع الجماعات المتمردة في أنحاء البلاد، وإنهاء صراعات مستمرة منذ عشرات السنين أدت إلى تشريد الملايين وسقوط مئات الآلاف من القتلى، بحسب "رويترز".
ويأتي هذا الاتفاق بعد اتفاق سلام وقعته الخرطوم بعد سقوط البشير مع جماعات متمردة كثيرة من بينها جماعات من إقليم دارفور غرب البلاد، لكن اتفاق العام الماضي لم يشمل الحركة الشعبية لتحرير السودان، التي تعد الفرع الشمالي لحركة تحرير السودان التي قادت انفصال الجنوب عن السودان.
اتفاق تمهيدي
ويعني توقيع "إعلان المبادئ" في جوبا عاصمة دولة جنوب السودان، بين الخرطوم والحركة أن محادثات التوصل لاتفاق نهائي يمكن أن تبدأ الآن.
وبحسب بيان لمجلس السيادة السوداني، قال توت قلواق، مستشار رئيس جنوب السودان ورئيس لجنة الوساطة الجنوبية، إن اللقاء الذي جرى بين رئيس مجلس السيادة ورئيس الحركة شمال، قطع أشواطاً متقدمة في إطار التفاهمات المشتركة حول إعلان المبادئ.
وفي السياق نفسه، وصف عضو مجلس السيادة الانتقالي السوداني، الهادي إدريس، اتفاق جوبا لسلام السودان بأنه "اتفاق قومي عالج التهميش والتخلف" في بلاده.
وأفيد بأن لجنة الوساطة ستقوم مباشرة، بعد توقيع إعلان المبادئ بوضع جدول المفاوضات بين الأطراف التي قال إنها أصبحت الآن جاهزة للجلوس إلى طاولة المفاوضات.
لماذا وقع البرهان نفسه على الاتفاق؟
توقيع البرهان نفسه على اتفاق المبادئ سابقة في السودان تشير لاهتمام الدولة بهذا الاتفاق.
مخاوف النكوص وحدها هي ما جعل الحركة الشعبية لتحرير السودان تصر على أن يكون اتفاق المبادئ بتوقيع رأس الدولة، أي عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني كسابقة نادرة في اتفاقات المبادئ التي وقعتها الحكومة المركزية مع حركات التمرد.
وطبقا لقائد بارز في الحركة الشعبية، فإن ذاكرتهم تحتشد بالكثير من حوادث نكوص الحكومات المركزية عن اتفاقات مشابهة وقع عليها مسؤولون حكوميون دون رأس الدولة، مما سهل التراجع عنها.
ويقول محمد يوسف مصطفى رئيس الحركة الشعبية-شمال في المناطق خارج سيطرة الحركة، إنه لأول مرة يوقع إعلان مبادئ من أعلى مستويات الطرفين.
ويشير مصطفى إلى أن اتفاقات المبادئ في ميشاكوس والدوحة وأبوجا، وحتى في اتفاق جوبا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لم تمهر بتوقيع مماثل لمستوى إعلان المبادئ بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية-شمال.
وفي 28 يونيو/حزيران 2011، ألغى الرئيس المعزول عمر البشير ما اصطلح عليه باسم اتفاق "نافع/عقار" الموقع بأديس أبابا برعاية الاتحاد الإفريقي، وقيل إنه فعل ذلك تحت ضغوط من جماعات وصفت بالمتشددة.
وحتى بعد الإطاحة بالبشير، نقض تصريح لعضو مجلس السيادة الفريق شمس الدين كباشي اتفاقاً مشتركاً بين رئيس الوزراء عبدالله حمدوك ورئيس الحركة عبدالعزيز الحلو في سبتمبر/أيلول 2020، يتضمن مبدأ فصل الدين عن الدولة في الدستور، حين قال إن "اتفاق حمدوك والحلو عطاء من لا يملك لمن لا يستحق".
ويقول محمد يوسف مصطفى "هذه سابقة مهمة لما لها من تبعات دستورية. كما أن الاتفاق تضمن شهوداً مهمين، على رأسهم رئيس دولة جنوب السودان سلفاكير ميارديت، وديفيد بيزلي المدير التنفيذي لبرنامج الغذاء العالمي أكبر مكونات الأمم المتحدة، التي تم تحويلها لأداة لصناعة السلام بدلاً عن الإغاثة".
الوحدة مقابل العلمانية
رغم التفاؤل بتوقيع اتفاق المبادئ بين الخرطوم والحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال، فإن مخاوف عديدة تسيطر على قوى سياسية وشعبية من خلق أزمة جديدة حول هوية الدولة ونظامها السياسي.
وطالبت الحركة الشعبية لتحرير السودان بتخلى الخرطوم عن تطبيق الشريعة في السياسة وأن تصبح دولة علمانية ديمقراطية.
ومنذ بدء المفاوضات مع الحركة الشعبية-شمال، عمدت دائماً لإثارة قضايا العلمانية وفصل الدين عن الدولة، وهي قضايا بالغة الحساسية وكانت دوماً تثير حفيظة الجماعات المحافظة وتقطع الطريق أمام استمرار المفاوضات بين الحكومة والحركة، فضلاً عن إصرار الأخيرة على الاحتفاظ بجيشها وعلى طرح خيار حق تقرير المصير، الذي بدوره يثير حفيظة السودانيين من واقع انفصال جنوب السودان عقب استفتاء على تقرير المصير في يوليو/تموز 2011.
ونص الاتفاق في بنده الرابع على "تأسيس دولة مدنية ديمقراطية فيدرالية في السودان، تضمن حرية الدين والممارسات الدينية والعبادة لكل الشعب السوداني، وذلك بفصل الهويات الثقافية والإثنية والدينية والجهوية عن الدولة، وألا تفرض الدولة ديناً على أي شخص، وألا تتبنى الدولة ديناً رسمياً".
ويؤكد القيادي في الحركة محمدين عمر للجزيرة نت أن اتفاق المبادئ نص على عدم استغلال الدين في السياسة، وألا يكون هناك دين رسمي للدولة، وهو ما يؤسس لعلمانية "كاملة الدسم" لكل السودان. و"ما دام تم النص على إثبات فصل الدين عن الدولة في الاتفاق، فيفهم أنه لا داعي لتقرير المصير".
من الملاحظ أن اتفاق المبادئ غابت عنه أي إشارة إلى حق تقرير المصير أو الحكم الذاتي، مع الإشارة إلى الفيدرالية التي يقرها الدستور السوداني.
وأفادت تقارير بأن البرهان وافق على شرط الحركة الشعبية-شمال بعلمانية الدولة مقابل الحفاظ على وحدة الأراضي السودانية.
وكشف عمار أمون دلدوم، السكرتير العام لـ"الحركة الشعبية – شمال" بقيادة عبدالعزيز الحلو، لموقع سكاي نيوز عربية عن قبول رئيس مجلس السيادة السوداني عبدالفتاح البرهان بمبدأ فصل الدين عن الدولة وهو مبدأ أساسي تطالب به الحركة ذات الثقل الكبير في جنوب كردفان والنيل الأزرق للتوقيع على أي اتفاق للسلام مع الحكومة السودانية.
قرار غير ديمقراطي
ورغم خفوت الأصوات المعارضة لاتفاق المبادئ الأخير مقارنة باتفاق "نافع/عقار" في 2011 واتفاق حمدوك والحلو العام الماضي، فإن المخاوف لا تزال تسيطر على الأحزاب ذات الصبغة الإسلامية، وقد حذر حزب المؤتمر الشعبي في بيان من أن أي محاولة لإقصاء الدين عن الحياة العامة يمكن أن تقود لتمزق اجتماعي وإفساد الحياة العامة.
وقال الحزب الذي أسسه الراحل حسن الترابي إن "اتخاذَ أي قرار في شأن يتعلق بهوية وقيم ومعتقد الناس لا يمكن الفصل فيه بقرارات فوقية، دون اعتبار لرأيهم انتخاباً أو استفتاء كما تقتضي قواعد الحكم المدني الديمقراطي وعبر مؤسسات منتخبة، وإنّ أي تجاوز لهذه الخطوات مرفوض ولا يمكن قبوله".
وشدد البيان على أن الإسلام يمثل هوية الغالبية العظمى من الشعب السوداني، ولا يمكن عزله عن حياة الناس الخاصة أو الفضاء العام.
ويتوقع أن تهاجم بعض منابر صلاة الجمعة اتفاق المبادئ الذي وقع عليه رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان ورئيس الحركة الشعبية-شمال عبدالعزيز الحلو.
"سوف نحدد الأموال التي تذهب للحكومة وسنغير طابع الجيش"
الاتفاق أقر اللامركزية بوصفها نظاماً للحكم والإدارة، بما يضمن إقامة حكم لامركزي حقيقي السلطات فيه للسودانيين في الأقاليم، وهم سيقررون وحدهم أي السلطات التي سيتنازلون عنها للحكومة المركزية بالخرطوم، طبقاً لمحمد يوسف مصطفى.
وتابع قائلاً "الأقاليم وحدها لها كامل السيطرة على مواردها، وبموجب الاتفاق ستحدد المبالغ التي ستحول للحكومة المركزية بما يكفي سلطتها المحدودة والخدمات والبنى التحتية".
ويضيف "الآن الأموال تسحب من الأقاليم للخرطوم، لكن الثروات في الأقاليم، ويجب أن تبقى هناك".
ورغم توقيع اتفاق المبادئ، فإن مخاوف التفاوض لا تزال تسيطر على الحركة، وهو ما يعبر عنه محمدين عمر بقوله "أمنيتنا ألا تكون التفاصيل عائقاً لتحقيق السلام، لا بد أن يمضي الجميع نحو إحداث تغيير جذري في بنية الدولة السودانية".
وفيما يتعلق بالجيش، فقد نص اتفاق المبادئ على أن "يكون للسودان جيش قومي مهني واحد، يعمل وفق عقيدة عسكرية موحدة جديدة، ويلتزم بحماية الأمن الوطني وفق الدستور، ويجب أن تعكس المؤسسات الأمنية التنوع والتعدد السوداني، وأن يكون ولاؤها للوطن وليس لحزب أو جماعة أو جهة".
ووفقا للاتفاق، سيتفق الطرفان على وقف دائم لإطلاق النار ضمن اتفاق الترتيبات الأمنية كجزء من التسوية الشاملة للنزاع في السودان، وعليه ينتظر اكتمال دمج جيش الحركة في الجيش الحكومي بنهاية الفترة الانتقالية.
ويقول القيادي في الحركة محمد يوسف مصطفى إن اتفاق المبادئ ضمن قيام جيش قومي موحد ملتزم بالدستور، هو ما يكبح جماح العصابات المسلحة الإجرامية وعدم الاعتراف بأي تشكيلة خارج الجيش الحكومي.
ويرى أن ذلك يمهد لإعادة هيلكة الجيش ليكون حامياً للمواطن، وليس كما كان طيلة العقود الماضية مصدراً لإرهاب وقتال المواطنين السودانيين، حسب تعبيره.