بعد أن تنفس العالم الصعداء ونجحت الجهود المصرية في تعويم السفينة العملاقة إيفرغيفن التي أغلقت قناة السويس نحو أسبوع، جاء وقت كشف حساب الأزمة ودروسها المستفادة بالنسبة لمصر وللعالم.
كانت حركة الملاحة في قناة السويس قد استؤنفت مساء الإثنين 29 مارس/آذار بعد نجاح جهود تعويم السفينة التي جنحت صباح الثلاثاء 23 مارس/آذار وسدت المجرى الملاحي ما تسبب في اضطراب حركة نقل البضائع حول العالم، إذ يمر أكثر من 12% من التجارة العالمية عبر القناة التي بناها المصريون قبل أكثر من قرن ونصف.
وكانت فرق الإنقاذ التابعة لهيئة قناة السويس المصرية والعاملة مع فريق من شركة سميت سالفدج الهولندية تمكنت من إعادة تعويم السفينة جزئياً فجر الإثنين وضبطت اتجاهها بطول بالقناة، وبعد عدة ساعات عادت لفترة وجيزة بعرض القناة قبل أن تتمكن القاطرات من تعويمها بالكامل مع تغير المد.
وقال بيتر بيردوفسكي، الرئيس التنفيذي لشركة بوسكاليس، وهي الشركة الأم لشركة سميت سالفدج التي ساعدت في جهود تعويم السفينة الجانحة بعد إعادة تعويمها: "ضغط الوقت لإتمام هذه العملية كان واضحاً وغير مسبوق"، وأشارت الشركة إلى أنه تم تكريك نحو 30 ألف متر مكعب من الرمال لإعادة تعويم سفينة الحاويات التي تزن 224 ألف طن واستُخدمت 11 قاطرة وقاطرتان بحريتان قويتان لسحب السفينة.
السفينة العملاقة رمز للعولمة
الآن وقد انتهت الأزمة التي شغلت العالم أجمع طوال الأسبوع وتحولت لترند عالمي نتج عنه كمّ لا حصر له من ميمات الإنترنت الساخرة، بدأ الحديث عن كشف حساب الأزمة والدروس المستفادة منها، وأولها أهمية النقل البحري لاقتصاد العالم الذي يُشكل 70% من إجمالي التجارة العالمية.
وقد يستغرق الأمر أسبوعاً آخر لفك الازدحام المروري نتيجة انتظار مئات السفن والناقلات لعبور الممر، وربما تتواصل اضطرابات سلاسل التوريد العالمية الناتجة عن الأزمة لشهور مقبلة، بحسب تقرير لصحيفة Washington Post الأمريكية.
ويعكس احتفاء الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بتحرير السفينة على أنّه انتصارٌ قومي حققته إرادة وجهود العاملين في هيئة قناة السويس بالتعاون مع الشركة الهولندية، البعد العالمي لقناة السويس ومدى أهميتها ليس لمصر فقط ولكن للعالم أجمع.
ورمزية هذه العولمة تكشف عنها الحقائق الخاصة بالسفينة إيفرغيفن سبب الأزمة، فالسفينة العملاقة مملوكة لشركة في اليابان وتُشغّلها شركة حاويات مقرها في تايوان وتُديرها شركةٌ ألمانية، لكنّها مسجّلة في بنما، في حين أن طاقم السفينة بالكامل من الهنود.
وكانت السفينة تنقل البضائع من آسيا، وتحديداً الصين، إلى أوروبا، وإلى ميناء روتردام الهولندي تحديداً، وقد جنحت بسبب عاصفةٍ رملية شرق أوسطية، ليجري إنقاذها على يد فريقٍ متعدد الجنسيات من والمصريين والهولنديين وغيرهم.
هشاشة الاقتصاد العالمي
أزمة السفينة وتوقف الملاحة في قناة السويس سلّطت الضوء على هشاشة الاقتصاد العالمي، فقبل قرنٍ ونصف، كان افتتاح قناة السويس إيذاناً بعصرٍ جديد من الشحن العالمي السريع الذي تسارع أكثر على مدار العقود التالية، وطيلة العقد والنصف الماضيين تضخّمت سعة سفن الشحن بنحو 1,500%، لتزيد السلع الاستهلاكية المتاحة وتُقلّل الأسعار حول العالم على حد تعبير بيتر غودمان من صحيفة New York Times الأمريكية.
لكن تلك الزيادات بدأت الآن تُسبّب اختناقاً في الشرايين المزدحمة مثل قناة السويس، إذ قال قبطانٌ يعمل في هيئة قناة السويس إنّ مهمة الإبحار بسفن مثل إيفرغيفن في القناة أصبحت مرهقة: "صارت السفن اليوم أكبر مما كانت عليه في الماضي. وهذا أمرٌ جديد لم نكن نشهده في الماضي".
لكن رئيس هيئة قناة السويس أسامة ربيع قال اليوم الثلاثاء 30 مارس/آذار إن السفن المماثلة في الحجم لإيفرغيفن، وهي من أكبر سفن الحاويات في العالم، يمكنها العبور بأمان، وإن هيئة قناة السويس لن تغير سياستها الخاصة بقبول مرور مثل تلك السفن.
كما تجلّت أيضاً نقاط ضعف العالم الاتكالي، حيث يجري تصنيع منتج وتوصيله عبر سلاسل توريد تمتد بطول عدة قارات، إذ كتب الصحفي بي مانوج في صحيفة Hindu الهندية: "هذا هو أسوأ وقت يُمكن أن تجنح فيه إيفرغيفن بالنسبة للتجارة العالمية المترنحة بالفعل تحت وطأة ارتفاع أسعار الشحن، ونقص المعدات، وقلة المساحة المتوافرة على السفن في أعقاب الاضطرابات الناجمة عن الجائحة. حيث يُمكن أن تمتد الاضطرابات الناجمة عن إغلاق القناة لشهور، وربما يزداد ازدحام الموانئ ونقص المعدات والمساحات المتاحة على السفن بكثافةٍ أكبر".
عالمٌ من نقاط الاختناق
جاء إغلاق قناة السويس ليُذكّر العالم بمدى أهمية حفنة من الممرات البحرية بالنسبة للاقتصاد العالمي، إلى جانب الحسابات الاستراتيجية للقوى الإقليمية، حيث إنّ وقوع أزمةٍ هناك، أو في خليج بنما، أو مضيق ملقا، أو مضيق هرمز من شأنه أن يُؤثّر على الأسواق العالمية وربما يتسبب في اندلاع مواجهات محتملة بين القوات البحرية المتنافسة، حسب سياق الأزمة.
وقد رأى بعض المحللين في أزمة جنوح إيفرغيفن لمحةً عن أزمات مقبلة أكثر تعقيداً، حيث تعتمد الصين على واردات ضخمة من النفط وخام الحديد، ويُمكن القول إنّها هيكلت الشطر الأعظم من سياستها الخارجية -بما فيها مبادرة الحزام والطريق- من أجل تأمين شبكات تجارتها الممتدة والبعيدة، بحسب تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية.
وبعبارةٍ أخرى، فإنّ نقاط الاختناق مثل قناة السويس من المقدر لها أن تكون مواقع تنافس وتوتر جيوسياسي أكبر مستقبلاً، وهو ما يرى أميرال البحرية الأمريكية المتقاعد جيمس ستافريديس أنّه سببٌ كافٍ لدفع القوى العالمية نحو وضع نظامٍ جماعي لإدارتها، بحسب تقرير الوكالة.
وكانت الأزمة قد شهدت ظهور أحاديث متكررة عن ترويج دول مثل إيران وإسرائيل وروسيا لممرات بديلة قناة السويس، وهو ما علق عليه الرئيس المصري اليوم أثناء زيارته للعاملين في هيئة القناة والاحتفال معهم بتحرير السفينة.
فقد أوضح السيسي أن "القناة ترسخت في أذهان التجارة العالمية.. في ظل الكلام اللي بيتقال عن بدائل.. لا ده مرفق عالمي.. 13% من حجم التجارة ينقل من عندكم.. رُبَّ ضارة نافعة.. قناة السويس قادرة وباقية ومنافسة".
تداعيات الأزمة قد تستمر فترة غير معلومة
ويجري الآن فحص إيفرغيفن لتقدير الأضرار. وستُحدّد تلك الفحوصات ما إذا كانت السفينة قادرةً على استئناف خدمتها المقررة وما سيحدث للشحنة الموجودة على متنها بحسب بيان الشركة التايوانية المشغلة للسفينة.
وقد استماتت السلطات المصرية من أجل إعادة حركة المرور إلى طبيعتها في الممر المائي الذي يستضيف نحو 12% من تجارة العالم ويعبره مليون برميل نفط يومياً، إذ صرح رئيس هيئة قناة السويس أسامة ربيع في مؤتمرٍ صحافي مساء الإثنين 29 مارس/آذار: "قد تستغرق عودة حركة المرور لطبيعتها نحو أربعة أيام".
ومع تأخير الشحنات لأسابيع، وربما شهور، فمن المحتمل أن يفتح إغلاق القناة الباب أمام سيلٍ من الدعاوى القضائية لجميع المتضررين، بدءاً من خطوط الشحن ووصولاً إلى المصنعين ومنتجي النفط.
إذ قال أليكسيس كالان، من مكتب Norton White in Sydney المتخصص في قوانين النقل: "هناك العديد من المشكلات القانونية هنا. ولك أن تتصور مدى تنوع الشحنات الموجودة هناك، التي تشمل كل شيء بدءاً من النفط والحبوب والسلع الاستهلاكية مثل الثلاجات ووصولاً إلى البضائع القابلة للتلف. ولهذا قد لا تتضح بالكامل فداحة المطالبات القضائية الآن".
وبدأت أسعار الشحن في الارتفاع بالفعل نتيجة قلة الناقلات المتاحة، بينما ظل بعضها عالقاً ولجأ البعض الآخر إلى الطرق الأطول حول جنوب إفريقيا، والسفر حول إفريقيا يزيد أجل رحلات السفن بين آسيا وأوروبا بنحو أسبوعين.
كما سيُقلّل الإغلاق أرباح شركات التأمين التي تأثرت بالجائحة من قبل، إلى جانب العواصف الشتوية في الولايات المتحدة، والفيضان في أستراليا بحسب شركة Fitch Ratings. وسترتفع أسعار التأمين البحري أكثر نتيجةً لذلك وفقاً للشركة، التي قدرت الخسائر بمئات الملايين من اليوروهات.
بينما صرّح مسؤولٌ في شركة Shoei Kisen اليابانية، مالكة السفينة، بأنّ الشركة لم تصلها أي مطالبات بتعويضات حتى الآن. وما تزال الشركة تبحث مواطن مسؤوليتها القانونية. كما أنّ السفينة مؤمن عليها لدى ثلاث شركات تأمين يابانية، وستتحدّد المسؤولية عن جنوح السفينة بعد إجراء تحقيق وفقاً لأسامة ربيع، الذي أضاف أنّ هيئة قناة السويس ليست مخطئة وأنّ قبطان السفينة كان المسؤول عنها.