لا تزال جريمة استهداف نظام بشار الأسد للمدنيين في سوريا بالأسلحة الكيماوية تمثل قضيةً دولية تسعى كثير من المنظمات الحقوقية لمعاقبة المسؤولين عنها، وكشفت أحدث فصول ذلك الملف جانباً مثيراً من قصة توثيق الجريمة مقابل التشكيك فيها.
فاستخدام الأسلحة الكيماوية جريمة حرب بتعريف القانون الدولي ولا تسقط بالتقادم، ورغم أن تاريخ مجزرة الكيماوي في سوريا يرجع إلى أغسطس/آب 2013، حين تم استهداف الغوطة ومناطق أخرى قرب العاصمة دمشق بصواريخ تحمل غازات سامة أودت بحياة مئات السوريين المدنيين وهزت العالم وقتها، وسط نشر مئات الصور ومقاطع الفيديو لآثار المجزرة، تشير بعض أحداث الشهور الأخيرة إلى أن احتمال محاكمة رموز النظام السوري لا تزال ممكنة.
بروفيسور بريطاني وخدعة الجاسوس الروسي المزيف
وكشف تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية مؤخراً عن فصل مثير من فصول السعي لتوثيق جريمة الكيماوي من جانب منظمات حقوقية دولية، في مقابل خطط إفساد تلك المحاولات ونشر معلومات مضللة لتبرئة النظام من جانب أجهزة مخابراته وأجهزة مخابرات داعميه، وعلى رأسهم روسيا.
والطرف الأول في القصة هو أكاديمي بريطاني اسمه بول ماكيجي، يدافع عن النظام السوري من خلال التشكيك في جريمة الكيماوي، وتبدأ القصة المثيرة عندما وصل ماكيجي بريد إليكتروني من شخص زعم أنه جاسوس روسي، عرف نفسه باسم "إيفان"، ومن ثم بدأ التواصل بين إيفان والبرفيسور البريطاني.
وبدا أنَّ إيفان يشارك ماكيجي العديد من هواجسه الشخصية، لاسيما رغبته في تشويه سمعة المحققين الذين يجمعون أدلة على جرائم الحرب المُرتَكَبَة في سوريا، وادعى قدرته على الوصول إلى الأموال الجاهزة والمعلومات السرية.
وغاص أستاذ علم الوراثة في إدنبرة بشغف في مراسلاته الجديدة، وهو يخصص فترات طويلة من وقته الخاص في متابعة نظريات متطرفة تدَّعي أنَّ الهجمات على المدنيين مزيفة لتشويه صورة حكومة بشار الأسد.
وعلى مدى ثلاثة أشهر ملأ ماكيجي مئات الصفحات بالفرضيات، بما في ذلك اتهام الصحفيين والباحثين والدبلوماسيين بالعمل وكلاء لأجهزة المخابرات الغربية، وكشف عن هوية مصدر سري وشارك معلومات تم تقديمها له لدعم نظرياته التي تدافع عن نظام الأسد وتستهدف كل من يعارضونه.
كشف الحيلة السورية
لكن حقيقة الأمر مختلفة تماماً عما كان يظنه ماكيجي، إذ لم يكن يتبادل المراسلات مع جاسوس روسي ولا حتى لرجل يُدَعى إيفان، فقد كان يدير حساب البريد الإلكتروني المنسوب للجاسوس إيفان مجموعةٌ من الموظفين في إحدى المنظمات التي كان البروفيسور يأمل في تشويه سمعتها، ويقولون إنهم يعملون متخفين بسبب مخاوف بشأن التكتيكات التي كان ماكيجي وحلفاؤه مستعدين لنشرها، في محاولة للدفاع عن الحكومة السورية وحلفائها الروس.
وقالت نيرما يلاتشيتش، وهي صحفية سابقة في The Observer، وتعمل الآن في لجنة العدالة والمساءلة الدولية، وأسهمت بدور رئيسي في هذه الحيلة: "لم نعتقد قط أنَّ الأمر سيصل لهذا الحد. لقد قبِل التواصل على الفور دون إجراء أية تدقيقات".
وفي أول تعليق كامل لها على الواقعة، أضافت نيرما: "في النهاية، كان هناك نحو 500 صفحة من المراسلات عبر البريد الإلكتروني من 1 ديسمبر/كانون الأول حتى مارس/آذار".
وتجمع لجنة العدالة والمساءلة الدولية أدلة وثائقية من سوريا، بحيث يمكن تحميل مجرمي الحرب المسؤولية القانونية عن الفظائع المُرتَكَبَة، واستُخدِم عملها بالفعل في محاكمة تاريخية في ألمانيا، وهي المرة الأولى التي يواجه فيها مسؤولون سوريون اتهامات بالتعذيب برعاية الدولة.
وكانت المحكمة الإقليمية العليا في مقاطعة كوبلنز بألمانيا قد أصدرت حكماً تاريخياً بحق موظف في المخابرات السورية سيئة السمعة، واسمه إياد الغريب، يبلغ من العمر 44 عاماً، وحكمت عليه بالسجن أربع سنوات ونصف السنة بتهمة المساعدة في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، فيما اعتبره العديد من نشطاء حقوق الإنسان وخبراء القانون الغربيون سابقة تجعل من الممكن البدء في مقاضاة ممثلي نظام الأسد.
انقلب السحر على الساحر
الحيلة أثارت غضب ماكيجي بالطبع، فقد كان يُعِد تقريراً عن المجموعة مع حلفاء يشاركونه أفكاره وأيديولوجيته، وكان يبحث عن معلومات يمكن أن تنزع عن لجنة العدالة والمساءلة الدولية مصداقيتها.
وقالت نيرما: "عَلِمنا أنهم يوجهون انتباههم إلينا. من جانب، أردنا معرفة المخاطر الأمنية التي قد يشكلونها على الأشخاص الذين يعملون لدينا من حيث ما قد يكشفون من معلومات"، وذُهِلوا من استعداد البروفيسور ماكيجي للتعامل مع عميل روسي مزعوم، والمعلومات التي شاركها.
ومن بين المزاعم الأكثر ضرراً التي قدَّمها ماكيجي أنَّ دبلوماسياً روسياً في سفارة جنيف، السكرتير الأول سيرجي كروتسكيخ، كان يتواصل مع زملائه الأعضاء في "مجموعة عمل في سوريا للدعاية والإعلام" من خلال أنظمة مُشفَّرة.
وهذه المجموعة هي تحالف من الأكاديميين والباحثين اليساريين المتطرفين الذين يزعمون أنَّ الصحفيين الغربيين والمنظمات غير الحكومية وغيرهم يعملون نيابةً عن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وجهاز الاستخبارات البريطانية لتقويض الحكومة السورية، بما في ذلك تزوير الأدلة على مقتل المدنيين والهجمات الكيميائية.
ويشمل ذلك البروفيسور المثير للجدل في جامعة بريستول ديفيد ميلر، الذي اتهمه طلابه بمعاداة السامية، وهو ادعاء ينفيه، والمدونة فانيسا بيلي، التي زارت سوريا مراراً في رحلات برعاية الحكومة، وشكَّك أعضاء مجموعة العمل في سوريا للدعاية والإعلام في صحة الهجمات بالأسلحة الكيماوية في سوريا وزعموا أنَّ تهمة تسميم سيرجي سكريبال في سالزبوري في عام 2018 أُلصِقَت بروسيا.
وكانوا أيضاً جزءاً من حملة عامة استمرت لسنوات ضد الخوذ البيضاء، وهي منظمة إنقاذ مدنية أغضبت الفصائل الموالية لسوريا والروسية من خلال تسجيل الفظائع أثناء محاولتهم إنقاذ الأرواح، ثم مشاركة اللقطات.
متى يحاكم المسؤولون عن كيماوي سوريا؟
ورغم أن الخبراء قد وثقوا أكثر من 300 هجوم بالأسلحة الكيماوية في سوريا، وشمل التوثيق صوراً ومقاطع فيديو للضحايا من بالغين وأطفال، وهم يعانون التشنجات وصعوبة التنفس التي يتبعها غالباً الموت اختناقاً، ونُشر كثير من هذه الصور ومقاطع الفيديو التي صدمت العالم وأثارت فزعه، ومع ذلك، فحتى الآن، لم يُحاسب أحد على تلك الجرائم البشعة.
وبالنسبة لنيرما، التي فرت من يوغوسلافيا السابقة في سن المراهقة مع عائلتها خلال الحرب، فإن محاولات ماكيجي والفريق العامل للتشكيك فيما يحدث في سوريا تعيد ذكريات حملات اليسار المتطرف لإنكار الإبادة الجماعية في البوسنة، وقالت نيرما: "الأمر المختلف هو أنه مستوى من المعلومات المضللة لم نشهده من قبل"، مضيفة أنَّ ما يستدعي القلق هو التساهل معها.
وتابعت: "حتى في الدوائر الأكاديمية السائدة، تُحرَف هذه المعلومات المضللة والإنكار على أنهما حرية التعبير والكلام… لدينا واجب أخلاقي للوقوف في وجه هذا الإنكار والتحريف".
وفي مطلع مارس/آذار الجاري حدث تطور هام يشير إلى أن التحقيقات الجنائية الأولى التي تستهدف بشار الأسد وزمرته مباشرة بشأن استخدام الأسلحة الكيماوية ضد الشعب السوري، إذ أعلنت ثلاث منظمات حقوقية دولية أنها قدّمت شكوى أمام وحدة جرائم الحرب الخاصة في قصر العدل الفرنسي، بشأن جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب مرتبطة بهجمات كيماوية موجهين الاتهام لنظام الأسد بارتكابها.
وتقدم بالشكوى "المركز السوري للإعلام وحرية التعبير" و"أوبن سوساييتي جاستيس إنيشتف" و"الأرشيف السوري" من أجل التحقيق في هجمات غاز السارين، التي وقعت في أغسطس/آب 2013، في مدينة دوما والغوطة الشرقية قرب دمشق، بحسب تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
ومن جانبه، قال ماكيجي لصحيفة The Observer إنَّ الرسائل الإلكترونية كانت "خدعة ذكية"، وربما كان التزم "بمزيد من التحفظ في كلامه" لو كان يعلم أنَّ المحادثات ستُعلَن على الملأ. ورداً على سؤال حول مزاعم الاتصال بدبلوماسي روسي، رفض ماكيجي التعليق مباشرة، باستثناء الإشارة إلى أنه ربما يكون قد بالغ في بعض رسائله.
وقال: "تمكن الأشخاص الموجودون على الطرف الآخر من هذه الحيلة من إقناعي بالكشف عن المعلومات التي قدمها الآخرون، والتي لم يكن من المفترض مشاركتها، إلى جانب معلومات أخرى ربما زُيِّفَت. كان هذا إخفاقاً من ناحيتي وأقبَل المسؤولية عنه واعتذرت لمن يعنيهم الأمر".
وقالت جامعة إدنبرة في بيانها الخاص لصحيفة The Observer: "إنَّ الأفعال المُشَار إليها في التقارير الإعلامية، اتخذها بول ماكيجي بصفته الشخصية، وليس بصفته موظفاً في الجامعة. نحن نحترم حقوق الموظفين في أن تكون لديهم مصالح لا علاقة لها بأدوارهم داخل المؤسسة".