تفاقمت الأزمة الاقتصادية في لبنان الأسبوع الماضي مع انخفاض الليرة إلى 15000 ليرة مقابل الدولار في السوق السوداء -وهو أدنى مستوى لها على الإطلاق- ما أدى إلى انخفاض قيمة رواتب الموظفين، بينما ارتفعت أسعار السلع، التي كانت معقولة في السابق، لأعلى بكثير عن متناول يدهم.
"أسعار السلع تتغير كل ساعة في لبنان"
في الأوقات العادية يتلقى زياد حسن، مدير محل بقالة في بيروت، رسالةَ بريد إلكتروني يومية من إدارة سلسلته، تخبره بالأسعار التي يجب تعديلها ومقدارها، لكن مع انهيار العملة اللبنانية وما ترتب عليه من دفع الاقتصاد لحالة من الفوضى تصل هذه الرسائل الإلكترونية في كثير من الأحيان ثلاث مرات يومياً، تطلب زيادة الأسعار في جميع أنحاء المتجر.
وقال حسن غاضباً لصحيفة The New York Times الأمريكية: "علينا تغيير كل شيء"، مشيراً إلى أنَّ موظفيه في كثير من الأحيان بالكاد ينهون تعديل زيادة واحدة في الأسعار حتى تلاحقهم الزيادة التالية. وأضاف: "هذا جنون".
وفي بلد يستورد معظم المنتجات لم يترك انهيار العملة أي قطاع دون أن يطاله أثره، فقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 400% في ديسمبر/كانون الأول مقارنة بالعام الذي سبقه، وفقاً لإحصاءات حكومية، في حين ارتفعت أسعار الملابس والأحذية بنسبة 560%، والفنادق والمطاعم بأكثر من 600%.
ودخلت العشرات من الصيدليات في جميع أنحاء البلاد في حالة إضراب يوم الجمعة قبل الماضي، 19 مارس/آذار، احتجاجاً على الظروف التي تركتهم بدون بعض الأدوية وقلّصت أرباحهم. وتعرضت كذلك مهن أخرى، بما فيها المحاماة والتعليم والطب والتعليم العالي، إلى تقلص قيمة الرواتب، وانزلق آخرون كُثر إلى خط الفقر.
أكثر من نصف سكان لبنان أصبحوا فقراء
وفي أغسطس/آب الماضي، قالت الأمم المتحدة إنَّ أكثر من 55% من سكان لبنان أصبحوا فقراء، أي ما يقرب من ضعف العدد في العام السابق، ومن المؤكد أن الرقم الآن في مارس/آذار 2021 أعلى بكثير. وارتفع معدل الفقر المدقع بثلاثة أضعاف إلى 23%، وقد ازداد الوضع سوءاً منذ ذلك الحين.
وبالنسبة للعديد من اللبنانيين، فإن أكثر ما يمسهم شخصياً من الأزمة هو متجر البقالة، إذ اختفت منتجات كانت تُعتَبَر في يوم من الأيام سلعاً أساسية، وتضخم سعر سلع أساسية أخرى بثلاث مرات أو أربع أضعاف. وكان هناك تهافت على المواد الغذائية الأساسية مثل الزيت والدقيق والسكر والأرز.
وتقول سهير الجزيني (60 عاماً)، بعد أن أدركت أنَّ سعر زجاجة زيت الطهي التي اشترتها الأسبوع الماضي ارتفع الآن بمقدار الثلثين: "كل شيء يرتفع، لقد صُدِمت حقاً".
وبعدما دخلت إلى المتجر وهي تنوي أيضاً شراء مسحوق غسيل ومعكرونة، أدركت أنها لا تملك نقوداً كافية. وقالت إنَّ زوجها كان يربح شهرياً من عمله سائقاً 750 ألف ليرة لبنانية، كانت تعادل 500 دولار أمريكي، لكن أصبحت قيمة دخلهم الآن أقل من 60 دولاراً.
بدوره، قال برنامج الغذاء العالمي، في نوفمبر/تشرين الثاني، إنَّ أسعار المواد الغذائية في لبنان ارتفعت بنسبة 423% منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019، وهي أكبر قفزة منذ بدء مراقبة الأسعار في 2007. واستمرت الأسعار في الارتفاع منذ ذلك الحين؛ ما وضع ضغوطاً شديدة على الفقراء.
"لقد استنفدنا أموالنا".. الديون تحاصر اللبنانيين
وتقول فاتن حيدر (29 سنة)، إنها تعاني من أجل تحضير وجبات لأطفالها الثلاثة في ظل ارتفاع أسعار المواد الغذائية وتراجع دخل زوجها من كشك القهوة الخاص به. وفي حديث مع صحيفة The New York Times عبر الهاتف من مدينة طرابلس الشمالية، قالت إنها لا تملك في ثلاجتها سوى اللبنة، وهي مديونة بالفعل لمتجرها المحلي. وأضافت: "لا أعرف كيف أسددها".
وتابعت أنَّ الضروريات الأخرى استنفدت أموالها، مثل الفوط الصحية التي تضاعف سعرها أربع مرات. وسيزداد هذا العبء عندما تصل ابنتها البالغة من العمر 12 عاماً إلى سن البلوغ، قائلة: "لا أستطيع تحمل نفقات شرائها لنفسي، كيف يمكنني تحمل نفقاتها لابنتي؟".
علاوة على ذلك، تراجعت قيمة رواتب الجنود وضباط الشرطة، وهو ما زاد المخاوف من تفاقم الاضطرابات الاجتماعية ومعدلات الجريمة. وقال وزير الداخلية محمد فهمي، هذا الشهر، إنَّ هذه الرواتب "وصلت إلى الحضيض".
وقال الوزير فهمي، لشبكة إخبارية محلية، "قبل ثلاثة أشهر كنت سأقول إنَّ الوضع الأمني بدأ في الانهيار، لكن الآن أقول إنه قد انهار بالفعل".
وفي كلمة أمام القادة العسكريين في وقت سابق من هذا الشهر، وجَّه قائد الجيش اللبناني، العماد جوزيف عون، انتقاداً علنياً نادراً لقادة النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية في لبنان، محذراً إياهم من أنَّ جنوده يتكبدون أيضاً "المعاناة والجوع". وسأل مخاطباً القادة: "إلى أين نحن ذاهبون؟ كيف تنوون التصرف؟".
القليل من اللحوم.. الكثير من العدس
ووافق البرلمان اللبناني مؤخراً على قرض بقيمة 246 مليون دولار من البنك الدولي لتقديم مساعدة نقدية للأسر الفقيرة، لكن لم تُبذَل جهود كبيرة لوقف الانهيار الأوسع.
وفي هذا السياق، شاهد جهاد سباط (48 عاماً) آثار الانهيار المالي من نافذة محل الجزارة في بيروت الذي يديره منذ 1997. وقال إنه خلال العام الماضي استمر سعر اللحوم في الارتفاع مقابل انخفاض عدد الزبائن.
وأوضح أنَّ رطل لحم البقر الآن يكلف أكثر من ثلاثة أضعاف ثمنه قبل الأزمة. وشهد محله ارتفاعاً في عدد الأشخاص الراغبين في الشراء بالمديونية والمهتمين بأخذ العظام فقط لغليها لصنع الشوربة. وأضاف: "اللحم أصبح رفاهية".
واتهم جهاد السياسيين في البلاد بسرقة أموال الدولة من خلال مخططات فاسدة، وانتقدهم لفشلهم في تحقيق الاستقرار الاقتصادي.
وعلَّق صديق يتسكع في المتجر قائلاً: "المشكلة هي الناس". وأومأ جهاد برأسه بالإيجاب، وقال "هذه نقطة مهمة، فإذا أقيمت انتخابات غداً فإنَّ نفس الأشخاص سيعودون للسلطة".
وفي محل البقالة، قال المدير زياد حسن أيضاً إنَّ فرعه يبيع لحوماً أقل كل شهر مقابل المزيد من العدس الذي يتقاتل عليه الناس، ورغم أنه أيضاً مستورد وزادت تكلفته لخمسة أضعاف ما كانت عليه قبل الأزمة.
وقال إنَّ معارك اندلعت في الممرات حول المواد الغذائية الأساسية مثل الأرز والسكر وزيت الطهي المدعوم من الحكومة. ومن الشائع أن يصاب العملاء بصدمة في طريق الخروج عندما يدركون أنهم لا يستطيعون سوى تحمل تكلفة القليل من الضروريات. وتابع: "لا أعرف كيف يستطيع الناس مواصلة العيش هكذا، لكن هذا الوضع سيقود في النهاية إلى انفجار".