اكتسب مصطلح "التعويم" سمعة سيئة لدى الجماهير العربية جراء العديد من التجارب المؤلمة في التعويم خلال السنوات الماضية أشهرها مصر، ورغم ذلك ما زال التعويم أداة أساسية لمعالجة الأزمات الاقتصادية وكان السودان آخر المنضمين لقطار التعويم.
وخلال فبراير/شباط 2021، أعلنت الحكومة السودانية تعويم العملة الوطنية (الجنيه السوداني)، بعد أن بلغت الفجوة بين سعر السوق الموازية (السوداء) والسعر الرسمي 14 جنيهاً.
وفي إطار عملية التعويم، خفضت الحكومة السودانية سعر صرف الجنيه أمام الدولار بنحو 700% من 55 إلى 375 جنيهاً، وارتفعت السوق الموازية من 370 جنيهاً للدولار إلى 400 جنيه.
وازدادت أهمية التعويم وحساسيته مؤخراً مع ظهور التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا التي قللت موارد النقد الأجنبي لمعظم دول العالم جراء تراجع السياحة والصادرات.
وتلجأ الدول إلى سياسة تعويم عملتها في حالة اضطراب الأوضاع المالية والاقتصادية، وتزايد المضاربات في سوق النقد الأجنبي، وفقدان البنك المركزي السيطرة عليها.
تؤثر هذه الاضطرابات على أداء ميزان المدفوعات للدولة، وتتسبب في اتساع حجم العجز التجاري، وسط تأثر الصادرات وانكماش الاستثمار الأجنبي الوافد، بسبب تراجع الثقة في مستقبل الاقتصاد، وعدم ثبات سعر العملة.
كما يخلق الفارق الكبير بين سعر العملة الرسمي، والسوق الموازية فرصة للتلاعب لحائزي العملة، ويجعل الدول تفرض قيوداً على حصص المستوردين من العملة الأجنبية، (خوفاً من بيعهم إياها في السوق الموازية) ويخلق هذا نقصاً في السلع المستوردة والمواد الخام، كما يؤدي إلى تحول المواطنين للادخار بالعملة الأجنبية والعزوف عن إيداع أموالهم في المصارف فيخلق ذلك ضغوطاً إضافية على العملة الوطنية، مما يزيد التضخم، ويرفع أسعار الأصول العقارية باعتبارها وسيلة أفضل للادخار بدلاً من العملة الوطنية المتراجعة.
كما يؤدي الارتفاع المستمر في أسعار العملة الأجنبية، إلى زيادة أسعار الواردات وبالتالي زيادة الطلب غير الضروري عليها، لأن المستهلك يريد شراءها اليوم قبل أن ترتفع أسعارها غداً.
وحررت دول عدة، مثل الصين والهند والبرازيل والأرجنتين وماليزيا ومصر والمغرب والعراق والسودان، سعر صرف عملتها خلال السنوات والعقود الماضية.
لكن العديد من هذه التجارب لم يحالفها النجاح بنسبة كبيرة إلا في الصين والهند، بفضل الصادرات المرتفعة وتدني أسعار المنتجات المحلية، ما عزز الإقبال عليها خارجياً ومحلياً.
معنى تحرير العملة
يعرف "تعويم العملة الوطنية" بأنه بيع وشراء العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية وفقاً للسعر العائم أو المحرَّر (أي سعر السوق وفقاً للعرض والطلب)، وهو إحدى الأدوات التي تلجأ إليها إدارة السياسة النقدية بالبنوك المركزية حول العالم لدعم الأنشطة الاقتصادية.
ويُفترض أنه نتيجة للتعويم، تتعرض أسعار صرف العملات العائمة لتقلبات باستمرار، مع أي تغير يشهده العرض والطلب على العملات الأجنبية، حتى إنها يمكن أن تتغير عدة مرات في اليوم الواحد.
إيجابيات التعويم
القضاء على السوق السوداء إحدى أهم الإيجابيات لعملية التعويم، حسب بيانات العديد من البنوك المركزية حول العالم، إذ يعيد التعويم للبنك المركزي دفة قيادة ملف النقد الأجنبي في الدولة، بعيداً عن تحكم شركات الصرافة والتجار.
كما يقضي "التعويم" على ظاهرة "الدَّوْلرة" والتي تعني احتفاظ المواطنين بالدولار والإقبال على شرائه دون سبب، مما يسبب شح السيولة الأجنبية داخل الأسواق.
كما أن التعويم يقدم دعماً كبيراً في تقليص عجز ميزان المدفوعات، ويدعم تدفقات الاستثمار الأجنبي، وزيادة الصادرات السلعية.
تراجع قيمة العملة ميزة- لو تعلمون- عظيمة
رغم أن التعويم قد يؤدي إلى انخفاض قيمة العملة الوطنية وما قد يسببه ذلك من أضرار، فإن ذلك يعد ميزة على المدى البعيد.
ففي حال حدوث زيادة في العجز في الميزان التجاري (الفارق بين الصادرات والواردات) وميزان الحساب الجاري والمدفوعات (الفارق بين إجمالي العملة الأجنبية الداخلة والخارجة من الاقتصاد)، فإن انخفاض العملة المحررة أو المعومة، يؤدي إلى ارتفاع أسعار الواردات وبالتالي يؤدي إلى تراجعها.
في المقابل فإن هناك احتمال أن ترتفع الصادرات لأن أسعارها ستنخفض بعد تراجع قيمة العملة الوطنية، مما يجعلها قادرة على المنافسة بشكل أفضل.
وفي حال عدم التعويم، تدافع الدولة عن سعر عملتها الوطنية عبر التفريط في احتياطياتها من العملات الأجنبية (دون جدوى غالباً لأن المتعاملين يعلمون أن قيمة العملة مبالغ فيها)، كما تتراكم العجوزات بحيث تخرج عن السيطرة.
والأهم أن الواردات الأجنبية تقوَّم بأقل من سعرها الواقعي، فيزداد النهم للاستيراد على حساب الصناعة المحلية التي تصبح أسعار منتجاتها أعلى من قيمتها الحقيقية فتتراجع في الأسواق المحلية والأجنبية على السواء، وهو أمر شهده الاقتصاد اللبناني بشكل واضح جراء تثبيت سعر الليرة، كما أن ثبات سعر الجنيه المصري في سنوات مبارك الأخيرة أضعف تنافسية المنتجات المصرية أمام المنافسين، (خاصة الصينيين والأتراك).
يفيد التعويم أصحاب الأصول العينية مثل العقارات أو المصانع أو الأراضي، من ارتفاع قيمتها دون تأثر مدخراتهم، كذلك الحائزون للعملات الأجنبية التي تتضاعف ثرواتهم بالعملة المحلية دون مجهود.
أبرز سلبيات التعويم
بالنسبة لأبرز سلبيات التعويم، فتتمثل في ارتفاع التضخم لمستويات قياسية، إذ صاحب تحرير سعر الصرف ظروفاً اقتصادية صعبة، وهو ما حصل في مصر التي شهدت نسب تضخم عند 35% بعد التعويم بشهور قليلة.
ولكن هذا العيب يمكن أن يكون لفترة محدودة، وبالفعل انخفض معدل التضخم في مصر بعد سنوات من التعويم.
والضرر الأبرز هو أن أصحاب الأجور الثابتة يعانون من انخفاض دخولهم، خاصة في الدول التي تعتمد على الاستيراد بشكل كبير.
كما أن أصحاب المدخرات بالعملة الوطنية يتعرضون لخسارة بقدر تراجع سعر العملة، وتحاول بعض الدول معالجة ذلك عبر زيادة الفائدة على الأرصدة بالعملة المحلية.
وتتسبب الاضطرابات المصاحبة في حدوث ركود اقتصادي، وارتفاع مستويات البطالة، وتضرر المنتجين والمستوردين على المدى القصير وأحياناً المتوسط.
وتشمل السلبيات أيضاً انخفاض قيمة الثروات النقدية بالعملة المحلية (تآكل الودائع المقومة بالعملة المحلية)، بجانب ارتفاع فاتورة سداد الديون الخارجية للدولة أو الديون بالعملة الأجنبية التي اقترضتها الشركات المحلية.
تجارب بعض الدول العربية في التعويم
السودان
ما زال من المبكر الحكم على مدى نجاح تجربة السودان في التعويم، لأنها بدأت الشهر الماضي.
ولكن تفيد تقارير إعلامية بأن قرار الحكومة السودانية، القاضي بتوحيد سعر صرف الجنيه السوداني، الذي أعلنته الأحد 21 فبراير/شباط الماضي، أدى إلى سيطرة المصارف التجارية في البلاد على حركة بيع وشراء العملات الأجنبية من داخل السودان وخارجه، بعد أن كانت تتحكم فيها السوق الموازية من دون منازع أو منافسة، نظراً لعجز خزينة بنك السودان المركزي عن توفير الاحتياطي اللازم من العملات، خصوصاً الدولار، لسنوات طويلة.
ويقول موقع "إندبندنت عربية": أحدث التعويم صدمة وارتباكاً وسط العاملين في السوق السوداء، واختفاء ظاهرة التجار الذين يمارسون نشاط بيع وشراء العملات علناً في طرقات ومركز العاصمة الخرطوم.
في هذا السياق، يشير أستاذ الاقتصاد في الجامعات السودانية، عبدالعظيم المهل، إلى أنه "من الواضح أن سياسة تحرير سعر الصرف لاقت السند والدعم الشعبي غير المسبوقين، ما منحها زخماً إضافياً، بالتالي يتوقع أن يكون أثرها أكثر إيجابية عند وصول الودائع المختلفة في حال وفَّى كل من صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وأصدقاء السودان، بالتعهدات المالية، وهو الأثر نفسه الذي حدث أخيراً في مصر وتنزانيا وأوغندا، لكن لا بد من إيجاد احتياطي من العملات الأجنبية في بنك السودان المركزي لتغطية الطلب من هذه العملات وتناميه المستمر، لا سيما أن السوق السودانية ضعيفة للغاية، فضخ أي كمية من الأموال يؤثر على هذه السوق بشكل كبير، لذلك ديمومة هذا الوضع تتطلب أن يتم خلال الفترة المقبلة العمل على تغطية الاحتياجات الرئيسية للمواطنين كالوقود والدقيق والدواء، وأن تتم التغطية من مصادر وموارد ثابتة، من دون الاعتماد على المصادر الخارجية أياً كان نوعها".
ورداً على المخاوف المتعلقة بالتداعيات السلبية للقرار، أوضحت الحكومة السودانية أن البنك المركزي يمتلك احتياطيات كافية من النقد الأجنبي للتدخل متى ما دعت الضرورة.
كما أشارت الحكومة إلى عدة إجراءات من بينها فرض ضرائب عالية على استيراد السلع الكمالية ووضع قوانين جديدة للتجارة والاستثمار وتسهيلات للمصدرين، وإنشاء بورصة للذهب والسلع الاستراتيجية للحد من التهريب.
كما تشمل الإجراءات دعم الأسر الفقيرة بمبلغ شهري لتخفيف وطأة القرار عليها ودعم المزارعين والمنتجين والمصدرين وتوفير السلع الضرورية للمواطن عن طريق برنامج "سلعتي" بأسعار غير مرهقة للمواطن.
في حين يؤكد وزير المالية السوداني السابق إبراهيم البدوي أن نظام سعر الصرف "المعوَّم" هو أفضل خيارٍ متاحٍ لإعادة التوازن للعملة الوطنية وتقليص العجز الهيكلي في الحساب الجاري وتوحيد سعر الصرف والقضاء على السوق الموازية، إلا أنه ينبه إلى أن التعويم يحمل مخاطر السقوط الحر لسعر الصرف والتضخم الانفجاري إذا لم يتم دعمه باستيفاء شرطين أساسيين أولهما منع تمويل المصروفات وعجز الموازنة بصورة عامة عن طريق الاستدانة من البنك المركزي بصورة عشوائية وغير مبرمجة، وهذا يتطلب تقليص عجز الموازنة إلى أقصى حد، وكذلك توفير قنوات تمويلية غير تضخمية لإدارة السيولة.
أما الشرط الثاني فيتمثل في ضرورة تحول الدولة إلى بائع صافٍ للنقد الأجنبي لتمويل واردات السلع الاستراتيجية بواسطة القطاع الخاص.
ويشير البدوي إلى أن تثبيت سعر الصرف الرسمي كخيار، يعنى استمرار الوضع القائم، في حين أن تبني نظام سعر الصرف المدار لا محالة سيوفر هدفاً مثالياً للمضاربين الذين سيعملون على وأده في مهده تماماً كما حدث في عهد النظام السابق في عام 2018.
ويرى البدوي أن تركيبة الواردات السودانية تجعل من الصعوبة بمكان معالجة العجز الهيكلي في الميزان التجاري باللجوء لحظر الواردات، بالنظر لأن أكثر من 85% من الواردات إما سلع استراتيجية أو مدخلات إنتاج ضرورية، وبالتالي لا يمكن معالجة أزمة شح النقد الأجنبي ووضع حد لتدهور قيمة العملة الوطنية عن طريق هذه المقاربة "الهيكلية".
ووفقاً للبدوي فإن الخيار الوحيد المتاح هو تعويم سعر الصرف لتصفية السوق الموازية وتحريك "سعر الصرف الحقيقي" لإنعاش الصادرات وإحلال الواردات لجسر هوة تقدر بحوالي 5 مليارات دولار يتم تمويلها حالياً من السوق الموازية.
مصر قبل التعويم وبعده
تعتبر التجربة المصرية من أشهر تجارب التعويم التي نالت تغطية إعلامية كبيرة.
بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011، بدأت تظهر مؤشرات على أزمة محدودة للجنيه المصري، مع تراجعه بشكل طفيف وبداية ظهور سوق موازية، (في ظل سعي البنك المركزي لتثبيت سعر العملة عبر التفريط في الاحتياطيات الأجنبية)
وبعد الإطاحة بحكم الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي زادت الأزمة بشكل كبير، رغم تدفق مساعدات كبيرة من دول الخليج، (في المقابل فرطت مصر في جزء من احتياطياتها من العملة الأجنبية في مشروعات مثل قناة السويس الجديدة التي أشركت شركات أجنبية في حفرها للالتزام بالموعد الذي حدده الرئيس عبدالفتاح السيسي لافتتاح المشروع، إضافة إلى صفقات السلاح).
وهكذا تواصل تراجع الجنيه المصري في السوق الموازية، فبعد أن كان سعر الدولار مقابل الجنيه، في مايو/آيار 2013، (قبل عزل مرسي) 6.95 (وكانت السوق الموازية محدودة آنذاك)، وصل الدولار إلى 13 جنيهاً في السوق الموازية في صيف 2016، ثم 15 جنيهاً، قبل التعويم الذي حدث في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، بل وصل إلى 18 جنيهاً قبل أيام من التعويم، في ظل سيطرة السوق الموازية على تعاملات الدولار.
وبدأت أسعار السلع تقفز مع نقص في بعض السلع المستوردة، فيما لجأ المصريون لشراء العقارات والدولار للحفاظ على قيمة مدخراتهم، لدرجة أن ربات البيوت في مصر أصبحن يحولن أموالهن إلى الدولار.
وأصبح المستوردون يعانون للحصول على العملة الأجنبية لشراء بضائعهم، بينما يعتقد أن بعضهم كان يجد أن الأربح له لو حصل على عملة أجنبية بشكل رسمي أن يبيعها في السوق الموازية.
وفشلت الإجراءات الأمنية في وقف الزحف نحو الدولار، لأن المسؤولين ورجال الشرطة ببساطة كانوا يشترون الدولار لحماية قيمة مدخراتهم.
وفي الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني عام 2016، اتخذ البنك المركزي المصري قراراً بتعويم سعر صرف الجنيه، ضمن حزمة إصلاحات قاسية طلبها صندوق النقد الدولي مقابل تقديم 12 مليار دولار قرضاً لمصر على ثلاث دفعات، إضافة إلى مساعدات من دول أخرى كالصين ودول الخليج.
حدد البنك المركزي سعر الصرف بـ13.5 جنيه كنقطة بداية مع ترك السعر يتحدد وفقاً للسوق، وارتفع سعر الصرف بسرعة إلى أكثر من 19 جنيهاً وقارب حاجز العشرين جنيهاً.
وبموازاة ذلك رفع البنك المركزي سعر الفائدة بشكل كبير، وصل إلى 19% في بعض الودائع.
وبالإضافة إلى هذه الإجراءات، لجأ البنك المركزي المصري لما يمكن تسميته حرباً دعائية على الدولار، عبر الترويج عن احتمالات انهيار العملة الأمريكية أمام الجنيه المصري، وهي طريقة أدت إلى تخلي المواطنين العاديين تدريجياً عن حيازتهم بالعملة الأجنبية، كما يعتقد أن الحكومة فرضت بعض القيود غير الرسمية على الواردات لتقليلها.
وبالتوازي مع التعويم نفذت القاهرة إصلاحات قاسية استجابة لطلب صندوق النقد ليتسنى لها الحصول على بقية دفعات قرض الـ12 مليار دولار.
ومن أبرز هذه الإصلاحات رفع الدعم عن أسعار الوقود خلال فترة قصيرة نسبياً، مما جعل سعره يتضاعف عدة مرات.
النتائج الإيجابية لتجربة التعويم المصرية
كان لتجربة التعويم المصرية نتائج شديدة الإيجابية وأخرى شديدة السلبية.
أبرز النتائج الإيجابية، هي ثبات سعر الجنيه المصري لفترة طويلة وتوقف عملية انهياره طويل الأمد، وهو ما أدى إلى ذبول السوق الموازية (لم تعد تظهر إلا في مناسبات قليلة).
بل تدريجياً بدأ الجنيه المصري يرتفع أمام الدولار ليتراجع من أكثر من 18 جنيهاً لكل دولار بعد التعويم إلى 15.6 في عام 2021.
نتيجة الثبات النسبي لسعر الجنيه، بل ارتفاعه قيمته مع الزيادة الكبيرة في أسعار الفائدة، حدث تدفق للأموال الأجنبية الساخنة على الأوراق المالية المصرية، وأدى ذلك إلى زيادة الاحتياطات الأجنبية.
بعد سنوات من التضخم الذي ميز الاقتصاد المصري والذي وصل إلى ذروته قبل وبعد التعويم تراجع التضخم بشكل لافت.
أدت نتائج التعويم وما صاحبه من إصلاحات مالية ونقدية أخرى إلى استقرار الأوضاع المالية المصرية بشكل كبير، ما أسهم في مقاومة التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا.
النتائج السلبية
يجب ملاحظة أن النتائج السلبية لتجربة التعويم المصرية بعضها سببه يرجع إلى التعويم ذاته، وبعضها سببه إجراءات مالية أخرى صاحبت التعويم، وبعضها إجراءات كان يجب أن تنفذ بالتزامن مع التعويم ولم تطبق، وبعضها سببه ما يمكن وصفه بنكوص جزئي عن التعويم.
كانت أبرز سلبيات التعويم ارتفاع الأسعار المفاجئ والكبير الذي أعقب التعويم، وحتى بعد تراجع الدولار أمام الجنيه، فإن الأسعار لم تنخفض إلى مستوى موازٍ.
وأدى ذلك إلى انهيار قيمة مدخرات المواطنين بالجنيه المصري، وكذلك القيمة الحقيقية لأجورهم بنسبة هائلة (فعلياً بعد التعويم كانت أجور المصريين من أدنى الأجور على مستوى العالم إذا قوّمت بالدولار).
وحتى بعد تراجع الدولار قليلاً، وزيادة الأجور بشكل نسبي، فإن ذلك لم يجعل أجور المصريين مقوّمة بالدولار تعود إلى مستواها ما قبل التعويم.
كما أن اعتماد مصر على الاستيراد بشكل كبير، بما في ذلك المنتجات الصناعية والزراعية والمواد ضاعف تأثير تراجع القيمة الفعلية للأجور.
واجه كثير من رجال الأعمال مشكلة كبيرة في الالتزام بتعهداتهم في ظل فارق الأسعار قبل وبعد التعويم، على سبيل المثال، فإذا كان هناك شركة تعاقدت على بيع شقق سكنية بسعر معين قبل التعويم، فإنه بعد التعويم أصبحت تكلفة البناء أعلى من سعر البيع الموجود في العقد، الأمر الذي أدى إلى إفلاس بعض المقاولين، أو عدم استكمالهم لمشروعاتهم في أفضل الأحوال.
الميزات التي لم تجنِها مصر من التعويم
يعد تراجع الأجور المقومة بالدولار ميزة محتملة رئيسية للتعويم، بالنظر إلى أنه يؤدي إلى انخفاض أسعار صادرات البلد (وهو ما يجعل تركيا تستفيد حالياً من تراجع عملتها في زيادة صادراتها)، وهي آلية أساسية في نجاح التجارب الآسيوية.
ولكن في الحالة المصرية فإن الصادرات لم تشهد زيادة كبيرة.
وعزا مصدرون عدم استفادة الصادرات المصرية من التعويم "كما كان متوقعاً"، لارتفاع تكلفة مدخلات الإنتاج المستوردة التي التهمت نسبة كبيرة من مكاسب تراجع الجنيه أمام الدولار، إضافة إلى الاضطرابات السياسية والأمنية في كثير من الأسواق العربية الرئيسية للمنتجات المصرية.
ولكن مع صحة التفسيرات السابقة، فإن هناك مشكلات في جودة المنتجات المصرية، وغياب الدعم الحكومي الكفء للصناعة، ساهمت في عدم استفادة الصادرات المصرية من فرصة التعويم الذهبية.
فالتعويم لكي يؤتي أهم ثماره يجب أن تعقبه خطة واضحة لتعزيز الصناعة والصادرات، ولكن الصناعة المصرية عانت من انكماش القدرة الشرائية المحلية جراء التعويم دون أن تعوض ذلك في الخارج.
أضرار رفع أسعار الفائدة
أدى رفع أسعار الفائدة الكبير على الأرصدة المحلية عقب التعويم بهدف جلب المدخرات الدولارية المحلية والأموال الساخنة الأجنبية إلى تفاقم الديون الوطنية كذلك خسائر للبنوك في بعض الأحيان.
ولكن الأثر الأسوأ أن سعر الفائدة الكبيرة، والذي طال أمده مع ثبات سعر الجنيه بل ارتفاعه، جعل العمل الأكثر ربحية هو إيداع المال في المصارف، خاصة مع رفع أسعار الطاقة والضرائب، ما قلل أرباح المشروعات المختلفة، الذين فضل أصحابها إيداع أموالهم في البنوك، وأيضاً عزف المستثمرون عن الاقتراض بسبب ارتفاع تكلفته.
وفي بعض الأحوال عرضت الحكومة قروضاً بفائدة منخفضة مدعمة، ولكن بعض المستثمرين وجد أنه في ظل حال الأسواق، الأفضل أن يحصل على هذه القروض المدعمة، ثم يعيد إيداعها في البنوك للحصول على الفائدة المرتفعة.
ومما زاد من الأثر السلبي لرفع الفائدة أن التعويم صاحبه وأعقبه رفعٌ لأسعار الطاقة والمياه وزيادة الضرائب (وتوسيع المجتمع الضريبي)، وهي كلها إجراءات إيجابية ومطلوبة، ولكن تزامنها مع التضخم الناتج عن التعويم وسحب المصارف للسيولة من السوق عبر الفائدة المرتفعة، وتراجع القوى الشرائية للمواطنين، أدى إلى تراجع ربحية المشروعات وانكماش في بعض القطاعات.
ومع أن الأرقام المعلنة للاقتصاد المصري لا يظهر فيها هذا الانكماش في الأنشطة الاقتصادية، إلا أنه محسوس لأيِّ متعامل مع السوق المصري، وقد يعود سبب عدم ظهور هذا الانكماش في الأرقام المعبرة عن الاقتصاد لتوسع الحكومة الكبير في مشروعات البنية الأساسية، ولاسيما مؤسسات الجيش.
فعلياً، أدت تجربة التعويم المصرية وما صاحبها من إصلاحات اقتصادية، إضافة لتوسع دور المؤسسة العسكرية الاقتصادي، إلى أن الحكومة المصرية التي كانت على شفا الإفلاس قبل عدة سنوات أصبحت أكثر ثراءً، فيما تراجعت القدرة الشرائية لكثير من المواطنين وحتى المستثمرين والشركات.
كما أن الكساد العقاري الذي أعقب الفورة العقارية التي انتهت بعد التعويم، ودخول الحكومة كأكبر لاعب في القطاع العقاري أثّر على كثير من أصحاب رؤوس الأموال المتوسطة والكبيرة، الذين كانت استثماراتهم الأساسية في مجال العقارات.
صعود الجنيه له آثار سلبية
بعد اقترابه من عتبة العشرين جنيهاً أمام الدولار، ارتفع الجنيه المصري حالياً ليصل إلى 15.6، بزيادة تدور حول الـ20%، وهي زيادة كانت لها آثار إيجابية في كبح التضخم بشكل لافت مؤخراً، وزيادة الثقة عالمياً ومحلياً في الجنيه وأدت إلى تدفق الأموال الساخنة للاستثمار في الأدوات المالية المصرية بعد أن أصبح الجنيه المصري العملة الأكثر ربحية في العالم.
ولكن هذا التدفق لا يفيد الاقتصاد المصري إلا في مجال زيادة الاحتياطي الدولاري، لأنها أموال لا تؤسس استثمارات على الأرض، كما أن هذه الأموال يمكن أن تنسحب جراء أي أزمة أو تغيير في السياسة النقدية.
كما أن ارتفاع أسعار الجنيه المصري مجدداً يرفع أسعار السلع المصرية في الخارج، ما يُضعف تنافسيتها، ويعزز تنافسية المنتجات المستوردة.
ويعتقد أن البنك المركزي له دور في ارتفاع الجنيه مؤخراً، ويعد نكوصاً جزئياً عن سياسة التعويم.
ومؤخراً، بدأ البنك المركزي المصري تخفيضاً كبيراً في أسعار الفائدة، في محاولة لتشجيع المودعين على سحب جزء من أموالهم من المصارف وضخها في السوق المحلية لإنعاش الاقتصاد.
كما بدأت الحكومة مبادرات لتقديم قروض مدعمة في مجالات الإسكان والصناعة، لإنعاش هذين المجالين اللذين يعانيان بشدة، ولكن هناك أمور تعرقل فاعلية هذه الإجراءات، أبرزها البيروقراطية والمنافسة غير العادلة بين القطاع الخاص في مواجهة مؤسسات الدولة، لا سيما المؤسسات العسكرية التي لديها امتيازات ضرائبية وغير ضرائبية تجعلها في وضع أقوى.
تقييم عام لتجربة التعويم المصرية ومقارنتها بالحالة اللبنانية
يمكن القول إن تجربة التعويم المصرية أنقذت البلاد من انهيار اقتصادي محتمل، ولكنها في الوقت ذاته كانت شديدة القسوة على المواطنين.
كما أن مصر لم تستفد بشكل كافٍ من أبرز مميزات التعويم المفترضة، وهو حدث طفرة في الصادرات.
بكلمات أخرى، وبلغة الفقه الإسلامي أدى التعويم إلى درء مفاسد كبيرة عن الاقتصاد المصري، مع تسببه في مفاسد أقل، ولكن التعويم لم يجلب معظم المنافع المتوقعة كاملة.
والقاعدة الفقهية الإسلامية الشهيرة تقول: "درء المنافع مقدم على جلب المنفعة"، وهو ما تحقق نسبياً مع التعويم المصري.
في المقابل، يجب الانتباه إلى أن دولة مثل لبنان كانت تمتلك احتياطات أجنبية هائلة، إضافة إلى طبقة وسطى هي الأكثر تعليماً وتأهيلاً في المنطقة، ولكن كان أحد أسباب انهيار عملتها واقتصادها (إضافة للطائفية والفساد والأزمات المحيطة بها)، هو تثبيت سعر عملتها الوطنية لعدة عقود، الأمر الذي أدى في النهاية لإضعاف الإنتاج المحلي، وتشجيع الاستيراد، وهو ما أفضى ضمن أسباب أخرى إلى انهيار الليرة اللبنانية إلى ما يقرب من عُشر قيمتها حالياً.