بعد 24 ساعة فقط من استلام المجلس الرئاسي الليبي الجديد مهامه رسمياً، في 16 مارس/آذار 2021، اختار الرئيس التونسي قيس سعيد أن يكون أول رئيس دولة يزور طرابلس، ليس فقط لتأكيد دعمه للسلطة الليبية الجديدة، بل أيضاً لبحث فرص استثمارية وتجارية لإنقاذ اقتصاد بلاده المتردي، وإيجاد حلول لشباب بطال ملّ "وعود الثورة".
واختصر رئيس البرلمان التونسي راشد الغنوشي الأهمية التي تكتسيها ليبيا بالنسبة لبلاده بالقول: "50% من مشاكل تونس يمكن أن تحل في ليبيا".
بل إن رئيس تحرير مجلة الدراسات الدولية التونسية، كمال بن يونس، اعتبر في 2011 أن "نصف الاقتصاد التونسي مرتبط بليبيا بشكل مباشر أو غير مباشر، خاصة المحافظات الواقعة في الجنوب"، في حوار أجراه معه موقع "دي دبليو" الألماني.
وناهزت خسائر تونس خلال العشرة أعوام الأخيرة، 5 مليارات دولار، بحسب بيانات ليبية رسمية، بمعدل 500 مليون دولار سنوياً، حيث أغلقت أكثر من 100 شركة تونسية أبوابها من إجمالي 1300 شركة كانت تعمل في قطاعات تجارية مع ليبيا، بينما تحولت شركات أخرى نحو التصدير لأسواق أخرى.
وتصدر تونس إلى ليبيا سلعاً غذائية، ومواد بناء، بينما تستورد منها النفط بالإضافة إلى كميات من الزيتون الذي يتم عصرها وإعادة تصديرها كزيوت.
ومع بروز مؤشرات على بداية استقرار الأوضاع في ليبيا، سارع المسؤولون التونسيون بالتواصل مع السلطة الليبية الجديدة، قبل أن تستحوذ الدول الكبرى والإقليمية على حصة الأسد من مشاريع إعادة الإعمار في البلاد، التي عاد قطاعها النفطي للانتعاش بالتوازي مع تحسن أسعار الذهب الأسود.
ورفعت مؤسسة النفط الليبية سقف توقعاتها من إيرادات النفط من 15 مليار دولار إلى 30 مليار دولار في نهاية 2021، بمتوسط إنتاج يتراوح بين 1.3 مليون برميل يومياً إلى 1.5 مليون برميل، وصولاً إلى مليوني برميل في 2023.
إذ في ظرف قصير تمكنت ليبيا من استعادة ريادتها من الجزائر كأكبر مصدر للنفط في البحر الأبيض المتوسط، ومن المرتقب أن تنافس نيجيريا في 2023، على صفة أكبر مصدر للنفط في إفريقيا، خاصة أن ليبيا تمتلك أكبر احتياطي نفطي في القارة السمراء بـ48 مليار برميل.
وهذه الثروة الهائلة تغري الكثير من دول العالم، ومن بينها تونس، لتنشيط اقتصادها عبر شراكة استراتيجية مع ليبيا، خاصة أن البلدين يتكاملان اقتصادياً.
شراكة استراتيجية
وتأتي زيارة الرئيس التونسي إلى ليبيا لتضع حجر الأساس لشراكة استراتيجية بين البلدين.
وسبق لرئيس الحكومة التونسي هشام المشيشي أن أعرب عن أمله في أن تتطور العلاقات مع ليبيا إلى مستوى "الشراكة الاستراتيجية".
واتفق الرئيس التونسي مع المسؤولين الليبيين على عقد الاجتماع التحضيري للجنة العليا المشتركة قبل نهاية مارس/آذار الجاري، وتنشيط الغرف التجارية، وتنفيذ الاتفاقيات المبرمة بين البلدين في مختلف المجالات وتوقيع أخرى جديدة، وتسهيل إجراءات تنقل الأشخاص وانسياب البضائع بين الدولتين.
وبلغ التبادل التجاري بين البلدين نحو ملياري دولار قبل 2011، تراجع إلى نحو 440 مليون دولار في 2018، لكن من الممكن مضاعفة هذه الأرقام إذا استقرت الأوضاع الأمنية والسياسية في البلدين.
ففي فبراير/شباط 2019، قال محافظ المصرف المركزي التونسي مروان العباسي إن "قيمة التبادل التجاري مع ليبيا عام 2018 ارتفعت إلى مليار و200 مليون دينار تونسي (نحو 440 مليون دولار) أي 3 أضعاف قيمة التبادل في عام 2017".
حيث يرتبط البلدان بمعبرين حدوديين؛ رأس جدير، والذهيبة/وازن، لكن الأول أكثرهما كثافة من حيث حركة المسافرين وشاحنات البضائع.
غير أن المعبرين واجها خلال الأعوام العشرة الأخيرة، عدة عراقيل وإغلاقات تسببت في معاناة المسافرين وعرقلت حركة شاحنات الشحن، آخرها ما تعلق بإجراءات الوقاية من جائحة كورونا.
وسبقت زيارة سعيّد إلى طرابلس، عقد "المنتدى الاقتصادي التونسي الليبي"، بمدينة صفاقس، كبرى مدن الجنوب التونسي، ما بين 11 و15 مارس/آذار الجاري، والذي شارك فيه رؤساء غرف التّجارة الليبية وأكثر من 120 رجل أعمال و400 مدير عام من مؤسسات تونسية مختلفة.
وتم الاتفاق في ختام المنتدى على تسهيل حركة العبور في المنافذ بين الدولتين، على مستوى معبري رأس أجدير والذهيبة تحديداً، والعمل على فتح معابر أخرى مثل معبر مشهد صالح بهدف تنمية التبادل التجاري مع منطقة الجبل الغربي بليبيا، ودراسة إمكانية فتح معبر رابع بين برج الخضراء وغدامس في المثلث الحدودي مع الجزائر.
ودعا المشاركون مسؤولي البلدين إلى إعادة إستعمال الدينار التونسي والدينار الليبي في المعاملات، وإعادة تبادل موارد طاقوية ليبية مقابل مواد أولية وبضائع تونسية، وتفعيل اتفاقية التبادل الحر بين البلدين الموقعة في 2001.
ترميم تصريحات ساخنة
قبيل الزيارة المفاجئة والسريعة لسعيد إلى طرابلس، فاجأ المتحدث السابق باسم وزارة الداخلية التونسية العميد المتقاعد هشام المدب، الجميع بتصريحات جريئة وساخنة ضد ليبيا أثارت رداً قوياً من الخارجية التونسية.
حيث قال المدب: "لدينا أولادنا يعملون في ليبيا، وشركاتنا يجب أن تعود للعمل أيضاً هناك. وإلا فلن نوافق على أي اتفاقات يتم عقدها في ليبيا. ويمكن أن نشيد جداراً على الحدود مع ليبيا، وكل شيء جائز. مصلحة التونسيين قبل كل شيء".
بينما عبرت الخارجية التونسية، في بيان لها، عن "تعجبها الشديد من تكرار المحاولات اليائسة للتشويش على الروابط الأخوية الصادقة التي تجمع الشعبين التونسي والليبي".
وشددت على أن المدب، "لا صفة له، ولا يمثل إلا نفسه، ولا يلزم الدولة التونسية في شيء".
وبعدها بأيام كان الرئيس التونسي في طرابلس، لوأد أي ارتدادات سلبية لهذه التصريحات على العلاقات بين البلدين.
ضائقة مالية تهدد بتكرار السيناريو اللبناني
تواجه تونس أزمة اقتصادية خانقة أثرت على وضعها الاجتماعي المحتقن، الذي ما يفتأ يتفجر على شكل احتجاجات تأخذ أحياناً طابعاً عنيفاً، يعيد للأذهان ثورة محمد البوعزيزي، الذي أحرق نفسه بعد مصادرة طاولة الخضار التي كانت مصدر رزقه.
ومع انتشار جائحة كورونا في العالم، ضاعف ذلك من أزمات تونس، وأدخلها في ضائقة اقتصادية غير مسبوقة، مع انكماش اقتصادي بلغ 8.8%، وعجز مالي قدره 11.5% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020، بحسب البنك الدولي.
وتتوقع موازنة تونس 2021 أن تصل نسبة الدين العمومي من إجمالي الناتج المحلي إلى 92.7% نهاية عام 2021، مقارنة بـ90% متوقعة في 2020، و72.5% في 2019.
ويلفت البنك الدولي إلى أن هذه النسب "أعلى بكثير من عبء ديون الأسواق الناشئة القياسي البالغ 70% من الناتج المحلي الإجمالي".
ومن المرتقب أن يصل حجم الاقتراض الإجمالي إلى 7.2 مليار دولار في 2021، منها نحو 5 مليارات دولار قروض خارجية، ويقدر سداد الديون المستحقة هذا العام 16 مليار دينار (أكثر من 5.8 مليار دولار) ارتفاعاً من 11 مليار دينار (4 مليارات دولار) في 2020.
وهذه الأرقام المرعبة تذكرنا بالأزمة المالية اللبنانية التي أوصلت البلاد إلى عدم القدرة على سداد الديون الخارجية مع الفوائد، وفي الحالة التونسية إذا لم تسارع الحكومة لإيجاد حلول لضائقتها المالية فإنها قد تجد نفسها مضطرة لجدولة ديونها بشروط قاسية.
فصندوق النقد الدولي يضغط على الحكومة التونسية من أجل تخفيض فاتورة الأجور في القطاع العام، التي تبلغ نحو 17.6% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يضعها ضمن المعدلات الأعلى في العالم.
وأي تخفيض في كتلة الأجور يعني تسريح مزيد من العمال والموظفين في القطاع العام، ما سيرفع نسب البطالة، ويزيد من الضغوط الاجتماعية على الحكومة، في ظل تغول نقابة العمال (الاتحاد التونسي العام للشغل).
لكن نقطة الضوء الإيجابية، توقع حكومة هشام المشيشي بتحقيق نسبة نمو تصل إلى 4% في 2021 (3.8% بحسب توقعات صندوق النقد الدولي)، لكن ذلك مشروط بتراجع آثار جائحة كورونا، وانتعاش قطاع السياحة، وزيادة الطلب على المنتوجات المحلية داخليا وخارجيا.
إذ تسبب انخفاض الطلب الخارجي والقيود المفروضة على الرحلات في انخفاض عائدات السياحة بنسبة 47%، وانخفاض صادرات المنتجات الميكانيكية والكهربائية والنسيجية (الصادرات الصناعية الرئيسية للبلاد) بنسبة 27%، حسب أرقام البنك الدولي.
بطالة حلها في ليبيا
ارتفع عدد العاطلين عن العمل في تونس إلى 725 ألفاً، بعد فقدان 78.3 ألف وظيفة خلال النصف الثاني من عام 2020، أو ما يعادل زيادة بنسبة 17.4% خلال هذه الفترة، بحسب معهد الإحصاء التونسي (حكومي).
وتؤثر البطالة بشكل مباشر أو غير مباشر على معدلات الفقر، حيث يتوقع البنك الدولي أن ترتفع نسبة الفقراء في تونس من 16.6 إلى 22% من إجمالي السكان، البالغ عددهم نحو 12 مليوناً.
وتؤرق البطالة المرتفعة السلطات التونسية، نظر لما تسببه من احتقان اجتماعي واحتجاجات متكررة خاصة بالمناطق الداخلية مثل محافظة سيدي بوزيد، مهد الثورة، وكذلك بالمحافظات الجنوبية والغربية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر.
وهذا ما دفع الغنوشي للقول "يكفي أن يتحول نصف مليون تونسي للعمل في ليبيا ستنتهي مشاكل البطالة في البلاد، فضلا عن الأسواق التي ستفتح أمام بضائعنا الفلاحية والصناعية".
إذ يعمل حالياً بليبيا ما بين 80 إلى 120 ألف تونسي، لم يمنعهم الوضع الأمني المتردي في ليبيا من المغامرة بحثاً عن العمل بدل الاستسلام لشبح البطالة في بلادهم.
السياح الليبيون ثروة تُدر ذهباً
فليبيا قبل 2011، كانت أكبر شريك تجاري مغاربي لتونس، قبل أن تتراجع إلى المرتبة الثانية خلف الجزائر.
وعدد السياح الليبيين الذين زاروا تونس في 2019، بلغ مليوناً و900 ألف سائح، وإن تراجع في 2020، بسبب جائحة كورونا وإجراءات الغلق التي لجأ لها البلدان، إلا أنه من المتوقع أن يعود إلى سابق عهده مع انحسار الوباء.
كما تستوعب المستشفيات التونسية عدداً لا بأس به من المرضى وجرحى الحرب في ليبيا.
فبحسب بيانات رسمية، فإنه من بين 380 ألف مريض أجنبي يعالجون سنوياً في تونس، يوجد بينهم 320 ألف ليبي (نحو 85%).
وتوفر السياحة العلاجية لتونس مداخيل سنوية تقدر بنحو 166 مليون دولار.
لذلك تعتبر زيارة الرئيس التونسي إلى ليبيا تاريخية ليس لأنها الأولى من نوعها منذ 2012، بل لأنها وضعت أساساً لتعاون تجاري واقتصادي بين البلدين من شأنه امتصاص الكثير من أزمات البلاد المالية والاجتماعية، قبل أن تجد نفسها أمام سيناريو شبيه للوضع الاقتصادي والاجتماعي في لبنان.