احتفلت باكستان مؤخراً بالذكرى الثانية لعملية الرد الرشيق، والتي باتت تسمى يوم المفاجأة لدى القوات الجوية الباكستانية التي تقول إنها أحرجت في هذه المعركة نظيرتها الهندية الأكبر حجماً في عملية عسكرية نُظر إليها بأنها تمثل نقطة فارقة في النزاع بين الهند وباكستان.
وبينما تختلف روايات الدولتين النوويتين حول هذه العملية الجوية، فإن كثيراً من الوقائع والتقارير من أطراف ثالثة من بينها الولايات المتحدة أقرب للرواية الباكستانية عن هذه المعركة الجوية التي انتهت بسقوط ثلاث طائرات هندية حسب الرواية الباكستانية، وطائرتين هنديتين وواحدة باكستانية، حسب رواية نيودلهي المعدلة (بينها مروحية هندية سقطت بنيران صديقة، حسب نيودلهي).
الهند وباكستان.. فجوة تتسع
المفارقة الكبرى في هذه المعركة الجوية تأتي من أن إسلام أباد قد تفوقت فيها رغم وجود فارق هائل كماً ونوعاً بين القوتين الجويتين الهندية، والباكستانية.
فالهند هي دولة مدللة من الغرب وروسيا على السواء، وهي إحدى الدول القليلة التي تمتلك ترسانة متنوعة من الطائرات الغربية والروسية، مع مشروعات وعروض للإنتاج المشترك من الغرب وموسكو.
في المقابل، فإن باكستان إضافة إلى ضعف إمكانياتها الاقتصادية، فإنها عليها شبه حصار فعلي من الغرب، قد تكون أسبابه علاقة باكستان المعقدة مع الدول الغربية لا سيما الولايات المتحدة أو كونها دولة إسلامية الطابع، أو خوفاً من قبل الدول الغربية من إغضاب الهند (نيودلهي استبعدت عرضاً من السويد لتزويدها بطائرات جريبين لأن ستوكهولم باعت طائرات استطلاع لإسلام أباد).
وفعلياً لم يعد لدى باكستان حليف أو مزود فعال بالسلاح سوى الصين، التي تظل متحفظة في مساندة إسلام أباد في هذا المجال سواء لقلة موارد الأخيرة أو رغبة بكين في عدم خروج قوة باكستان عن السيطرة، كما بدأت تركيا تظهر كشريك فعال لباكستان في المجال (وإن كان أقل بكثير من الصين).
نتيجة لهذه المميزات التي تتوفر للهند مقابل مشكلات باكستان المتعددة إلى جانب التفاوت الهائل في الحجم بين البلدين (عدد سكان الهند نحو 1.3 مليار أي أنها أكثر من ستة أضعاف عدد باكستان البالغ نحو 212 مليوناً)، فإنه في المجال الجوي تحديداً أصبح الفارق بين البلدين هائلاً.
إليك الفارق بين القوات الجوية للبلدين
تمتلك الهند ترسانة ضخمة من الطائرات الروسية على رأسها نحو 270 طائرة من أفضل نسخ سوخوي 30 (النسخة الهندية تتقارب في إمكانيتها مع السوخوي 35)، و65 طائرة روسية أصغر حجماً من طراز ميغ 29، و45 طائرة فرنسية من طراز ميراج 2000، إضافة إلى نحو 11 من الطائرة الفرنسية الأحدث من طراز رافال، وهي في انتظار 25 طائرة أخرى.
وبدأت الهند تدخل طائراتها المحلية الصنع الصغيرة هيل تيجاس بعدد 22 طائرة والتي تعتمد على محرك أمريكي ورادار إسرائيلي.
في المقابل، فإن القوة الضاربة للقوات الجوية الباكستانية هي نحو 75 طائرة أمريكية الصنع من طراز إف 16 أغلبها من فئات قديمة، وتتلكأ الولايات المتحدة في تحديثها أو زيادة عددها، علماً أنها قد أوقفت تزويد باكستان بقطع الغيار بعد تجاربها النووية في نهاية التسعينيات، وتظل قدرة باكستان في الحصول على مزيد من هذه الطائرات أو قطع الغيار مرتبطة بحاجة واشنطن لها في أفغانستان التي تتضاءل خلال السنوات الماضية.
ويمكن ملاحظة الفارق في المعاملة الأمريكية بين البلدين، في أنه بينما تتحفظ واشنطن على تزويد باكستان بمزيد من طائرات إف 16 فإنها عرضت على الهند المساعدة في الإنتاج المحلي لنسخة متطورة من الإف 16 تدعى إف 21، وذلك مع تزايد زيادة وزن نيودلهي الاقتصادي عالمياً، والأهم رغبة أمريكا في استخدام الهند لاحتواء الصعود الصيني.
كما تعتمد باكستان على 135 طائرة فرنسية من طراز ميراج 3 التي تعود لخمسينيات القرن العشرين، و139 طائرة ميراج 5 التي تعود للستينيات، وتقوم إسلام أباد بشراء هذين الطرازين من الدول التي تتخلص منها مع إخضاعها لبرنامج تحديث ناجح نسبياً، إضافة إلى امتلاك إسلام أباد لنحو 180 طائرة من طرازJ 7 الصينية الصنع والتي تعد تقليداً وتطويراً للطائرة السوفييتية العتيقة والشهيرة ميغ 21 التي تعود لستينيات القرن العشرين.
وفي مواجهة هذا النقص، نجحت باكستان في تنفيذ برنامج لإنتاج طائرة مشتركة مع الصين (تعتمد على بكين في تقنياتها بشكل كبير) هي الطائرة JF 17، وهي طائرة صغيرة ورخيصة، ورغم الانتقادات التي توجه لها من قبل المصادر الهندية، إلا أن تطويرها تم في زمن قياسي (أقل من 30 عاماً منذ بداية الفكرة لإدخال الطائرة في الخدمة).
أما الطائرة الهندية الصنع هيل تيجاس فلقد منحت في 2019، خلال معرض أيرو الهند، الترخيص التشغيلي النهائي أي بعد 35 عاماً من انطلاق المشروع و60 عاماً من بدء الفكرة، وما زالت الطائرة لم تدخل الخدمة بشكل كبير، كما ظهر في عملية الرد الرشيق، بينما لدى باكستان 135 طائرة عاملة من طراز JF 17، واستخدمتها في عملية الرد الرشيق ضد الهند، إضافة إلى عمليات عسكرية أخرى، كما تستعد لإنتاج نسخة محدثة منها تعالج أوجه قصور الطائرة، وتجعلها أقرب لنظيرتها الهندية هيل تيجاس.
هذه الفوارق الهائلة في الإمكانيات، تجعل من المنطقي أن القوات الجوية الهندية يجب أن تتمتع بتفوق ساحق على نظيرتها الباكستانية، ولكن في عملية الرد الرشيق بدت النتيجة مختلفة إلى حد كبير، الأمر الذي جعل القوات الجوية الباكستانية تعتبرها انتصاراً لها.
فما قصة هذه المعركة الجوية؟ ومن انتصر فيها فعلاً؟
قصة عملية الرد الرشيق
بدأ التوتر بين البلدين جراء هجوم بولواما الذي وقع في 14 فبراير/شباط 2019 في جامو وكشمير والذي أسفر عن مقتل 40 من أفراد الشرطة الاحتياطية المركزية الهندية.
وأعلنت جماعة جيش محمد التي تطالب باستقلال كشمير مسؤوليتها عن الهجوم، ألقت الهند باللوم على باكستان في الهجوم ووعدت برد قوي، بينما أدانت الأخيرة الهجوم ونفت أي صلة به.
بعد 12 يوماً، في صباح يوم 26 فبراير/شباط 2019، نفذت الهند غارة جوية عبر الحدود بالقرب من بالاكوت في باكستان.
كانت هذه الضربة الجوية هي المرة الأولى منذ الحرب الهندية الباكستانية عام 1971 التي يتم فيها تنفيذ هجمات جوية عبر خط السيطرة.
ويعتقد أن العملية التي تعد تطوراً خطيراً في الصراع بين البلدين النوويين لها أسباب انتخابية، كما تبين فيما بعد، حينما أظهرت رسائل محادثة مُسرَّبة من تطبيق واتس آب، كان المذيع المعروف بانتمائه للجناح اليميني المتطرف، أرناب غوسوامي، أحد أطرافها، أنه كان لديه معرفة مسبقة بالهجوم، قبل ثلاثة أيام من وقوعه، بناء على معلومات يبدو أن مصدرها رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي.
هل نجحت الغارة الهندية؟
في نفس صباح الغارة الهندية، قال الجيش الباكستاني الذي كان أول من أعلن الغارة إن الطائرات الحربية الهندية عبرت الحدود الدولية وأسقطت حمولتها في منطقة غابات غير مأهولة بالقرب من بالاكوت في خيبر بختونخوا.
بعدها أكدت الهند الغارة الجوية في وقت لاحق من ذلك اليوم ووصفتها بأنها ضربة استباقية موجهة ضد معسكر تدريب إرهابي، وادعت أنها تسببت في مقتل "عدد كبير" ممن وصفتهم بالإرهابيين.
وأفادت وسائل إعلام هندية نقلاً عن مصادر رسمية أن 12 طائرة ميراج 2000 شاركت في العملية وأنها قصفت عدة معسكرات للمسلحين في بالاكوت وتشكوثي ومظفر أباد يديرها جيش محمد وعسكر طيبة وحزب المجاهدين وقتلت حوالي 350 مسلحاً.
واعترف مسؤولون باكستانيون باختراق طائرات هندية المجال الجوي للبلاد لكنهم رفضوا التصريحات الهندية حول نتائج الغارة. وذكروا أنه تم اعتراض الطائرات الهندية وأن الحمولات تم إسقاطها في مناطق غير مأهولة بالسكان وقالوا إن الغارة لم تسفر عن وقوع إصابات أو أضرار بالبنية التحتية، كما صرح وزير الدفاع الباكستاني، برويز خطاك، بأن القوات الجوية الباكستانية لم ترد مباشرة لأنها "لم تتمكن من قياس مدى الضرر".
ردت باكستان في يوم 27 فبراير/شباط، حيث توغلت طائراتها من طراز إف 16 الأمريكية الصنع، وJF 17 الصينية الباكستانية الصنع داخل أجواء كشمير الخاضعة للإدارة الهندية.
وقال متحدث عسكري باكستاني إن القوات الجوية الباكستانية كانت قادرة على قصف المنشآت العسكرية الهندية في عملية الرد الرشيق، لكنها اختارت إلقاء الأسلحة في مناطق مفتوحة بدلاً من ذلك، "لتجنب الخسائر البشرية والأضرار الجانبية".
كما قال رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان إن الضربات الجوية كانت تهدف فقط إلى "إرسال رسالة" وناشد بإجراء مفاوضات لتجنب حرب شاملة.
ولكن وقع قتال عنيف بين المقاتلات الهندية والباكستانية، خلال عملية الرد الرشيق
وقالت باكستان إنها أسقطت طائرة ميج 21 هندية خلال العملية، فنفت الهند، ثم اعترفت بأن لديها طياراً مفقوداً.
المفاجأة أن باكستان عرضت على التليفزيون لقاء مع قائد الطائرة الهندية المأسور قائد الجناح أبيناندان فارثامان.
وأدت الضربات الجوية الانتقامية إلى جانب القبض على الطيار الهندي إلى زيادة حالة التأهب العسكري، وتم نشر الدبابات على الحدود في الجانب الباكستاني، بينما هرب العديد من السكان الكشميريين من منازلهم، وقاموا بطلاء منازلهم بعلامات الصليب الأحمر لتجنب الضربات الجوية.
ثم أطلقت باكستان سراح الطيار الأسير في 1 مارس/آذار 2019، واصفة الخطوة بأنها بادرة سلام. على الرغم من أن سلاح الجو الهندي ذكر أن إطلاق سراح الطيار كان التزاماً بموجب اتفاقيات جنيف. كما انتقدت وسائل الإعلام الهندية إصدار باكستان صور ومقاطع الفيديو لاستجواب الطيار، واعتبروها مخالفة لبروتوكولات الاتفاقية، حيث كان هناك مقطع فيديو نشرته إسلام أباد قبيل إطلاق سراح الطيار الهندي يظهره يمتدح الجيش الباكستاني.
ماذا تقول المصادر المستقلة عن المعركة؟
خلصت تحليلات صور الأقمار الصناعية مفتوحة المصدر بواسطة مختبر الأدلة الجنائية الرقمي التابع للمجلس الأمريكي الأطلسي، ومختبرات الكوكب ومقرها سان فرانسيسكو والتصوير الفضائي الأوروبي والمعهد الأسترالي للسياسة الاستراتيجية إلى أن الهند لم تضرب أي أهداف ذات أهمية في موقع قمة تل جابا بالقرب من بالاكوت في باكستان.
وفي 10 إبريل/نيسان 2019، عثرت مجموعة من الصحفيين الدوليين، الذين تم اصطحابهم إلى قمة تل جابا في رحلة خاضعة لرقابة مشددة رتبتها الحكومة الباكستانية، على الرغم من عدم تمكنهم من إجراء تقييم مستقل، على أدلة على أن أكبر مبنى في المنطقة لا تظهر عليه مؤشرات ضرر أو جهود إعادة بناء قريبة.
وقال قرويون من المنطقة إن أربع قنابل سقطت على غابة قريبة وحقل، مما أدى إلى إلحاق أضرار بمبنى وإصابة رجل محلي.
وأثار بعض الدبلوماسيين والمحللين شكوكاً حول فاعلية الضربة الهندية، مشيرين إلى أن الجماعات المسلحة الكشميرية على طول الحدود يفترض أنها أخلت المنطقة، بعد أن توعد رئيس الوزراء الهندي بالانتقام من هجوم بولواما.
واختلف السكان المحليون فيما يتعلق بالغرض من المنشأة التي قيل إنها مستهدفة من الغارة. في حين ذكر البعض أنه معسكر تدريب نشط للجيش الباكستاني، ذكر آخرون أنه كان مجرد مدرسة للأطفال المحليين.
قال تحليل بيانات الأقمار الصناعية من قبل ناثان روسر، من معهد السياسة الاستراتيجية الأسترالي، إنه لم يكن هناك أي دليل واضح للتحقق من تصريحات الهند.
وأجرى مايكل شيلدون، محلل الطب الشرعي الرقمي في Atlantic Council، تحقيقاً مستقلاً حول هذه القضية، حسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
وقال إنه لم يلحق أي ضرر بأي بنية تحتية حول الموقع المستهدف. وخلص إلى أنه "يبدو أن شيئاً ما قد حدث خطأ في عملية الاستهداف"، وهو أمر غامض في ضوء طبيعة الصواريخ المستخدمة.
هل أسقطت الهند طائرة إف 16؟
قالت الهند إنها أسقطت خلال المعركة طائرة باكستانية من طراز إف 16 الأمريكية الصنع.
ولكن مقالاً في مجلة فورين بوليسي الأمريكية نقل عن مسؤولين بالبنتاغون أن جميع طائرات إف -16 الباكستانية، "سليمة".
ردت القوات الجوية الهندية بنشر ما اعتبرته أدلة لتأكيد أن باكستان فقدت طائرة مقاتلة خلال القتال الجوي وتضمنت الأدلة الهندية توقيعات إلكترونية واتصالات لاسلكية، ووصف عدد من محللي الدفاع الأمريكيين والهنود الأدلة بأنها ظرفية.
وذكرت وسائل إعلام هندية أن المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية قال إنه ليس على علم بأي تحقيق بشأن طائرات إف 16 الباكستانية.
وفندت صحيفة The Washington Post الأمريكية ما قاله الإعلام الهندي قائلة إن أياً من البنتاغون أو وزارة الخارجية الأمريكية، لم تصدر بياناً بشأن حادثة سقوط طائرة F-16 التي تحدثت عنها نيودلهي، كما لم تكن هناك تسريبات مضادة من البنتاغون تتعارض مع تقرير مجلة فورين بوليسي الذي يفيد بأنه لم تسقط أي طائرة باكستانية من طراز إف 16 في عملية الرد الرشيق.
كيف ستؤثر نتيجة المعركة على النزاع الهندي مع الصين؟
إضافة إلى الأغراض الانتخابية الداخلية، كان هدف الغارة الهندية استعراض قوة نيودلهي المتنامية.
لكن النتيجة جاءت معاكسة، ليس فقط في المنافسة مع باكستان ولكن مع الصين الأقوى بكثير من البلدين.
فإذا كان أداء سلاح الجو الهندي بهذا المستوى أثناء المواجهة مع القوات الجوية الباكستانية، فكيف سيكون أداء الهند عند مواجهة القوة العسكرية الصينية؟
كما كان لافتاً أن باكستان استخدمت في المواجهة طائرتها محلية الصنع من طراز JF 17، بينما لم تشرك الهند طائرتها هيل تيجاس.
وهناك حديث عن أداء ضعيف للطائرات السوخوي 30 الجبارة التي تعد القوة الضاربة للقوات الجوية الهندية أمام الطيارين الباكستانيين الذين يقودون الإف 16 الأمريكية المتقادمة والأصغر حجماً، حسبما ورد في تقرير لموقع The Print الهندي.
ونفت الهند إدعاءات باكستان بأنها أسقطت طائرة سوخوي، ولكن بالنظر إلى أنه في معظم الوقائع كانت المصادر الباكستانية أصدق كثيراً من الهندية، كما أثبتت المصادر المستقلة، فإنه لا يمكن استبعاد الرواية الباكستانية.
المفارقة التي ظهرت في المعركة أيضاً، أنه بعد اعتراف الهند بسقوط طائرتها ميغ 21 فإنها نفت الرواية الباكستانية بأن الطائرة أسقطت من قبل الطائرة الباكستانية الصنع JF 17، وأصرت على أن إسلام أباد أسقطتها بطائرة أمريكية الصنع إف 16.
تشير نتيجة المعركة إلى أنه رغم ضخامة القوة العسكرية الهندية وتحديداً قوتها الجوية، إلا أن هناك ثغرات واضحة في القدرة العملياتية لنيودلهي، وستحتاج الولايات المتحدة في تحالفها الصاعد مع الهند، إلى بذل جهد كبير لتحديث وتدريب قوات الدفاع الهندية حتى تتمكن من أن تكون نداً للصينيين.
ومع ذلك يجب ألا تنسى الولايات المتحدة أن تمكين قوات الدفاع الهندية مع إهمال أهمية باكستان يمكن أن تكون له عواقب على السلام الإقليمي.