تبدو سياسة ألمانيا تجاه سوريا ولاجئيها تتغير لتصبح محملة بتناقضات غريبة، بشكل أثار انتقادات داخلية كبيرة.
فلقد أصبحت ألمانيا، الشهر الماضي، أول دولة في العالم تدين موظفاً سابقاً في المخابرات العسكرية السورية سيئة السمعة، بموجب القانون الدولي. وجاء هذا الحكم بعد شهادات استمرت شهوراً، عن انتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان في سوريا.
ولكن قبل صدور هذا الحكم بوقت قصير، تصدَّرت ألمانيا عناوين الصحف بعدما أصبحت أول دولة أوروبية كبرى تقرر إمكانية إعادة السوريين المدانين بجرائم خطيرة إلى بلادهم، حسبما ورد في تقرير لشبكة Deutsche Welle الألمانية.
وبعد أن كانت البلاد في طليعة الدول المرحِّبة بالسوريين الفارين من الحرب، قررت ألمانيا، في ديسمبر/كانون الأول 2020، استئناف عمليات ترحيل السوريين بألمانيا الذين يشكلون تهديداً للأمن، اعتباراً من بداية السنة الحالية 2021، وذلك حسبما أُعلِنَ خلال مؤتمر عبر الهاتف جمع وزير الداخلية الفيدرالي الألماني المحافظ هورست سيهوفر ونظراءه الـ16 على مستوى الولايات.
وقال وزير الدولة في وزارة الداخلية هانس يورغ أنغيلكه، لوسائل الإعلام بعد هذا القرار، إن "اللاجئين الذين يرتكبون جرائم أو يسعون وراء أهداف إرهابية لإلحاق أذى خطير بدولتنا وشعبنا، يجب أن يغادروا البلاد".
ووفقاً لتقارير، يوجد نحو 90 سوريّاً من هؤلاء في بلادهم الآن.
وتشير كلتا الواقعتين إلى مدى تعقيد العلاقة بين ألمانيا وسوريا، في ظل وجود نحو 800 ألف طالب لجوء سوري ما زالوا يقيمون في ألمانيا منذ عام 2015، وعدم وجود علاقات دبلوماسية بين البلدين.
لماذا تم اتخاذ هذا القرار، وكيف جرى تمريره؟
وكان قد بدأ تطبيق هذا الحظر على إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم منذ عام 2012، وكان يُجدَّد من حينها كل ستة أشهر على مستوى الولايات والمستوى الفيدرالي. لكن نهاية العام الماضي، رُفع هذا الحظر، لأن قرار استمراره كان يستلزم تأكيده بأصوات الأغلبية، لكن وزراء داخلية الولايات منقسمون على أسس حزبية ليبرالية ومحافظة.
وتعالت الأصوات المطالبة بإعادة دراسة قرار المنع الشامل من الترحيل إلى سوريا، مباشرة بعد الاعتداء الذي حصل العام الماضي في مدينة دريسدن، إذ قال وزير الداخلية هورست زيهوفر، في تصريحات تلت الحادث الإرهابي مباشرة: "سأعمل من أجل إعادة تقييم إمكانية الترحيل إلى المناطق الآمنة في سوريا".
إذ أخذ الموقف الألماني من ترحيل السوريين بألمانيا منحىً تصاعدياً، بسبب تورط شاب سوري يبلغ من العمر 20 عاماً، في تنفيذ اعتداء دامٍ بسكين بمدينة دريسدن، كما أنه كان مُداناً بعدد من الجرائم ومعروفاً بقربه من الأوساط الإسلامية، وكان يقيم في ألمانيا بموجب وضع خاص يمنح للأشخاص الذين تُرفض طلباتهم للجوء ولا يمكن ترحيلهم.
"اعتراف بالأسد"
وحذَّرت منظمة حقوق الإنسان الألمانية Pro-Asyl، في ديسمبر/كانون الأول 2020، من خطورة هذا القرار.
وسادت مخاوف بين المنظمات الحقوقية من أن هذا القرار سيدفع ألمانيا إلى استئناف العلاقات الدبلوماسية مع الحكومة السورية على مستوى رفيع. وهذا من شأنه أن يجعل ألمانيا أول قوة أوروبية كبرى تعترف بحكومة يرأسها بشار الأسد من جديد.
ونبّه غونتر بوركهارت، رئيس منظمة Pro-Asyl، إلى أن النظام السوري "سيصبح مقبولاً، لأن عمليات الترحيل مستحيلة من دون علاقات دبلوماسية".
من جانبه، لفت كريم الواسطي عضو مجلس شؤون اللاجئين بولاية ساكسونيا السفلى، في تصريحات سابقة لـ"عربي بوست"، إلى "صعوبة تطبيق قرار ترحيل السوريين بألمانيا والذي يتطلب علاقات مع الحكومة السورية المنعزلة عن المجتمع الدولي، بسبب انتهاكها حقوق الإنسان وجرائم الحرب"، معتبراً أنَّ "جعل قنوات تربطك بحكومة كهذه ليس صواباً وفرصة يستغلها النظام ليجعل من نفسه جهة تفاوض رسمية".
هل يتم تنفيذ الترحيل؟
سألت صحيفة Taz الألمانية، بداية هذا الشهر، هيئات حكومية عدة، منها بعض حكومات الولايات، ما إذا كانت قد نفذت أي عمليات ترحيل أو تخطط لذلك. وكانت الإجابة بالنفي.
وقال بعض المسؤولين إنهم لا يعتقدون أن القضاة المحليين، الذين تتطلب قرارت الترحيل توقيعهم، سيوافقون على ذلك في الوقت الحالي.
وسبق أن قال بوريس بيستوريوس عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي المشارك في الائتلاف الحاكم، إنه "من الناحية العملية فإن إجراءات ترحيل السوريين بألمانيا إلى سوريا يمكن أن تبقى شبه مستحيلة؛ لعدم وجود مؤسسات دولة في ألمانيا لديها علاقات دبلوماسية مع سوريا".
وانتقد السياسي الألماني بشكل حاد، رمزية معنى أن "تصبح ألمانيا التي استقبلت أكثر من مليون مهاجر، بينهم مئات آلاف السوريين، في ذروة أزمة تدفق المهاجرين، تكون أول دولة في الاتحاد الأوروبي تقوم بإلغاء حظر الترحيل"، معتبراً أن "الأمر لا يدعو إلى "الافتخار".
فكيف نفسر ما يبدو انفصاماً في القرارات الألمانية المتعلقة بسوريا؟ حسب التعبير الوارد في تقرير شبكة Deutsche Welle الألمانية.
تناقضات السياسة الألمانية
يقول رينيه ويلدانغيل، الخبير في العلاقات الأوروبية مع الشرق الأوسط وباحث السياسة السابق بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: "توجد فروع حكومية مختلفة تماماً تشارك في هذه العملية. وهي ليست أزمة هوية، وإنما تتلخص الفكرة في أن الحكومة الألمانية لديها مؤسسات وهيئات ذات وجهات نظر مختلفة".
وقال ويلدانغيل لشبكة Deutsche Welle، إن القرارات التي يتخذها وزراء الداخلية على مستوى الولايات لا تحدد السياسة العامة للبلاد، عكس وزارة الخارجية الألمانية.
وقال موضحاً: "إنه عام انتخابات، وليس فقط على المستوى الفيدرالي، لذا ربما لا يكون الخطاب الذي يميل إلى الشعبوية مفاجئاً. بعض الناس يريدون أن يظهروا بمظهر الصارمين، رغم أنهم ربما لا يعيدون أحداً إلى سوريا فعلياً. وهذا غاية في السخافة".
و اعتبر كريم الواسطي أن "اتخاذ قرار ترحيل السوريين في ألمانيا بإعادة الأشخاص الخطرين إلى سوريا يعتبر نقطة انعطاف مهمة وسلبية في معالجة ملف اللاجئين السوريين من قبل الحكومة الألمانية، وانتكاسة للسياسة الداخلية".
ورأى أن "القرار يعطي إشارات للأحزاب وللناخبين المقربين من اليمين المتطرف والشعبوي، ويمكن اعتباره بمثابة تسابق مع الأحزاب الشعبوية من أجل الظفر بالناخبين".
إذن، من وراء محاكمة ضابط الاستخبارات السورية؟
وفي الوقت نفسه، جاءت قضية كوبلنز التاريخية التي أدانت أحد ضباط النظام السوري السابقين، والتي ظلت في المحاكم ما يقرب من عام، من اتجاه مختلف تماماً وفي إطار خارج السياسة تقريباً.
إذ أصبحت هذه القضية ممكنة بفضل مجموعة مثالية من العوامل، حسب وصف دويتش فيليه، مثل وصول الآلاف من الشهود المحتملين على جرائم الحرب السورية عام 2015، بعدما دخل نحو مليون طالب لجوء إلى البلاد، ونشاط وحدة جرائم حرب متفانية في الشرطة الجنائية الفيدرالية والتي انخرطت في تحقيقات عن سوريا منذ عام 2011.
وفضلاً عن ذلك، وكما قال جاسبر كلينغ، أحد كبار المدعين العموميين، للصحفيين حين بدأت القضية: "مسؤوليتنا التاريخية تعني أننا الألمان ملزمون بمتابعة هذا النوع من القضايا، بقدر ما يمكننا".
ويقول ويلدانغيل إن الاتجاهين- محاولات تحقيق العدالة في جرائم الحرب، والترحيل- لن يتوافقا يوماً.