قرر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تسهيل الوصول إلى محتويات الأرشيف الفرنسي السري الذي يزيد عمره على خمسين عاماً، ومن ضمنه وثائق الحرب الجزائرية، في محاولة لاحتواء غضب الجزائر وأيضاً علماء التاريخ الفرنسيين الذين يشكون من وقف نشر كتبهم بسبب ممارسات الجيش الفرنسي.
وأعلنت الرئاسة الفرنسية، في بيان، الثلاثاء، أن ماكرون قرر تسهيل الوصول إلى محتويات الأرشيف السري التي يزيد عمرها على 50 عاماً، خصوصاً تلك المتعلقة بالحرب الجزائرية، عملاً بما أوصى به المؤرخ الفرنسي بنجامان ستورا، الذي اقترح إرسال إشارات تهدئة إلى الجزائر التي تطالب باريس منذ سنوات بفتح محفوظات الاستعمار الفرنسي وتسوية قضية المفقودين في حرب الاستقلال، وعددهم نحو ألفي شخص، فضلاً عن التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية.
ورحبت السلطات الجزائرية بقرارات ماكرون الأخيرة، حسبما ذكر موقع فرانس 24.
وقال بيانٌ صادرٌ عن قصر الإليزيه إنه اعتباراً من الأربعاء 10 مارس/آذار، ستعمل قاعدةٌ جديدة على "تقصير الوقت اللازم لإجراء رفع السرية بشكلٍ كبير"، من أجل "تشجيع احترام الحقيقة التاريخية".
لن يكون هناك رفع تلقائي للسرية عن الأرشيف الفرنسي رغم شكاوى العلماء
واتَّخَذَ ماكرون مؤخَّراً سلسلةً من الخطوات لكشف النقاش عن تاريخ فرنسا الاستعماري في الجزائر، وهي مأساةٌ ممتدة لا تزال تشكِّل فرنسا الحديثة. وكان التغيير الذي أُعلِنَ أمس الأول الثلاثاء يهدف إلى الردِّ على الشكاوى المتزايدة من المؤرِّخين والأرشيفيين بشأن التعليمات الحكومية الصارمة الخاصة بسرية الأرشيفات.
وبموجب القواعد الجديدة، سيُسمَح للسلطات بإلغاء السرية عن صناديق الأرشيفات دفعةً واحدة، مِمَّا يسرِّع عملية رفع السرية عن المستندات التي كانت تُكشَف صفحة تلو الأخرى.
ولكن هذا القرار، كما هو واضح، لا يعني رفع السرية عن كل الأرشيف الفرنسي دفعة واحدة، ولكن بدلاً من رفع السرية عن ورقة ورقة، ستصبح العملية أكثر اتساعاً، ولكنها ستظل انتقائية ويحتمل أن تقلل العراقيل ولكن لن تزيلها.
وبالفعل، قال بعض المؤرِّخين إن القواعد الجديدة بالكاد تتناول شكاواهم، حسبما نقلت عنهم صحيفة New York Times الأمريكية.
تجميل لإجراءات مخالفة للقانون
وقالت رافاييل برانش، مؤرِّخة الحرب في الجزائر: "إنها قواعد ستؤدِّي فقط إلى تسريع وتيرة إجراءٍ لا ينبغي أن يكون موجوداً من الأصل عندما يتعلق الأمر بالبحث في الأرشيف الفرنسي".
ومن الأمور المركزية في الشكاوى التي قدَّمها المؤرِّخون هو مطلب الحكومة عام 2011 بأن تُرفَع السرية رسمياً عن كلِّ وثيقة مُصنَّفة بأنها "سرية" أو "سرية للغاية" على حدة قبل أن تُعلَن على الملأ. ويتعارض هذا مع قانون عام 2008 الذي يدعو إلى الإطلاق الفوري للوثائق السرية بعد مرور 50 عاماً عليها.
وطُبِّقَت تعليمات عام 2011 على نحوٍ فضفاض، أو جرى تجاهلها، من جانب الأرشيفيين في السنوات الأخيرة. لكن الأمانة العامة للدفاع والأمن القومي، وهي وحدةٌ نافذةٌ داخل مكتب رئيس الوزراء، بدأت في تطبيق القواعد في العام الماضي، وبالتالي أدخلت مزيداً من القيود على الأرشيف الفرنسي، بالمخالفة للقانون (يفترض أنه في أي دولة أن القانون أولى من التعليمات).
حجب وثائق تم رفع السرية عنها من قبل
وأُعيدَ لاحقاً حجب عشرات الآلاف من الوثائق التي كانت من قبل متاحةً للعامة، مِمَّا أعاق البحث التاريخي وأعاد فرض السرية على المعلومات التي كُشِفَ عنها سابقاً.
وطعنت مجموعةٌ من المؤرِّخين والأرشيفيين، بمن في ذلك روبرت باكستون، المؤرِّخ الذي كشف تعاون السلطات الفرنسية مع ألمانيا النازية، على مطلب الحكومة عام 2011 أمام المحكمة العليا في فرنسا.
وقالت برانش، التي تقود المعركة القانونية، إن المجموعة ستواصل تحديها على الرغم من إعلان ماكرون، الثلاثاء.
وليس من الواضح ما الذي دفع الجهود لفرض سياسة رفع السرية العام الماضي. لكن رغبة ماكرون في رفع الستار عن الحرب في الجزائر أثارت بعض الانزعاج في الجيش، الذي يشرف على معظم الأرشيفات المتعلِّقة بالمسائل الدفاعية.
مواقف سخيفة.. "قرأت الوثيقة ثم حولوها إلى سرية"
وقال فابريس ريسيبوتي، مؤرِّخ الحرب الجزائرية، إن سياسة رفع السرية أدَّت إلى بعض المواقف السخيفة. واستشهد بزيارةٍ للأرشيف الوطني الفرنسي عام 2019، حين قرأ وثيقةً سرية من عام 1957، كُشِفَ عنها قبل عقدٍ من الزمن بموجب قانون 2008، توضِّح بالتفصيل استخدام التعذيب من قِبَلِ القوات الفرنسية خلال الحرب الجزائرية.
وفي الواقع، لم يكن التقرير سرياً، إذ كُشِفَ عنه لأول مرة في كتابٍ عام 1962، ثم استُشهِدَ به في العديد من الدراسات التاريخية في التسعينيات، حسب تقرير صحيفة New York Times.
لكن برونو ريكارد، رئيس الأرشيف الوطني، قال إن التقرير أصبح سرياً الآن مرةً أخرى، وفقاً لتعليمات الحكومة.
ماكرون يحاول إرضاء المؤرخين والعسكر معاً
وفي يناير/كانون الثاني، تلقَّى ماكرون تقريراً عن الحرب الجزائرية نصح بوضع حدٍّ لعملية رفع السرية بوتيرة صفحة تلو الأخرى، ونصح أيضاً بالعودة "في أقرب وقتٍ ممكن" إلى رفع السرية عن أيِّ وثيقةٍ سرية يزيد عمرها عن 50 عاماً، كما هو مطروحٌ بموجب قانون 2008.
ولكن من الواضح أن الرئاسة الفرنسية لم تكن حاسمة، وأنها تحاول تجنب مبدأ الرفع الكامل للسرية عن أي وثيقة مر عليها نصف قرن.
إذ قال قصر الإليزيه في بيانه إن الحكومة ستحاول التوفيق بين تعليمات عام 2011 وقانون 2008 من خلال تشريعٍ يُقَر بحلول الصيف المقبل.
وقال ريكارد في مقابلةٍ أُجرِيَت معه مؤخَّراً: "إنها مسألة تنسيق بين الأنظمة القانونية المختلفة"، بينما كان يقلِّب بيده صفحات ملفٍ أرشيفي (رُفِعَت عنه السرية) عن عالم الرياضيات موريس أودان الذي تعرَّضَ للتعذيب حتى الموت على يد الجيش الفرنسي في الجزائر عام 1957.
والوثائق الخاصة بأودان هي جزءٌ من حوالي 100 ملف أُطلِقَ في 2019 و2020، بعد أن دعا ماكرون إلى فتح جميع الأرشيفات التي تتناول الأشخاص الذين اختفوا خلال الحرب.
لكن المؤرِّخين يقولون إن العديد من الوثائق ظلَّت غير متوفِّرة بسبب تعليمات عام 2011.
والنتيجة أن بعض الكتب لا يمكن إعادة نشرها، والباحثون اضطروا لتغيير موضوعاتهم
وقالت برانش، التي كتبت على نطاقٍ واسعٍ عن استخدام القوات الفرنسية للتعذيب، إن العديد من كتبها لن تكون قابلةً للنشر اليوم، لأنها تعتمد على وثائق أُعيدَ حجبها.
وقالت إنها منذ أن بدأت التدريس في جامعة باريس نانتير عام 2019، اضطر حوالي 10 من طلابها إلى تغيير موضوعات بحثهم بسبب عدم توفُّر الإمكانية للوصول إلى الوثائق الأساسية في هذه الموضوعات.
وأضافت: "هناك بعض الدراسات التي لم يعد من الممكن تصوُّرها بسبب غياب الوثائق"، حسبما نقلت عنها صحيفة New York Times.
ولا تزال الحرب الجزائرية تمثِّل جرحاً غائراً في فرنسا يغذي المشاعر المريرة بين ملايين السكَّان الذين تربطهم صلاتٌ بالجزائر، من عائلاتٍ مهاجِرة إلى محاربين قدامى.
ولاقى اعتراف ماكرون الرسمي بأن "فرنسا عذَّبَت وقتلت" أحد كبار مقاتلي الاستقلال الجزائريين عام 1957، انتقاداتٍ شديدة من اليمين الفرنسي.
لكن بعد ما يقرب من 60 عاماً على نهاية الحرب، ربما لم تكن قضية الماضي الاستعماري لفرنسا مُلِحَّة بهذا القدر كما هي عليه الآن، إذ أدَّت إلى صحوةٍ عرقية من قِبَلِ المهاجرين في البلاد وأثارت نقاشاتٍ محتدمة حول نموذج الاندماج في البلاد.
وأطلق المؤرِّخ ريسيبوتي عام 2018 موقعاً على الإنترنت يسرد مئات الأسماء لأشخاصٍ فُقِدوا أثناء الحرب، بناءً على بحثٍ أرشيفي كان قادراً على إجرائه قبل تنفيذ التعليمات الجديدة.
وقال إنه تلقَّى في غضون أسابيع سيلاً من الشهادات من عائلاتٍ جزائرية، مِمَّا مكَّنه من توثيق أكثر من 300 حالة.