يختلف الصعود الأخير لعملة البيتكوين عن المرات السابقة، فهناك من يرى أن أموراً عدة طرأت أكسبت العملات الرقمية مصداقية تفوق بعض العملات العريقة، فهل تصبح العملات الرقمية بديلاً للعملات النقدية حقاً أم أنها قد تنتهي بكارثة مالية؟.
وتحقق أسعار العملات الرقمية، الأقل شهرة مثل الإيثر والنانو، ارتفاعاً ملحوظاً مستفيدة من الارتفاع المحموم في سعر البيتكوين، حسبما ورد في تقرير لشبكة The Canadian Broadcasting Corporation الكندية.
وقفز المعدل الجاري للبيتكوين من نحو 9000 دولار لكل بيتكوين قبل عام إلى ذروته عند نحو 58000 دولار في أواخر فبراير/شباط، وفقاً لموقع CoinDesk.
وأغدقت هذه الموجة العارمة الحائزين الصغار لها، بثروة رقمية، وجذبت كذلك لاعبين كباراً آخرين من وول ستريت على نحو لم يحدث من قبل.
العالم يتغير.. البيتكوين قد تصل إلى مليون دولار
وتصدرت عملة البيتكوين عناوين الصحف في جميع أنحاء العالم بعدما نجحت في الحصول على قبول المستثمرين من التيار السائد وارتفاع أسعارها برغم التحديات- وكذلك بعض الانخفاضات المفاجئة- حتى إنها جذبت انتباه المتشككين.
وتوقع صندوق كراكين الأمريكى ارتفاع سعر البيتكوين كأشهر وأغلى عملة ديجيتال لتصل قيمتها السوقية إلى مليون دولار فى العقد القادم، وأن تصبح عملة عالمية تحل محل العملات الكبرى التي تتعامل معها حالياً وهى الدولار الأمريكي واليورو والين الياباني والوون الكوري، بعد أن صعدت خلال فبراير/شباط الماضى بنسبة %64 لتتفوق على مؤشرات الذهب والسلع والأسهم والسندات.
وتحت هذا الهوس، هناك تغيير جذري محتمل في عالم المال يقول المراقبون إنه أصبح ممكناً بسبب الوباء العالمي. وما نقف على حافة هاويته ليس أقل من حرب من أجل مستقبل المال.
ومع ذلك، هناك الكثير من المتشككين، الذين يحذرون من أنَّ البيتكوين عبارة عن لعبة استثمار تنطوي على درجة عالية من المضاربة بدون قيمة حقيقية تدعمها، وأن المستثمرين يخاطرون بخسائر ساحقة.
ولكن تذكروا اضطراب 2018
لفهم ما حدث وما يعنيه كل ذلك، من المفيد استرجاع موجة البيتكوين الأخيرة، التي انتهت عندما شاهد المستثمرون ثروات هائلة وهي تُباد في انهيار وحشي.
ابتُكِرَت البيتكوين لتكون بديلاً للعملات الوطنية في خضم الأزمة المالية في عام 2009، وقد تمتعت بواحدة من أقوى ارتفاعاتها بعد عقد تقريباً، تحديداً في عام 2017. وارتفع معدل تداولها من أقل من 3000 دولار لكل عملة إلى ما يقرب من 20000 دولار خلال ستة أشهر.
وفي هذا الصدد، قال ألكس ماكدوغال، العضو المنتدب لإدارة المحافظ في صندوق الأصول الرقمية والبيتكوين 3iQ في تورنتو، إنَّ طفرة البيتكوين هذه لم تكن مدفوعة بالمؤسسات الكبيرة مثل البنوك وصناديق المعاشات التقاعدية، بل من المستثمرين الهواة والمنتظمين الذين يراهنون على التكنولوجيا الجديدة.
وأضاف ماكدوغال أنَّ الناس انجذبوا إلى بديل للنظام المصرفي القديم. فقد قدمت عملة البيتكوين والتكنولوجيا الخاصة بها طريقاً ملتفاً حول حراس بوابة عالم المال؛ مما سمح للأشخاص بتولي أعمالهم المصرفية الخاصة دون الحاجة لمؤسسة مالية كبيرة.
وتابع ماكدوغال: "شاهدنا تحركاً محتملاً نحو عالم مفتوح جذرياً، ويمكن معه تشكيل جيل جديد كامل من الثروة بين نوع مختلف تماماً من المشاركين في السوق".
ونوه: "شَهِدنا أيضاً عدداً كبيراً من عمليات الاحتيال والنصب، وبصراحة تامة مجموعة من الترهات التي ظهرت في الأسواق".
وفي نهاية المطاف، انهار سعر البيتكوين في عام 2018 بعد انخفاضه بأكثر من 80% خلال عام، وانهار معه أناس فقدوا مدخراتهم.
وبينما يظل المؤمنون القدامى بالعملة في المنافسة، فإن بعض الشخصيات البارزة في وول ستريت تدخل فجأة من المقاعد الجانبية. وهذا جزء مما يجعل موجة البيتكوين الأخيرة مختلفة تماماً.
"كوفيد-19" أعطى دفعة هائلة للبيتكوين
وقال إدوارد مويا، محلل السوق البارز في نيويورك لدى شركة تداول العملات Oanda Corp: "هناك طلب لا هوادة فيه على العملة. ما بدأنا نراه هو تقبل صغار المستثمرين وكبارهم من وول ستريت عالم العملات المشفرة. وحتى عندما نشهد في بعض الأيام عمليات بيع كبيرة، يظل هناك طلب قوي، وعالمي".
وأضاف مويا أنَّ الحجج المؤيدة لبديل للعملة التي تصدرها الحكومة لم تتغير كثيراً، لكن الظروف الحرجة قد تغيرت في العام الماضي؛ مما يجعل هذه الحجج أكثر إقناعاً.
وقال: "لولا وباء كوفيد، لم نكن لنخوض هذه المحادثة عن البيتكوين حالياً".
خاصة بعد المخاوف من حدوث كارثة للعملات التقليدية
وتضخ البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم تريليونات الدولارات في اقتصاداتها لمساعدتها على النجاة من الإغلاقات والقيود المختلفة التي تهدف إلى السيطرة على انتشار "كوفيد-19".
وفي هذا الصدد، قال جافين براون، المحاضر القديم والأستاذ المساعد في التكنولوجيا المالية في جامعة ليفربول، إنَّ مصدر القلق الرئيسي في كل هذا التحفيز هو أنه يهدد "بتعويم أو تهاوي قيمة العملات الوطنية، التي تراجعت قوتها الشرائية لأنه، بكل بساطة، هناك الكثير منها وبالتالي فهي تساوي أقل".
لكن على الجانب الآخر، يوضح براون أنَّ البيتكوين "لا يسيطر عليها بنك مركزي، وليس لديها أي موطن ولا هيكل حوكمة رسمي".
البنية التحتية الحيوية تسمح باستثمارات مليارية
النقد (العملات النقدية) كان في تراجع بالفعل منذ سنوات، بينما أدى الوباء إلى تسريع الطلب على المدفوعات الرقمية السريعة والمريحة، حسبما قال محللون في بنك الاستثمار J.P. Morgan في تقرير حديث.
وأضاف التقرير: "عزز الوباء الطلب على الخدمات الرقمية وعلى العملات البديلة أيضاً؛ مع تعزيز جولات متعددة من التحفيز والسياسة النقدية التيسيرية والمدخرات الزائدة للمعروض النقدي؛ مما أدى إلى تدفقات قياسية على أدوات استثمار البيتكوين".
وهناك تغيير مهم آخر يتمثل في أنَّ البنية التحتية للتخزين المطلوبة للاحتفاظ بمبالغ كبيرة من البيتكوين أصبحت متاحة الآن للمستثمرين المؤسسيين. وكشفت شركة Tesla في أوائل فبراير/شباط أنها اشترت بيتكوين بقيمة 1.5 مليار دولار أمريكي، وهو أمر كان "مستحيلاً قبل عامين فقط بسبب الافتقار إلى الضوابط المؤسسية والبنية التحتية"، حسبما قال براون.
ولفت المحاضر براون إلى أنَّ الاستثمار في العملات المشفرة لم يصبح أسهل على بعض المؤسسات الضخمة فحسب، بل بات مقبولاً عامةً أيضاً، في اختلاف تام عن فورة 2017.
مقامرة أقرب منها إلى استثمار حقيقي
هناك بعض العقول اللامعة في مجال التمويل التي لا تنجرف وراء كل هذا الحماس. من جانبه، قال ستيفن بولوز، المحافظ السابق لبنك كندا، في مقابلة، إنَّ البيتكوين هي لعبة استثمار قائمة على المضاربة أكثر من كونها عملة.
وأضاف بولوز، الذي يعمل حالياً مستشاراً خاصاً في شركة المحاماة Osler, Hoskin & Harcourt: "حتى المحترفون الذين يتعاملون في عملة البيتكوين غالباً ما يستخدمون كلمة رهان بدلاً من استثمار؛ مما يوحي لنا بأنها متقلبة بدرجة كافية تجعلها أقرب للمقامرة على عكس الاستثمار الفعلي؛ نظراً لأنَّ الأصل نفسه ليس له قيمة جوهرية".
واستطرد: "لكن هذا لا يعني أنها لا يمكن أن تصبح مجال استثمار رئيسياً".
وأشار بولوز إلى أنَّ بورصة تورنتو بكندا اتخذت خطوات مهمة في هذا الاتجاه من خلال إدراج صندوقين لتداول البيتكوين؛ مما يعني أنه يمكن للمستثمرين ضخ أموالهم في عملة البيتكوين بموجب نظام ضوابط مُحكم يضمن دعم الاستثمارات بالعملات المشفرة.
ويجادل بولوز بأنَّ البيتكوين لا يمكن أن تحل محل العملات الوطنية؛ وذلك يرجع من جانب إلى أن تنفيذ المعاملات الخاصة بها يستغرق وقتاً أطول بكثير. على سبيل المثال، إذا استخدم شخص ما عملة البيتكوين لشراء فنجان من القهوة، فمن المحتمل أن يكون المشروب بارداً بحلول الانتهاء من سداد الثمن. وفي حين أنَّ التكنولوجيا يمكن أن تتحسن نظرياً لتسديد المدفوعات أسرع، قال بولوز إنه لا توجد قيمة أساسية وراء العملات؛ مما يجعل السعر عرضة للتقلبات الشديدة.
وتساءل بولوز: "هل ستكون ممتناً إذا وافقت أمس على شراء سيارة ودفع ثمنها بعملة البيتكوين، ثم حين تذهب لتسلمها تجد أنها تُكلِفك اليوم 16% أعلى من سعر أمس؟ هذا ليس نوع التقلب الذي يمكنك تحمله في عملة تستخدمها لسداد المدفوعات".
رغم أنه لا يوجد شيء يمنعها من العودة للصفر ولكن لديها ميزة لا تعوض
ما أكثر التنبؤات التي أثيرت حول الاتجاه الذي تتحرك صوبه موجة البيتكوين الأخيرة! وبحسب ما قيل حذرت شركة الخدمات المالية UBS Wealth Management المستثمرين من أنه لا يوجد ما يمنع أسعار العملات المشفرة من التهاوي إلى الصفر. وقالت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين إنها قلقة بشأن خسائر المستثمرين المحتملة.
ويرجَّح براون، أكاديمي التكنولوجيا المالية من المملكة المتحدة، حدوث تصحيح أو انخفاض في سعر البيتكوين خلال الأسابيع والأشهر المقبلة، لكنه لا يتوقع تلاشي جاذبية العملة اللامركزية.
وقال إنَّ البيتكوين "تسمح للمستثمرين بنقل الأموال دون وسيط دفع. إنَّ فكرة إتمام العمل المصرفي بدون بنك.. هي نموذج لا يتعارض مع قرون من التنمية المالية فحسب، بل آلاف السنين. وهذا تحول مُزلزِل حقيقي".
ومع ذلك، لا يعتقد براون أنَّ البيتكوين ستهيمن يوماً ما على التمويل العالمي، متوقعاً أن يتطور هذا الوضع في النهاية إلى حرب عملات رقمية.
وهناك ثلاث مجموعات يعتقد براون أنها ستتنافس على الهيمنة: العملات اللامركزية، مثل البيتكوين؛ وعملات الشركات، مثل تلك التي أطلقها بنك الاستثمار J.P. Morgan؛ والعملة التي يقترحها فيسبوك؛ وأخيراً العملات الرقمية المستقبلية المدعومة من البنوك المركزية.
واختتم قائلاً: "هناك معركة ثلاثية من أجل مستقبل المال".