قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تسهيل الوصول إلى محتويات الأرشيف السري التي يزيد عمرها على 50 عاماً، خصوصاً تلك المتعلقة بحرب تحرير الجزائر، ماذا يعني بالتحديد؟
إذ أعلن بيان للرئاسة الفرنسية رفع السرية عن وثائق مشمولة بسرية الدفاع الوطني، ابتداء من الأربعاء 10 مارس/آذار 2021، وجاء القرار عملاً بالتوصيات التي خرج بها تقرير المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا المتعلق بذاكرة الاستعمار وحرب الاستقلال الجزائري الذي سلمه لماكرون في يناير/كانون الثاني الماضي.
وترجع قصة تقرير ستورا إلى الاتفاق الذي كان قد تم بين الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون ونظيره الفرنسي ماكرون في يوليو/تموز 2020 على تكليف خبيرين بتاريخ الاستعمار الفرنسي للجزائر للعمل على ملف الذاكرة بين البلدين، وفي السياق ذاته عين تبون المستشار لدى رئاسة الجمهورية عبدالمجيد شيخي كممثل للعمل على الملفات المتعلقة "بالذاكرة الوطنية واستعادة الأرشيف" مع الجانب الفرنسي، فيما كلف ماكرون ستورا.
رفع السرية عن أرشيف حرب استقلال الجزائر
بيان قصر الإليزية قال إن الرئيس ماكرون "اتخذ قرار السماح لدوائر المحفوظات بالمضي قدماً اعتباراً من الأربعاء ورفع السرية عن وثائق مشمولة بسرية الدفاع الوطني حتى ملفات العام 1970 ضمناً"، وأوضح البيان أن "من شأن هذا القرار تقصير مهل الانتظار المرتبطة بإجراءات رفع السرية فيما يتعلق خصوصاً بحرب الجزائر".
والمقصود هنا أن القرار لا يعني تلقائياً رفع السرية عن الأرشيف الكامل لحرب التحرير الجزائرية، فبموجب القانون الفرنسي يخضع أرشيف الجمهورية بالكامل، بما فيه تلك الملفات المتعلقة بالقضايا العسكرية والأمنية، لمادة تجعل ذلك الأرشيف متاحاً للعامة بعد مرور 50 عاماً باستثناء "المعلومات التي قد تعرض حياة بعض الناس للخطر"، وهذه الفقرة تخضع للتفسير من جانب الرئاسة والمؤسسات الأمنية في البلاد دون وجود نص واضح أو معايير محددة.
وبالإضافة إلى تلك المادة في القانون، توجد أيضاً عملية بيروقراطية ومعقدة من تقديم طلب رفع السرية عن مستندات أو ملفات من الأرشيف بعد مرور مدة نصف القرن القانونية، حتى يمكن تنفيذ رفع السرية بالفعل، وهي العملية التي غالباً ما منعت الباحثين والأكاديميين من الوصول لتلك المستندات بعد انقضاء المدة القانونية، بحسب تقرير لموقع فرانس24.
وهذه النقطة جاءت في بيان قصر الإليزية بشأن قرار ماكرون، بالقول إن القرار "يقلل عملية التأخير (في إتاحة المستندات للباحثين والأكاديميين) بصورة ملحوظة"، مشدداً على أن القرار بشأن الأرشيف "يظهر أننا نتقدم بسرعة كبيرة".
ماذا قالت الجزائر؟
السلطات الجزائرية من جانبها، رحبت بقرارات ماكرون الأخيرة لكنها تصفها بغير الكافية، إذ تطالب الجزائر منذ سنوات برفع السرية بالكامل عن أرشيف الاستعمار الفرنسي وتسوية قضية المفقودين في حرب الاستقلال الذين يزيد عددهم على 2200 بحسب الجزائر، فضلاً عن قضية التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية.
وجاء إعلان الرئاسة الفرنسية عن تسهيل رفع السرية عن الأرشيف الاستعماري بعد أسبوع على اعتراف ماكرون "باسم فرنسا" بأن الجيش الفرنسي "عذب واغتال" المناضل الجزائري علي بومنجل خلال حرب الجزائر في العام 1957.
وهذه "الخطوات" التي يتخذها ماكرون تأتي استجابة للتوصيات التي جاءت في تقرير ستورا ومنها نقل رفات المحامية المناهضة للاستعمار جيزيل حليمي، التي توفيت في 28 يوليو/تموز 2020، إلى البانثيون الذي يضم بقايا أبطال التاريخ الفرنسي وإقامة مراسم تكريم لها في الإنفاليد.
لكن الخطوة الأهم التي تطالب بها الجزائر هي بالتحديد ما رفض ماكرون القيام به، والمقصود هنا هو تقديم اعتذار واضح ومباشر عن جرائم الاستعمار الفرنسي للجزائر والذي يوصف بأنه الاستعمار الأبشع على الإطلاق.
وكان الإليزيه قد أصدر بياناً يوم 20 يناير/كانون الثاني الماضي قال فيه إن ستورا قدم تقريره حول الاستعمار وحرب الاستقلال وتضمنت توصيات التقرير خطوات رمزية لكنها لا تتضمن تقديم ماكرون اعتذاراً فرنسياً عن حرب الجزائر (حرب الاستقلال التي استمرت منذ 1954 وحتى 1962).
وصرحت مصادر في الإليزيه وقتها بأن التقرير تضمن توصيات "بعملية اعتراف"، ولكن "الندم (التوبة) وتقديم اعتذارات غير وارد"، وذلك استناداً إلى رأي أدلى به ستورا الذي ذكر أمثلة اعتذارات قدمتها اليابان إلى كوريا الجنوبية والصين عن الحرب العالمية الثانية ولم تسمح "بمصالحة" هذه الدول.
لكن محللين يرون أن إحجام ماكرون عن تقديم "الاعتذار" يرجع إلى أسباب أخرى تتعلق بما قد يترتب على الاعتذار من فتح الباب أمام طلب التعويضات من جانب الجزائر من جهة، ومن جهة أخرى ستطالب الدول الإفريقية الأخرى التي خضعت للاستعمار الفرنسي بالمعاملة بالمثل.
مواقف ماكرون المتناقضة
يوجه كثير من المحللين انتقادات للرئيس الفرنسي الحالي بسبب ما يصفونه بأنه إسراف في توظيف ملف الاستعمار الفرنسي للجزائر سياسياً بصورة أكبر بكثير من جميع السياسيين الفرنسيين الذين وظفوا نفس القضية الجدلية أيضاً لأسباب سياسية.
وربما يكون تناقض مواقف ماكرون سبباً في زيادة حدة تلك الانتقادات، إذ سيكون ماكرون أول رئيس فرنسي على الإطلاق يشارك في إحياء ذكرى مقتل عشرات الجزائريين على يد شرطة باريس، إلا أنه يرفض في الوقت ذاته الاعتذار عن مثل هذه الفظائع أو التحقيق فيها جدياً، وهو التناقض الذي يتميز به التقرير الرسمي عن فترة الحكم الاستعماري الفرنسي للجزائر الذي دام 132 عاماً وحرب التحرير الوحشية التي أنهته، بحسب تقرير لصحيفة The Independent البريطانية.
وفي هذا السياق يأتي الإعلان عن "رفع السرية عن الأرشيف السري"، فما حدث هو تخفيف للقيود المفروضة على ذلك الأرشيف الذي مرت عليه بالفعل أكثر من 50 عاماً ومن المفترض أن يكون متاحاً بالكامل من الأساس، وهو ما تطالب به الجزائر منذ سنوات.
الاستعمار الفرنسي للجزائر لا يزال من القضايا الخلافية الكبرى في فرنسا، ويتم توظيف القضية سياسياً منذ انتهاء حرب الاستقلال عام 1962 وحتى الآن.
ويرجع محللون التناقضات في مواقف ماكرون لرغبته في كسب الناخبين الفرنسيين ذوي الأصول الجزائرية، وبأنه في الوقت نفسه يغازل القوميين الفرنسيين الذين يمجدون إمبراطوريتهم القديمة، خصوصاً بعد أن قال صراحة إنه لن يعبر عن "ندم أو اعتذار" عن الجرائم التي ارتكبتها القوات الفرنسية في الجزائر، رغم أن هذا بالتحديد ما يبدو أن الجزائريين لن يتنازلوا عنه.
فقد سبق لوزير الخارجية الجزائري، صبري بوقادوم، أن أعلن خلال مؤتمر صحفي في يوليو/تموز الماضي، أنه طلب من نظيره الفرنسي جون إيفل لودريان "ألا تأخذ بلاده استعمارها للجزائر من الجانب السياسي أو الأيديولوجي، وأن تستند إلى ما كتبه المؤرخون". وقال بوقادوم: " قلت له (للودريان) لا تتناول مسألة الذاكرة من باب السياسة، اذهب واقرأ ما كتبه مؤرخون فرنسيون عن وحشية جنرالات الاستعمار الفرنسي في الجزائر، على غرار بيجو، وسانت آرنو في العقدين الأولين للاحتلال".
وبالتالي فإن كثيراً من المراقبين – في فرنسا والجزائر – يرون أن ملف الاستعمار الفرنسي للجزائر سيظل شوكة في خاصرة تطبيع العلاقات بين البلدين طالما لم تحدث عملية الاعتراف الكامل بجرائم الاستعمار والاعتذار عنها ومن ثم البدء في تفكيك الألغام الأخرى الكامنة في ملف الذاكرة.