تزعم القيادة الصينية أنها تحمل رؤية، خلاصتها "البحث عن أرضيةٍ مشتركة مع الاحتفاظ بالاختلافات"، وهي صيغة تشير إلى إدارة الصراع بدلاً من حلِّ النزاع، كما يقول موقع Modern Diplomacy الأوروبي، المتخصص في الشؤون السياسية والدبلوماسية. وضمن ذلك تمهّد بكين لنفسها الطريق "لمشاركةٍ أكبر في الجهود المبذولة لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط"، لكن يحدد باحثون غربيون هدف الصين على أنه "بناء آلية أمنية جماعية إقليمية شاملة ومشتركة، تقوم على الحكم الشامل واحتواء الاختلافات".
ضمنياً، عكست هذه الرؤية فهماً مفاده أن "الاستقرار في الشرق الأوسط لا يمكن تحقيقه إلا من خلال بنيةٍ أمنية شاملة ومتعدِّدة الأطراف يُعَاد بناؤها وتكون الصين جزءاً منها".
الصين وملء الفراغات وتقاسم النفوذ في الشرق الأوسط
يقول جيمس دورسي، الصحفي والباحث المتخصص في السياسات الدولية بجامعة نانيانج التقنية في سنغافورة: لا تسعى الصين، مثل روسيا، إلى الحلول محل الولايات المتحدة -بالتأكيد ليس من الناحية العسكرية- كقوةٍ مهيمنةٍ في الشرق الأوسط. في المقابل، فهي تضع الأسس تدريجياً للاستفادة من رغبة الولايات المتحدة في إعادة تنظيم التزاماتها الإقليمية من خلال استغلال الجهود الأمريكية، لتقاسم العبء على نطاقٍ أوسع مع شركائها وحلفائها.
وبحسب دورسي، تطرح الصين كذلك أن الولايات المتحدة أثبتت عدم قدرتها على إدارة النزاعات التي لا تُعَد ولا تُحصى في الشرق الأوسط، ما يجعل من مصلحة الصين المساعدة في توجيه المنطقة إلى مساحةٍ أهدأ مع الحفاظ على وجود الجيش الأمريكي باعتباره العمود الفقري لأيِّ بنيةٍ أمنية تُعاد هيكلتها، حسب تعبيره.
وتتضمَّن الرسالة "افتراضاً" بأنه يمكن للولايات المتحدة والصين التعاون والتنافس في آنٍ واحد؛ أي التعاون في الحفاظ على الأمن الإقليمي، والتنافس في الوقت ذاته في مجالاتٍ مثل التكنولوجيا.
الصين وتجنب الانغماس في صراعات الشرق الأوسط
قد تكون هذه رؤيةً مثالية لبكين، ومن المُرجَّح أن تكتشف الصين، مثل الولايات المتحدة، أن هذا التحوُّل قد يكون عسيراً، وأن تجنُّب الانغماس في صراعات الشرق الأوسط اللامتناهية أسهل في القول منه في الفعل.
وكان العديد من مُفكِّري السياسة الخارجية الصينيين قلقين للغاية بشأن المخاطر التي قد تأتي بنتائج عكسية لمشروعٍ صينيٍّ رفيع المستوى، يشبه مبادرة الحزام والطريق في الشرق الأوسط. رأى الاستراتيجيون الصينيون منطق الاستفادة من القوة الاقتصادية للبلاد لتحقيق منفعة سياسية، لكنهم يخشون الوقوع في شبكةٍ معقَّدة من الخصومات القومية والطائفية بالمنطقة.
يشير التاريخ في الواقع إلى أن تجنُّب مثل هذه النتيجة ليس بالمهمة السهلة، لقد كان الشرق الأوسط بؤرةً للعديد من الإمبراطوريات الخارجية على مرِّ القرون، ومن ضمن ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا وفرنسا.
ولطالما افتخرت الصين بقدرتها على الحفاظ على علاقاتٍ جيِّدة مع جميع جوانب الانقسامات، من خلال تجنُّب الانخراط في جوهر الانقسامات الوجودية في الشرق الأوسط في بعض الأحيان.
ومع ذلك، فإن بناء هيكل أمني مُستدام يتضمَّن آليات إدارة للصراعات، دون معالجة جوهر الانقسامات التي تسبِّب هذه الصراعات، على الأرجح سيكون مستحيلاً. والسؤال الحقيقي هو في أيِّ نقطةٍ تشعر الصين أن تكلفة عدم المشاركة تفوق تكلفة المشاركة؟
"المساحة التي يمكن أن تلعب فيها الصين بشكل كبير"
يقول دورسي، الشرق الأوسط ليس قريباً من النقطة التي يتمتَّع فيها بذلك النهج وتلك السياسات المطلوبة لبناء بنيةٍ أمنية شاملة. ومع ذلك، فإن التغييرات في السياسة الأمريكية التي تتبنَّاها الإدارة الأمريكية في ظلِّ بايدن تؤدِّي إلى حدوث تصدُّعاتٍ -وإن كانت صغيرة- في موقف العديد من دول الشرق الأوسط، ما يُعزِّز الرسائل الصينية.
سعت عدة أطراف متصارعة، بما فيها السعودية والإمارات وقطر وتركيا -ولكن ليس إيران أو إسرائيل- إلى خفض توتُّرات المنطقة، حتى لو لم تتغيَّر السياسات، على الأقل فيما يتعلَّق بقضايا مثل إيران والفلسطينيين. وقد يوفِّر الإحياء المُحتَمَل للاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 مفتاحاً للحل.
ليس هناك شكّ في أن أيَّ اتفاقٍ أمريكي-إيراني للقيام بذلك سيركِّز حصرياً على القضايا النووية، ولن يشمل نقاطاً أخرى على جدول الأعمال مثل الصواريخ الباليستية، أو الدعم الإيراني لجهاتٍ غير حكومية في أجزاءٍ من الشرق الأوسط. الجانب المشرق هو أن الصواريخ الباليستية ودعم جهاتٍ غير حكومية تُعَدُّ من القضايا التي يُحتَمَل أن تناقشها إيران، إذا ضُمِّنَت في مناقشةٍ حول الترتيبات الأمنية الإقليمية المُعاد هيكلتها.
يقول دروسي، إن هذه هي المساحة التي يمكن أن تقدِّم فيها الصين مساهمةً كبيرة. والحصول على موافقة جميع الأطراف على مناقشة ترتيبٍ أمني أوسع وأشمل، لا ينطوي فقط على التكيُّف مع المخاوف، بل أيضاً تهدئتها، بما في ذلك ما إذا كانت العلاقات الصينية مع إيران غير المُقيَّدة بالعقوبات الأمريكية والعزل الدولية ستوثِّر على دول الخليج، وإلى أيِّ درجة.