توجد ظاهرة عربية مثيرة للحيرة، إذ رغم كل الأزمات والحروب والفشل الاقتصادي والاستبداد، تعد معدلات الفقر المدقع في العالم العربي أقل من معظم مناطق العالم النامي الأخرى.
فقد عبرت جماهير المنطقة على مدار العقد الماضي عن غضب وإحباط متزايد جراء الضغوط الاقتصادية والهشاشة الاقتصادية المتواصلة.
ومن ناحيةٍ أخرى، تتوازى هذه المظالم الاقتصادية واسعة النطاق مع أقل مستويات الفقر المدقع مقارنة بالمناطق النامية، والتي يحدِّدها عدد الأشخاص الذي يعيشون على أقل من 1.90 دولار في اليوم، وهو خط الفقر الدولي الحالي، حسبما ورد في تقرير لموقع مؤسَّسة Brookings الأمريكية.
كيف يمكننا تفسير النجاح الواضح للمنطقة في تحقيق مثل هذه المعدَّلات المنخفضة من الفقر المدقع حتى في الوقت الذي تستمر فيه المظالم الاقتصادية على نطاقٍ واسع في الازدياد وتتعرَّض فيه الطبقات الوسطى لضغوطٍ اقتصادية متزايدة؟ هل يمكن أن يستمر النجاح النسبي في الحدِّ من الفقر المدقع في ظلِّ الانهيار الاقتصادي للدول المتأثِّرة بالصراع، مثل سوريا وليبيا واليمن، أو في مواجهة الحكومات الفاسدة والمتوحِّشة في العراق والجزائر ولبنان؟ كيف أثَّرَت الضغوط الاقتصادية المرتبطة بجائحة كوفيد-19 على الأقل ثراءً داخل المجتمعات العربية، أولئك الذين اضطروا بالضرورة إلى تطوير استراتيجيات فعَّالة للبقاء الاقتصادي؟
هذه أسئلةٌ حاسمة لفهم أسباب المرونة الاجتماعية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ولاستكشاف الآليات الاجتماعية القائمة على التضامن، التي تُدرَس جيِّداً، والتي ولَّدَت هذه المرونة وجعلتها مستدامةً في الماضي، ولكنها تتعرَّض الآن لضغطٍ متزايد.
الربيع العربي
بالنسبة لمعظم المراقبين، فإن أول هذه الميزات هي التي تحدِّد المشهد السياسي للمنطقة. يُنظَر إلى انتفاضات 2010 و2011، والموجة الأخيرة من الاحتجاجات التي اندلعت في 2019 في العراق ولبنان والجزائر، إلى جانب حلقاتٍ محدودة من الاضطرابات والتحرُّكات العمالية في مصر والأردن، على نحوٍ صائب كمؤشراتٍ قوية على الخوف والغضب والقلق الذي يشعر به ملايين من الناس في جميع أنحاء العالم العربي، أولئك الذين ضاقوا ذرعاً بالحكومات التي تمكِّن الفساد، وتفشل في توفير الأمن الاقتصادي، وترفض المساءلة، وتعامل المواطنين باحتقارٍ مهين.
قد يكون اندلاع الجائحة في مارس/آذار 2020 قد قَمَعَ مؤقتاً حركات الاحتجاج التي امتدَّت إلى الشوارع في عام 2019، لكن الغضب الذي حرَّكَها لا يزال حاضراً ملموساً في جميع أنحاء المنطقة، وتضخِّمه المصاعب الطاحنة التي صاحبت تفشي الجائحة.
معدلات الفقر المدقع في العالم العربي أقل من معظم مناطق العالم النامي الأخرى
ويُعَدُّ تدفُّق المظالم الجماهيرية منذ أواخر عام 2010، فضلاً عن الاستراتيجيات التي وضعتها الأنظمة لاحتواء وقمع الحراك الشعبي، بؤرة اهتمام مفهومة.
ومع ذلك، فإن السمة الثانية التي تميز اقتصاد المنطقة -المستويات المنخفضة بصورةٍ مفاجئة للفقر المدقع في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا- ليست أقل جدارة بالملاحظة، سواء لأنها لا تزال جانباً غير مدروس أو لا يحظى بالتقدير الكافي للاقتصادات السياسية في المنطقة، ولأن اتجاهات العقد الماضي، والتي تفاقمت الآن بسبب الجائحة، وضعت هذا الإنجاز في خطر.
أوضح البنك الدولي مدى انخفاض معدَّلات الفقر المدقع في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مقارنةً بالمناطق النامية الأخرى في الفترة الممتدة حتى بداية انتفاضات المنطقة العربية عام 2011. بدايةً من نقطة انطلاقٍ منخفضة، أقل من 10% من السكَّان الذين أُبلِغَ أنهم يعيشون في ظروفٍ من الفقر المدقع عام 1987، قامت بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا -على الأقل تلك التي تتوفَّر عنها بيانات- بخفض هذا المستوى إلى حوالي 3% بحلول عام 2013. وفي مناطق العالم الأخرى، مثل شرق آسيا والمحيط الهادئ وجنوب آسيا، كان الانخفاض في الفقر المدقع أسرع كثيراً، إذ اقترب فقط من المستويات التي كانت في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عام 2010 تقريباً. ورغم نجاحهم المذهل، استمروا في إظهار مستوياتٍ أعلى من الفقر المدقع من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهي منطقة تؤدِّي أداءً اقتصادياً أضعف بشكلٍ عام من حيث العديد من مؤشرات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
البعض يرى خطأ في المقياس أو أن الحكومات تكذب
يرى العديد من الاقتصاديين أن خط الفقر الدولي، البالغ 1.90 دولار في اليوم، منخفضاً للغاية بحيث لا يمكن التقاط الأعداد الأكبر من الأشخاص الذين يزدادون بشكلٍ كبير من خلال دخولهم الضئيلة التي بالكاد تتجاوز هذا المستوى.
وهم يرون خط الفقر البالغ 3.20 دولار في اليوم اليوم كمؤشرٍ أدق للفقر العام. وليس من المستغرب أن يزداد سكَّان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الذين يعيشون في فقر، عند تطبيق مستوى 3.20 دولار في اليوم. وعلى هذا المستوى، يكون أداء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أضعف من بعض مناطق العالم الأخرى، ومع ذلك لا يزال أقل من نصف مستويات الفقر في جنوب آسيا وأقل من ثلث مستويات الفقر في إفريقيا جنوب الصحراء.
على أيٍّ من المستويين، وعلى وجه الخصوص إذا قبلنا بخط الفقر الدولي الحالي، البالغ 1.90 دولار في اليوم باعتباره مناسباً، يبقى السؤال الأساسي: كيف يمكننا تفسير أداء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في تحقيق مستوياتٍ منخفضة من الفقر المدقع؟
هناك عددٌ من التفسيرات المُرشَّحة، بما في ذلك احتمال أن الحكومات تكذب بشأن بيانات الفقر (كما كُشِفَ في تونس بعد إطاحة نظام بن علي)، والمخاوف بشأن التقليل من حصر الفقراء.
الدعم الحكومي
تشمل الاحتمالات الأكثر منطقية الآثار الموروثة للمستويات المرتفعة للغاية من الإنفاق العام في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من عام 1965 إلى عام 1985، واستمرار الإعانات المرتفعة، ودور التحويلات في دعم دخل الأسرة أو تأثير برامج التحويلات النقدية مؤخَّراً، مثل برنامج التكافل والكرامة الذي يقدِّم الدعم لـ2.5 مليون أسرة من أفقر الأسر في مصر.
ومع ذلك، اللافت أن الانخفاض في معدلات الفقر المدقع كان ثابتاً، بينما تتباين التحويلات النقدية. وانخفض الإنفاق العام في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا منذ عام 1985 حتى مع انخفاض الفقر المدقع أيضاً، فيما تُعَدُّ برامج التحويلات النقدية ظاهرةً حديثة.
السبب المرجح لإنخفاض معدل الفقر المدقع في العالم العربي
دون تجاهل أهمية هذه العوامل، يُزعَم أنها تتجاهل ما قد يكون أهم الآليات التي توفِّر مقياساً للأمن الاقتصادي للأقل ثراءً في المنطقة: المؤسَّسات المحلية غير الرسمية القائمة على التضامن والتي ترتكز على العلاقات الشخصية والشبكات الاجتماعية التي تقدِّم للفقراء المدقعين (وأحياناً غير الفقراء) الوسائل للاستفادة من مصادر المساعدة المالية والدعم العيني، تلك الوسائل التي لن تكون متاحةً لولا ذلك.
تمثِّل هذه الآليات مصادر مهمة للصمود الاجتماعي والاقتصادي للأشخاص الأقل ثراءً في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وكما أشارت جوليا إليشار في كتابها "Markets of Dispossession – أسواق نزع الملكية"، فإن "الاقتصاد غير الرسمي… لديه شبكاته الاجتماعية الأساسية المبنية حول خزانات الثقة المجتمعية".
تنشأ الآليات القائمة على التضامن في مجموعاتٍ متنوِّعة من السياقات، من الأحياء إلى المصانع، إلى البيروقراطيات، إلى المشاريع الصغيرة، إلى الأحياء الحضرية والعائلات الممتدة. هذه ليست مؤسِّسات تمويلية صغيرة يجري تمويلها من الخارج وتتوافق مع الممارسات التي وضعها روَّاد التمويل الأصغر على مستوى العالم، ولم تُنشأ ولا يُحافَظ عليها من قِبَلِ المانحين الدوليين، بل إنها تعمل خارج نطاق الدولة بالكامل تقريباً. وهي متجذِّرة في الصلات الاجتماعية من أنواعٍ مختلفة ومبنيةً حولها، بما في ذلك مجموعة من السمات القائمة على الهوية -الحي والقرية والهويات القائمة على الدين- التي تخلق ظروف الثقة التي يمكن من خلالها لشبكات التضامن أن تتشكَّل وتحافظ على نفسها.
بشكلٍ جماعي، توفِّر هذه المؤسَّسات المحلية غير الرسمية أطراً للثقة والتضامن التي تشكِّل إلى حدٍّ ما الأسس الدقيقة للاقتصاد الأخلاقي. غالباً ما يفتقر الأفراد الذين ينتمون إلى هذه الشبكات القائمة على التضامن إلى وسائل تمويل النفقات التي تنشأ في لحظات الحاجة -حفلات الزفاف والحفلات وفرص العمل- وبالتالي طوَّروا معايير وممارسات مشتركة يفهمها أعضاء الشبكة ويقبلونها مقابل الوصول إلى الموارد، بما في ذلك الالتزام بتوفير الموارد بدورهم للآخرين في الشبكة.
ولعلَّ أهم هذه المؤسَّسات وأوسعها انتشاراً هي جمعيات الائتمان الدورية غير الرسمية القائمة على الأحياء. تُدار هذه المؤسَّسات عادةً من النساء، وتُجمَع المستحقات من الأعضاء، ولا تُفرَض أيُّ فائدة، وتقدِّم قروضاً صغيرة على أساس التناوب لأعضاء الجمعية. لم يكن هناك جردٌ شاملٌ لهذه الارتباطات بحسب ما هو معلوم. لكن التقديرات غير الرسمية تشير إلى أن عددها يصل إلى عشرات الآلاف وربما مئات الآلاف في الشرق الأوسط.
أدت الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي أعقبت احتجاجات 2010-2011 إلى زيادة طفيفة ولكنها ملحوظة في معدلات الفقر المدقع في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. لا شك أن الصراعات العنيفة التي أعقبت الاحتجاجات الجماهيرية في سوريا وليبيا واليمن ساهمت أيضاً في ارتفاع مستويات الفقر المدقع. أصبح هذا الاتجاه واضحاً بحلول عام 2015، تخلفت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عن أمريكا اللاتينية. إنها المنطقة الوحيدة في العالم التي شهدت زيادة في الفقر المدقع في العقد الماضي، قبل ظهور COVID-19. وعلينا أن نفترض أن الظروف قد تدهورت أكثر في العام الماضي، بسبب إغلاقات كورونا.
ولكن تظل المؤسسات الاجتماعية التضامنية غير الرسمية على الأرجح تلعب دوراً مخففاً لتأثير هذه الأزمات المتوالية في المنطقة.