عادت أزمة الثروة النفطية في العراق بين أربيل وبغداد إلى الواجهة مجدداً، فما قصة تلك الأزمة، وما علاقتها بالوضع المالي المتأزم في بلاد الرافدين؟
بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وسقوط نظام صدام حسين الذي كان يدير البلاد بالنظام المركزي، تم إقرار النظام الفيدرالي بموجب دستور 2005، ونتج عنه تمتع إقليم كردستان بمحافظاته الثلاث السليمانية وأربيل ودهوك.
لكن منذ إقرار النظام الفيدرالي تشهد العلاقة بين إقليم كردستان والحكومة المركزية في بغداد هبوطاً وصعوداً، بسبب الخلافات حول قضايا الموازنة العامة والنفط ونشر قوات البشمركة في بعض المناطق المتنازع عليها، ويمثل ملف إدارة الثروة النفطية بالتحديد أزمة قديمة، عادت مجدداً للمشهد السياسي والاقتصادي، فما تفاصيلها؟
أزمة إدارة حقول النفط في كردستان
يعود الخلاف حول ملف النفط بين بغداد وأربيل إلى عام 2007، عندما بدأ إقليم كردستان أولى خطوات تطوير حقول النفط في محافظاته الثلاث (أربيل، دهوك، السليمانية)، وسط معارضة الحكومة الاتحادية، إذ أبرمت حكومة الإقليم عشرات الاتفاقات مع شركات نفط أجنبية، بينها شركات عملاقة مثل إكسون موبيل، وشيفرون، وتوتال، وغاز بروم لتطوير حقول النفط والتنقيب عن أخرى.
ونجح الإقليم في ضخ 100 ألف برميل يومياً من الخام إلى الأسواق العالمية لأول مرة في مطلع يوليو/تموز 2009، عبر خط الأنابيب المملوك للحكومة الاتحادية والممتد عبر تركيا، وصولاً إلى ميناء جيهان التركي على البحر المتوسط.
وفي 2014 مدّ الإقليم خط أنابيب خاصاً به إلى الأراضي التركية، وصولاً إلى ميناء جيهان، وضخ ما بين 400 و450 ألف برميل يومياً إلى الأسواق العالمية بصورة منفردة.
جاءت زيادة الضخ في أعقاب تفاقم الخلافات مع بغداد بشأن مدفوعات حصة الإقليم من الموازنة المالية السنوية، وقامت بغداد بقطع حصة الإقليم بشكل كامل، مع الإبقاء على صرف جزء من رواتب موظفي القطاع العام.
وأدى انخفاض أسعار النفط العالمية ونفقات الحرب ضد تنظيم "داعش" بين عامي 2014 و2017، إلى بروز أزمة مالية حادة في إقليم كردستان. وشهدت الفترة التي تولى فيها فيها عادل عبدالمهدي رئاسة الحكومة في بغداد هدوءاً نسبياً في الخلاف مع أربيل، إذ اتفق الجانبان على أن تسلم حكومة كردستان 250 ألف برميل من النفط يومياً إلى حكومة بغداد، إضافة إلى نصف عائدات الإقليم من رسوم المعابر الحدودية، وفي المقابل تدفع بغداد رواتب جميع العاملين في إقليم كردستان، لكن أربيل لم تلتزم بالاتفاق بشكل كامل، ورغم ذلك لم تخرج الخلافات إلى العلن إلا بعد استقالة حكومة عبدالمهدي وتولي مصطفى الكاظمي المسؤولية.
ومع بلوغ الأزمة المالية في العراق ذروتها عام 2020، قامت الحكومة الاتحادية برئاسة الكاظمي بقطع رواتب موظفي الإقليم بشكل كامل، في أبريل/نيسان الماضي، وعجزت أربيل عن صرف رواتب موظفي القطاع العام ثلاثة أشهر على الأقل. وزاد حجم ديون الإقليم إلى نحو 28 مليار دولار، (وفق أرقام حكومة أربيل)، وهي في الغالب رواتب متأخرة ومستحقات شركات النفط التي تتولى تطوير الحقول في الإقليم.
ما سبب أزمة النفط تحديداً؟
نصّ الدستور العراقي الذي أَقرّ النظام الفيدرالي على مادتين بخصوص الثروة النفطية في البلاد، فالمادة 111 تنص على أن "النفط والغاز هما ملك كل الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات".
وتنص المادة 112 على: "أولاً، تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة، على أن توزع وارداتها بشكلٍ منصفٍ يتناسب مع التوزيع السكاني".
بينما ثانياً، تقوم الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة معاً برسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز، بما يحقق أعلى منفعة للشعب العراقي.
وطرحت عدة مسودات لمشروع قانون النفط والغاز في البلاد منذ 2007، إلا أن الخلافات العميقة بشأن بنودها بين بغداد وأربيل حالت دون تشريعها في البرلمان، ويرى المحلل السياسي العراقي عدنان السراج أن إدارة الثروة النفطية يجب أن تخضع للسلطات الاتحادية في بغداد، لحين سن تشريع قانون النفط والغاز الذي سيكفل توزيع الصلاحيات.
وقال السراج، وهو رئيس المركز العراقي للتنمية الإعلامية ومقره بغداد، لوكالة الأناضول التركية، إن الثروة النفطية في البلاد ستدار بشكل أفضل فيما لو تولت شركة واحدة، وهي "سومو" الحكومية (شركة تصدير النفط العراقية)، عمليات تصدير الخام لخارج البلاد.
ووفق المحلل السراج، فإن على الجانبين تقديم تنازلات للوصول إلى حل نهائي للأزمة، مبيناً أن استخدام هذه الورقة سياسياً سينعكس سلباً على البلاد، وخاصة سكان الإقليم، وتقول حكومة الإقليم إن انتاجها الحالي يبلغ 450 ألف برميل يومياً، تذهب كمية 25 ألف برميل يومياً للاستهلاك المحلي. ويبيع الإقليم نفطه بأسعار تفضيلية في الأسواق العالمية، نظراً لعدم رغبة الكثير من الشركات والبلدان لشرائه خشية تعرضها لملاحقتها قضائياً من بغداد.
النفط وموازنة العراق
تسببت أزمة إدارة الثروة النفطية بين بغداد وأربيل إلى عدم إقرار الموازنة العامة للبلاد، العام الماضي، ولا تزال موازنة عام 2019 هي المعتمدة، وإذا لم يتوصل الجانبان إلى مخرج للأزمة الحالية ربما لا يتم إقرار موازنة 2021 أيضاً.
ففي ديسمبر/كانون الأول الماضي، توصلت بغداد وأربيل إلى اتفاق بشأن الموازنة المالية ينص على تسليم الإقليم كمية 250 ألف برميل نفط يومياً، ونصف إيرادات المعابر الحدودية، وغيرها إلى الحكومة الاتحادية، مقابل حصة في الموازنة تبلغ 12.6%.
وجرى تضمين الاتفاق في مشروع الموازنة، إلا أن كتلاً سياسية في البرلمان ترفض الاتفاق، وتطالب الإقليم بتسليم كامل ملف إدارة النفط للحكومة الاتحادية مقابل ضمان حصة الإقليم في الموازنة. واعتبر رئيس حكومة إقليم كردستان مسرور بارزاني، في مؤتمر صحفي بتاريخ 10 فبراير/شباط الجاري، أن حكومته ترفض هذا الطلب وتعتبره "غير دستوري".
وقال القيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني (أحد حزبين حاكمين في الإقليم) عبدالسلام برواري، إن "تسليم ملف النفط إلى بغداد يعني منع الإقليم من إدارة الحقول النفطية من تنقيب واستخراج وبيع.. هذا مخالف للدستور العراقي".
وأضاف برواري، وهو نائب سابق في البرلمان العراقي، لوكالة الأناضول، أن المادة 15 من الدستور العراقي تنص على أن "كل ما لم ينص عليه الدستور من صلاحيات حصرية للحكومة الاتحادية، يقع ضمن صلاحيات الأقاليم".
وأشار إلى أن أربيل وافقت منذ البداية على تسليم عائدات بيع النفط، وليس ملف إدارة الثروة النفطية، منوها إلى أن "بغداد تدرك هذه الحقيقة، لذلك أبرمت اتفاقاً مع أربيل، وجرى تضمينه في مشروع الموازنة".
"أطراف شيعية وسنية (لم يسمها) في البرلمان، تضع شروطاً إضافية وتطالب بتسليم ملف النفط، لأنهم ينطلقون من منطلق الدولة المركزية ولا يعترفون بما ورد في الدستور".
وفي المقابل، قال النائب في البرلمان عن تحالف "الفتح" (48 مقعداً في البرلمان من أصل 329 مقعداً) مختار الموسوي إن "الدستور يعطي الحكومة الاتحادية حق السيطرة الكاملة على ملف إدارة الثروة النفطية في البلاد، حتى وإن كان النظام اتحادياً فيدرالياً".
وأضاف الموسوي، لوكالة الأناضول، أن على أربيل تسليم كامل النفط المستخرج من حقوله إلى بغداد، كي تضمن حصولها على الامتيازات المالية في مشروع قانون موازنة 2021، مشيراً إلى أن الإقليم مُصر على تسليم بغداد 250 ألف برميل فقط من النفط.
"المباحثات مستمرة لحسم هذا الملف، خصوصاً أن هذا الموضوع مرتبط بصورة رئيسة بالموازنة المالية للبلاد، ويعيق تمريرها في البرلمان".